خبر الانتخابات اللبنانية.. أسباب ودلالات ..بشير نافع

الساعة 09:23 ص|21 يونيو 2009

ـ مركز الجزيرة للدراسات 21/6/2009

انقشعت عاصفة الحملات الانتخابية اللبنانية عن نتائج غير متوقعة لطرفيها، فبعد أن كان حديث مسؤولي كتلتي 14 و8 مارس/آذار عن أن انتصار أي من المعسكرين لن يتجاوز مقعدين أو ثلاثة، نجحت كتلة الموالاة، التي يقودها تيار المستقبل، في الحصول على 71 مقعداً، بينما حصل تحالف حزب الله وأمل والجنرال عون على 57 من مقاعد البرلمان اللبناني الجديد.

هذا، بلا شك، انتصار قاطع وحاسم لكتلة 14 آذار، وهزيمة للمعارضة لم يتوقعها حتى أشد قادة 8 آذار تشاؤماً، وذلك بغض النظر عن الكيفية التي ستُشكَّل بها الحكومة اللبنانية الجديدة، والتي تخضع بدورها لمعادلة أخرى من التوزيع الطائفي لمقاعدها وتوزيع الحصص بالتراضي بين الأطراف الأساسية.

أسباب

ثمة أسباب محلية تعود إلى كل دائرة من الدوائر القليلة التي جرى عليها التنافس، (ذلك أن أغلب الدوائر حسم أصلاً قبل يوم الاقتراع)، أدت إلى هذه النتيجة، إلا أن هناك أسبابا أخرى، وهي أكثر أهمية، وتتعلق بالمشهد اللبناني والإقليمي العام ومنها الآتي:

اتسمت تصريحات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وحليفه الجنرال ميشال عون، زعيم التيار الوطني الحر، خلال الشهور القليلة السابقة على الانتخابات بلغة استفزازية، خلت أحياناً من الحساسية، مثل الإشادة بأحداث مايو/ أيار 2008، أو تبني مقولة التحالف المسيحي – الشيعي في لبنان لمواجهة البحر السني المحيط. فإن كان قطاع من ناخبي المعسكرين قد حدد موقفه مبكراً، فإن الكتلة المترددة اتجهت في أغلبها في النهاية إلى التصويت لتحالف 14 آذار.

شهد لبنان خلال السنوات القليلة الماضية عودة جزء من الفائض المالي العربي إلى نظامه البنكي، مما وفر له رخاءاً نسبياً، وجعله في مأمن من الأزمة الاقتصادية/ المالية العالمية. وفي ظل التصريحات الأميركية والأوروبية المناهضة لتحالف المعارضة، تولد خوف لبناني واسع من أن ينجم عن فوز المعارضة تراجع ملموس في أوضاع لبنان الاقتصادية والمالية، إما لهروب رؤوس الأموال المودعة في نظامه البنكي، أو لتعرضه لمقاطعة اقتصادية غربية.

أدت المتغيرات السياسية الهائلة في العراق ما بعد الاحتلال، والتوتر الطائفي في الخليج، وتزايد النفوذ الإيراني السياسي الإقليمي، إضافة إلى سلسلة الأحداث التي عاشها لبنان منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، إلى تعاظم غير مسبوق في شعور السنة العرب بالتهديد. وكان هذا الشعور حاداً على وجه الخصوص في لبنان، نظراً لبنيته الطائفية وقابلية خطابه السياسي لأن يصبح خطاباً طائفياً، ولم يكن غريباً بالتالي أن يتصرف سنة لبنان كطائفة (وهو تصرف طارئ على تقاليدهم السياسية، على أية حال)، وأن يتسم سلوكهم الانتخابي بالتصويت ككتلة طائفية متماسكة، تماماً كما هو سلوك اللبنانيين الشيعة في العقدين الأخيرين. وهذا ما ظهر في الدوائر مختلطة الطوائف، التي شهدت منافسة حادة، مثل منطقتي البقاع وطرابلس حيث صوت السنة ككتلة واحدة لصالح الموالاة، وفشلت المعارضة في تحقيق أي اختراق ملموس.

ساهم إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، والذي كانت مطلباً مارونياً أصلاً، في توكيد الحدود الطائفية بين الناخبين، ومن ثم في تضخيم البعد الطائفي للعملية الانتخابية. لم يكرس هذا التقسيم في بعض المناطق الحدود الطائفية بين الدوائر فحسب، بل كرس الولاءات العشائرية والأسرية التقليدية. ويمكن القول أن السياسي في انتخابات 2009 قد تراجع إلى حد كبير لصالح الطائفي والولاءات التقليدية الصغيرة.

لعب المال السياسي دوراً كبيراً في الانتخابات من قبل المعسكرين؛ ولكن حجم الأموال التي وظفتها كتلة الموالاة كان أضخم نسبياً، ليس فقط لأن قادتها أثرياء أصلاً، ولا لأنها تلقت دعماً كبيراً من دول عربية مساندة، ولكن أيضاً لأن القطاع البنكي اللبناني رمى بثقله إلى جانبها. وقد استخدمت هذه الأموال على نطاق واسع لجلب المؤيدين، كما استخدمت لإعادة ما يزيد عن 36 ألف لبناني من المهاجر المختلفة للإدلاء بأصواتهم في دوائرهم.

دلالات

يعتبر لبنان في حجمه ودوره بلداً عربياً صغيراً ومحدود التأثير، ولكنه أصبح منذ عقود مرآة للتوازنات الإقليمية والعربية؛ وهذا ما يعطيه أهمية خاصة، ويجعل تحولاته السياسية محل اهتمام إقليمي ودولي بارز.

وقد اتفقت تصريحات قادة المعسكرين المتنافسين على أن انتخابات 2009 البرلمانية كانت انتخابات بالغة الأهمية (بل استخدم بعضهم كلمة مصيرية)، لا تتعلق بمصير التدافع اللبناني الداخلي وحسب، بل باتجاه التوجهات السياسية في الإقليم ككل. ويمكن تلخيص أهم الدلالات التي تشير إليها نتائج الانتخابات في الآتي:

1ـ على مستوى التحول الديمقراطي في المنطقة، يجب أن تكون الانتخابات اللبنانية مثالاً لما يجب على شعوب الإقليم تجنبه. في حقيقتها، ما تزال الديمقراطية اللبنانية ادعاءاً أكثر منها حقيقة؛ فهي ديمقراطية انقسامية وطائفية، تغلب عليها الزعامات السياسية المتوارثة، ويلعب فيها المال السياسي دوراً بالغ التأثير.

2ـ في ضوء احتفاظ الجنرال عون بكتلة نيابية قريبة من حجم كتلته في البرلمان السابق، تكرس الانقسام المسيحي. كما أن نتائج الانتخابات أكدت ارتباط السياسة اللبنانية بالتدافع السياسي/ الطائفي بين السنة والشيعة.

3ـ تعتبر نتائج الانتخابات اللبنانية نصراً ليس لكتلة 14 آذار وحسب، بل أيضاً لما يسمى معسكر الاعتدال العربي، سيما مصر والسعودية، الذي جعل من مواجهة نفوذ إيران الإقليمي وشعبية حزب الله هدفاً رئيساً له. وهي، إضافة إلى ذلك، أول نصر سياسي لإدارة أوباما في المشرق العربي؛ بعد أن كان الدعم الأميركي لقوة سياسية ما في المنطقة مدعاة لتراجعها السياسي.

4ـ لا تنبغي المبالغة في دلالات الترحيب الإسرائيلي بنتائج الانتخابات؛ فكتلة 14 آذار ليست امتداداً للسياسة الإسرائيلية، وإن اتفقت بعض أهدافها موضوعياً مع أهداف إسرائيلية، سيما ما يتعلق بوضع حزب الله، وإن كان من مكسب حققته الدولة العبرية في هذه الانتخابات، فهو بالتأكيد ارتفاع وتيرة التدافع الطائفي السني – الشيعي. وللمحافظة على دعم اللبنانيين السنة، سيكون على الحريري أن يلتزم موقفاً واضحاً من السياسة الإسرائيلية، ويؤكد على دعمه لنضال الشعب الفلسطيني، وحركة حماس.

5ـ تشير التصريحات الحذرة والهادئة لقادة المعسكرين المتنافسين بعد إعلان النتائج إلى رغبة لبنانية في تجنب تصعيد التوتر السياسي الداخلي، والبحث عن طرق ووسائل لتحقيق مستوى من التوافق وحماية البلاد من الانفجار، وذلك في مرحلة انتقالية بالغة الحساسية على المستويين الإقليمي والدولي. ولعل كتلة 14 آذار تعلمت من تجربة ما بعد الانسحاب السوري، عندما لم تر حجم المكسب الكبير الذي حققته والمتمثل في الانسحاب السوري العسكري، فصعدت من مطالبها داخل لبنان ومن نشاطاتها ضد سورية، مما دفع البلاد إلى حافة الهاوية. وإن كان في تصريحات ما بعد إعلان النتائج من مؤشر، فالمرجح أن يتجه لبنان إلى تشكيل حكومة توافقية أخرى، وإن بشروط مختلفة عن حكومات البرلمان السابق؛ وأن تتجنب كتلة 14 آذار فتح ملف سلاح حزب الله المتفجر على نحو استفزازي، وأن تترك هذا الملف لما سينجم عن المباحثات الإيرانية – الأميركية، وعن تطورات العلاقات العربية – العربية، والعربية - الإيرانية.

6ـ انتصار كتلة 14 آذار الانتخابي يعني في الحقيقة أن طبيعة الحكم اللبناني لم تتغير، فمنذ استقلاله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حكم لبنان من قبل قوى سياسية أقرب إلى معسكر الاعتدال العربي والمعسكر الغربي، في الوقت الذي كانت قواه المعارضة الأكثر تعبيراً عن تيار التغيير العربي وعن التوجه العربي المعارض للنفوذ الغربي. ولكن مهما بلغت قوى المعارضة اللبنانية من شعبية وتأثير، فإن نصيبها من الحكم لم يتجاوز دور الشريك الأصغر، بغض النظر عن التوجه الأيديولوجي لهذه القوى وعن الكتلة الطائفية التي ترتكز إليها. وربما سيؤدي إعادة إنتاج الدورة الانتخابية الأخيرة لهذه الحقيقة إلى إعادة تشكيل خارطة التحالفات السياسية خلال السنوات القليلة القادمة، لا وجود جنبلاط في كتلة 14 آذار، ولا عون في كتلة 8 آذار يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، لاسيما إن انحسر التوتر الطائفي وأعيد بناء التحالفات الإقليمية، وأعادت قوتي الأكثرية والمعارضة الرئيسة (المستقبل وحزب الله) حساباتهما.

7ـ تعتبر نتائج الانتخابات اللبنانية نكسة مؤقتة للسياسة السورية، وقد تؤدي، من ناحية، إلى ارتفاع مستوى المطالب السعودية من دمشق، ومن ناحية أخرى، إلى مزيد من الضغوط الأميركية على دمشق، قبل تطبيع العلاقات الأميركية – السورية. ولكن من الضروري عدم المبالغة في حجم الانتكاسة، سيما أن مؤشرات الانفتاح الغربي على حزب الله وحماس وإيران (حلفاء سورية) بدأت في الظهور منذ ما قبل الانتخابات اللبنانية. إضافة إلى ذلك، فإن إدارة أوباما تحتاج لالتحاق سورية بعملية السلام لتحقيق تقدم ملموس في سياسة الإدارة الشرق أوسطية.

8ـ لعبت متغيرات سنية داخلية دوراً ما في تصعيد التوتر الطائفي – السياسي على امتداد العالم الإسلامي؛ ولكن المسؤولية الأكبر في الاستقطاب الطائفي تقع على كاهل الصعود المثير للتشيع السياسي. ولعل نتائج الانتخابات اللبنانية، إلى جانب التشظي السياسي العراقي وعجز القوى السياسية العراقية عن وضع أسس راسخة للدولة، تدفع باتجاه بدء انحسار التشيع السياسي، وتعيد التدافعات السياسة العربية إلى إطارها الوطني.