خبر استحقاقات إيرانية: بين الثورة والدولة ..رضوان السيد

الساعة 09:25 ص|21 يونيو 2009

ـ الاتحاد الإماراتية 21/6/2009

لا يستطيع الثوريون أن يعيشوا الثورة في زمن الدولة. كما أنّ الدولة لا تستطيع الصمود في زمن الثورة. والواقع أنّ الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979/1978 ما كانت منتظَرةً، ليس في حدوثها؛ بل في توجهاتها. فقد دشّنت عصر الإسلام السياسي الدولتي بالمشرق كلّه، وهي الحقبة التي استمرت لثلاثين عاماً، وربما تستغرق نهاياتُها وتداعياتُها عقدين آخرين، وفي المشرق كُلّه أيضاً!

لقد كانت الإعدادات للثورة في إيران في سبعينيات القرن الماضي نتاج عملٍ دؤوبٍ في أوساط الشباب من جانب مختلف فئات اليسار. ثم تجمعت عواصف العامة والبازار في النصف الثاني من السبعينيات، وحسم الجمهور الأمر لصالح المؤسسة الدينية والزعامة الدينية اللتين أَظهرتا إمكانياتٍ قيادية ما عرفتها ولا قدرتْ عليها شراذمُ اليسار، الذين صاروا ضحايا في السنوات الأُولى لدولة الثورة الإسلامية.

تحرك الجمهور الإيراني يمثل في الداخل خروجاً من قبضة الشعبوية... وفي المنطقة انعتاقاً من الحروب... وفي العالَم مُضياً باتّجاه الديمقراطية.

لماذا نذكر هذا كُلَّه الآن؟ لأنّ إيران التي افتتحت القرن العشرين بثورةٍ دستورية، وأنهتْه بثورةٍ إسلامية، توشِكُ الآن على الدخول في القرن الحادي والعشرين بثورةٍ من أجل المشاركة الحُرّة والديمقراطية.

ما أمكن الحكم على الثورة الإسلامية ودولتها في ثمانينيات القرن الماضي لأنّ العراق شنَّ حرباً على إيران، كان فيها ممثّلا للنظام الدولي بشقّيه في الحرب الباردة. فقد أرعب الإسلام الثوري الطالع (= لا شرقية ولا غربية) الجميع، وهزَّت موجاتُهُ المتتالية والهائجة سائر أطراف العالم. ولذلك فقد كان هناك من قال إنّ هذا هو الطريقُ الثالثُ الذي تحدث عنه الإسلاميون منذ الستينيات. لكنّ التسعينيات التي شهدت إذلالا لصدام حسين بعد غزوه للكويت، شهدت أيضاً ظهور الأزمة في دولة الثورة الإسلامية. فإلى جانب الطابع الشعبوي المستمرّ، والطابع المسياني والكارزماتي -في نظام ولاية الفقيه وليس في القيادة أيضاً كما كان عليه الأمر أيام الخميني- عادت السلطة والسيطرة كالعادة أيام رئاسة رفسنجاني، وللجهتين اللتين وقعتا في أصل الثورة في أواخر السبعينيات: قمع الحريات الأساسية ومحدودية المشاركة، والبؤس الاقتصادي وعدم تحقُّق النمو. وما استطاع الرئيس خاتمي في سنواته الثماني، أن يفعل شيئاً للتغيير السياسي والاقتصادي الداخلي، ولا في العلاقات مع العالم. في الداخل قال الرجل بالديمقراطية الإسلامية، وفي الخارج قال بحوار الحضارات والصداقة مع العالم. لكنّ الولي الفقيه، ورجال الدين المحافظين ما تحمّلوا حتى عودة رفسنجاني، وحملوا إلى كرسيّ الرئاسة أحمدي نجاد. وهكذا استمرت الأزمة وتفاقمت على وقع صُراخ العامة بالموت للإمبريالية، والموت لأميركا، وطوال أربع سنوات. وهي السنوات التي انكتم فيها كلُّ صوتٍ مختلفٍ بالداخل. وفي عصر الثورة البترولية المتصاعدة دخلت السلطة الإيرانية في سباق الذئاب على الفرائس بالمنطقة إلى جانب الولايات المتحدة تارةً وفي مواجهة إسرائيل تارةً أُخرى. وكان ذلك عيشاً جديداً مصطَنَعاً للثورة في زمن الدولة، تماماً كما كان بوش يحاولُهُ في النظام الأميركي، وما حاوله شارون ويحاوله نتانياهو الآن في الكيان الصهيوني. وقد هزمت المؤسسات الأميركية تيار المحافظين الجدد بكارزماتي من نوعٍ جديدٍ، وها هو الجمهور الإيراني يتصدى لاستمرار سيطرة المحافظين الجدد في النظام الإسلامي بإيران.

تقوم الثورات بشكلٍ انفجاري لإحداث تغييرٍ جذريٍ، يُستَثْمرُ بعد ذلك في نظامٍ ودولةٍ يمثّلان مصالح الجمهور الثائر. وما حصل ذلك في إيران، كما لم يحصل بعد ثورة العام 1906. وترددات ومشكلات تلك الثورة أَفْضتْ إلى ظهور النظام الشاهنشاهي المستبدّ، والذي استمر رغم كل شيء حتى عام 1979. وما يحصل الآن في إيران ليس عودةً للنظام السابق على الثورة عام 1979، بل هو دخولٌ مستنيرٌ في المسار العالمي الجديد للديمقراطية والمشاركة والنهوض الاجتماعي والاقتصادي.

ولنلتفت قليلا إلى السياق العامّ، ثم إلى السياق الإقليمي والإسلامي. في السياق العامّ انتهى عهد بوش بمحافظيه الجدُد، وحروبه العدوانية والتوسيعية إلى فشلٍ ذريعٍ رَمْزُهُ الأزمةُ الماليةُ العالمية. لكنّ المبادرة لم تَضِعْ من يد الولايات المتحدة. بل افتتح الرئيس أوباما حقبةً أُخرى في نظام العالم للديمقراطية والمشاركة والتقدم الاقتصادي والاجتماعي؛ تبدأ الآن بتصفية آثار المرحلة السابقة المدمِّرة على أميركا وعلى العالم. وفي السياق الإقليمي تركت الولاياتُ المتحدة، الحروب التي اشعلتْها في العهد السابق دون وقودٍ جديد، وراحت تحاولُ إخمادَها (وإن كنتُ لستُ مقتنعاًَ ولا فاهماً لما يحدث في أفغانستان وباكستان!)، وهي تنصرفُ الآن لحلّ المشكلات التي تفاقمت بالمنطقة أيام إدارتي بوش. وكانت هناك ثلاث نقاط رئيسية أو ساخنة في أحاديث أوباما إلى العرب والمسلمين بتركيا ومصر والسعودية: الإلحاح على حلّ الدولتين في فلسطين، والإلحاح على الحوار مع إيران، والإلحاح على الصداقة والمشاركة مع المسلمين في المنطقة والعالم.

وإذا كان السياقان، العالمي والإقليمي، ملحوظين لدى المسلمين ولدى العالم؛ فالملحوظ أيضاً المسار التركي، والذي يمكن أن يتطور أيضاً إلى سياق. ففي الوقت الذي ينحسِرُ فيه الإسلامُ الأصولي دولةً وأنظمةً وحركات، يتفتح الإسلامُ التركي على أُفُقٍ للمصالحة بين الدولة العلمانية والجمهور المسلم. وبعكس العقود السالفة عندما كان النظام العلماني التركي يصطدم بالجمهور المُقْبل على الإسلام، على شكل انقلابٍ يقوده الجيش، ويجمّد التطور والدستور؛ فإنّ الذي يحدث بتركيا منذ عام 2003 أنّ الجمهور يمضي -مع بعض الصعوبة- من خلال النظام القائم، وبدون انقلاباتٍ وعنفٍ حتى الآن؛ باتّجاه تَلاقٍ بين الدولة وذاك الجمهور بأعرافه وإسلامه، إلى أفُقٍ واعدٍ ما اتّضحت كُلُّ ملامحه بعد.

إنّ الجمهور الإيراني الذي نزل إلى الشارع الآن يقع في هذه السياقات الثلاثة بل ويشارك في بلورة معالمها بإيران وبالمنطقة والعالَم. في إيران يمثّل الانطلاقُ الجماهيري خروجاً من قبضة الشعبوية المستمرة باسم الإسلام المسياني والطهوري. وفي المنطقة يمثّل الجمهور الإيراني في الشارع انعتاقاً من الحروب والحروب المضادة، ومن الدخول في المنازعات الطائفية والعرقية مع الجوار، تحت عناوين عريضة ووهمية. وفي العالَم أو في السياق العامّ، يمثّل النموذج الإيراني الجماهيري السلمي مُضياً باتّجاه المشاركة والديمقراطية والانضمام إلى العالم الساعي للانفتاح والتقدم والاستقرار.

فإذا كانت حركةُ الجمهور الإيراني في وجهٍ بارزٍ من وجوهها، تطلُّباً للمشاركة والحرية والتقدم والعلاقة الحسنة بالجوار والعالم؛ فإنها في الوجه الثاني تصحيح للمسار الذي أوقفته في العقد الأول لحدوث الثورة الحرب العراقية على إيران، وفي العقدين اللاحقين النخبة الدينية والأمنية التي جمَّدت التطور لصالح نظام يشبه أنظمة الحرب الباردة في العالم الثالث. أمّا في الوجه الثالث؛ فإنّ الحركة الإيرانية الزاخرة تمثّل خروجاً من "الإسلام السياسي" الجامد من جهة، والعنيف من جهةٍ أُخرى. وستكون لذلك كلّه آثاره في إيران، وفي المنطقة الإسلامية كلّها.

ما عادت الرموز تكفي، ولا الكارزماتيات، ولا شعارات مكافحة الإمبريالية وإسرائيل. فالشرعيةُ في إيران وأنحاء كثيرة من العالَم الإسلامي في أزمة. وما استطاع الإصلاحيون من داخل الأنظمة -باستثناء تركيا حتى الآن- أن يفعلوا الكثير من أجل التصحيح. ومن هنا تأتي أهمية تدخل الجمهور، وهو أمرٌ معروفٌ في تاريخ إيران الحديث. فقد حاول مصدّق في مطلع الخمسينيات تصحيح المسار من داخل النظام. وحاول خاتمي في أواخر التسعينيات ومطالع القرن الحادي والعشرين تصحيح المسار من الداخل أيضاً. وكما تدخل الجمهور عام 1906 من خارج النظام، وتدخل عام 1979 لتغيير النظام؛ كذلك يتدخل الجمهور الآن، ومن داخل النظام بالشكل ومن خارجه بالفعل، من أجل التغيير وليس من أجل التصحيح وحسْب.

هل يكونُ المسارُ طويلا؟ وهل تتخلله انتكاساتٌ وعنف؟ ذلك يتوقف على القيادة الدينية، وعلى قيادة الحرس الثوري والأجهزة الأمنية. أمّا المسارُ نفسُه فأُقدِّرُ أنه لا رجعة عنه، ولا عودةَ إلى أيام المراوحة السابقة.