خبر من عبيد إلى أمراء .. دراسة فى صعود المستضعفين فى صدر الإسلام.. د. محمد مورو

الساعة 01:08 م|19 يونيو 2009

من عبيد إلى أمراء .. دراسة فى صعود المستضعفين فى صدر الإسلام..

 د. محمد مورو

تشكل تجربة صعود المستضعفين فى صدر الاسلام ، نموذجاً فذاً لعملية ثورية كبرى وحراك اجتماعى لا نظير له ، منغم برنين صاخب ولكنه عذب رغم انه يبدو للوهلة الأولى صامتاً ، وربما كان هذا الصمت الملحوظ علامة على عبقرية الممارسة ، التى حولت هذه التجربة الفذة الى شىء طبيعى حتى لا تكاد تحسه أو تسمعه حتى كان الأمر لا يبدو ملفتاً للنظر من شدة كونه بديهية لا تلفت نظر الرجال الذين مارسوه 0

 

ولاشك أن تجربة الاسلام الثرية فى هذا الصدد على مستوى النص والتطبيق يمكن أن تصبح جذراً ثقافياً ومعرفياً لكل ثورة تحريرية ترفع راية المستضعفين فى مواجهة مؤسسات الاستكبار 0

 

أى تجربة عظيمة تلك التى ترفع سلمان الفارسى الذى كان عبداً عند أحد يهود المدينة فيصبح أميراً على الكوفة – أهم إمارات الدولة الاسلامية فى ذلك الوقت من خلافة عمر بن الخطاب0

 

هذا العبد الذى يتسابق المهاجرون والأنصار بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لينسبه كل الى نفسه ، ففى يوم الخندق وقف الأنصار يقولون سلمان منا ووقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا ، فيسمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول " سلمان منا آل البيت " 0

 

والذى يصبح للمسلمين معلماً ومرشداً وحكيماً فيقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم " لقد أشبع سلمان علماً " 0

 

ويلقبه على بن أبى طالب كرم الله وجهه بلقمان الحكيم ، فقد سئل على عنه بعد موته فقال "ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت من لكم بمثل لقمان الحكيم " 0 وهكذا فعلى يفخر بانتساب سلمان إلى أهل البيت النبوى ، بل ويباهى به سائليه 0

 

إنه سلمان الفارسى ، الذى كان ذات يوم عبداً ، فأصبح بالإسلام رجلاً يخرج الخليفة بنفسه لاستقباله فقد جاء سلمان الى المدينة زائراً فى خلاقة عمر بن عبد الخطاب فجمع عمر أصحابه وقال لهم : هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان 00

 

******

 

وأى تجربة تصنع من عبد الله بن مسعود ، ذلك العبد الذى يرعى الغنم فى مكة لعقبة بن أبى معيط ، ذلك الرجل الضعيف الجسم النحيف ، القصير القامة ، الفقير الأجير 00 تصنع منه هذا الرجل الذى يكون أول من يجرؤ على إسماع قريش بكل وجهائها وزعمائها آيات القرآن علناً وبصوت مرتفع 00 فيتفوق بذلك على كل المسلمين الذين أسلموا فى تلك الفترة من حياة الدعوة الاسلامية فى بواكيرها ، والذين كان منهم القوى والشريف والغنى 00 هذا الرجل – عبد الله بن مسعود – يصبح يوماً وزيراً فى الكوفة مع أميرها فى ذلك الوقت سلمان الفارسى فى خلافة عمر بن الخطاب 0

 

ويصبح بعد الاسلام من أفقه المسلمين وأكثرهم علماً ، بل وأحسنهم تلاوة للقرآن الكريم ، فيتعلم منه كبار الصحابة كيف يتلون القرآن ، ويتعلمون منه أيضاً فقه الدين ويصبح مرجعاً لهم فى أمور الدين 0

 

يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم " من أحب أن يقرأ القرآن 0000 كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " أى عبد الله بن مسعود ، والذى يطيب للرسول صلى الله عليه وسلم ان يستمع الى القرآن من فمه 00 وهو الذى عليه انزل ، ويقول عمر بن الخطاب "لقد ملىء فقها" 0 ويقول عنه أبو موسى الأشعرى " لا تسألونا عن شىء مادام هذا الحبر فيكم " 0

 

اجتمع نفر من الصحابة يوماً عند على بن أبى طالب كرم الله وجهه فقالوا له "يا أمير المؤمنين ، ما رأينا رجلاً كان أحسن خُلقاً ولا أرفق تعليماً ولا أحسن مجالسة ، ولا أشد ورعاً من عبد الله بن مسعود " ، فيقول على " نشدتكم الله أهو صدق من قلوبكم قالوا نعم " قال " اللهم إنى أشهدك ، اللهم إنى أقول فيه مثلما قالوا وأفضل " " لقد قرأ القرآن فأحل حلاله ، وحرم حرامه، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة " 0

 

وهو دون غيره من المسلمين يلقب بصاحب السواد أى موضع سر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحب نجواه 0

 

ثم هو الذى يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم " لو كنت مؤتمراً أحداً دون شورى المسلمين ، لأمرت ابن أم عبد " ، بل ويجعله إماماً للهدى لكل الصحابة فيقول عنه "تمسكوا بعهد ابن أم عبد 00 " أى تجربة تلك التى صنعت من هذا العبد كل هذا الذى ذكرناه بل ويعرف الجميع له الفضل ، ويعرف أيضاً عن نفسه – بلا عقد أو حساسيات ، فيقول هو عن نفسه " والله ما نزل من القرآن شىء ، الا وأنا أعلم فى أى شىء نزل ، وما أحد أعلم بكتاب الله منى ، ولو أعلم أحداً تمتطى إليه الإبل أعلم منى بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم " 0

 

من عبد إلى وزير 00

 

من عبد الى معلم ومدرسة فى الفقه ومنارة هداية للمسلمين 0

 

من عبد الى صاحب السواد 0

 

من عبد الى أعلم الناس بكتاب الله قراءة وتفسيراً وأسباب نزول ، فقيه فى الدين عالم بالسنة0 من عبد الى إمام لأجيال بعد أجيال الى أن يرث الله الأرض ومن عليها 00

 

******

 

أى تجربة تلك التى صنعت من سالم مولى أبى حذيفة 00 الذى لا يعرف أحد اسم أبيه ولا هو نفسه صنعت منه إماماً للمسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة طوال صلاتهم فى مسجد قباء وفيهم من فيهم من الأشراف والأغنياء 00 هذا الذى كان عبداً ذات يوم عند أبى حذيفة فيسلما معاً ويعتقه أبو حذيفة ثم يزوجه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة 0

 

بل ويتحول الى مصدر فخر للرسول صلى الله عليه وسلم ، وفخر بالتالى لكل مسلم الى يوم القيامة أن يكون من نفس الأمة التى منها سالم مولى أبى حذيفة الذى لا يعرف أحداً اسم أبيه فيقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذى جعل فى أمتى مثلك " 0

 

هذا الذى كان عبداً يوماً فى مكة ، وكان فيها خالد بن الوليد سيداً ابن سيد هو نفسه الذى يقف أمامه خالد بن الوليد متهماً يسمع قائمة أخطائه من سالم أثناء الخروج معه فى سرية توجهت الى بعض القبائل العربية بالقرب من مكة بعد الفتح وارتكب خالد فيها بعض الأخطاء ، وكان قائداً لها فإذا بسالم يواجهه بتلك الأخطاء دون خجل أو حساسية 0

 

******

 

أى تجربة فريدة تلك التى صنعت من صهيب الرومى ، الذى كان عبداً فى مكة ذات يوم، هو نفسه الذى يوصى عمر بن الخطاب قبيل موته بعد طعنه بالخنجر على يد أبى لؤلؤة المجوسى، يوصى بأن يكون صهيباً هو من يؤم المسلمين فى الصلاة حتى يتم إختيار خليفة جديد ، ويظل صهيب يفعل ذلك ثلاثة أيام حتى تم إختيار عثمان بن عفان خليفة للمسلمين 0 بل ويوصى عمر بأن يكون صهيب مراقباً لأعمال الستة الذين أوكل إليهم أمر اختيار الخليفة من بينهم ، وبينهم أكبر زعماء المسلمين فى ذلك الوقت 0

 

وهو الذى ينزل فيه الآية الكريمة " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله ، والله رؤوف بالعباد " فيخلد ذكره إلى الأبد ، وهو الذى يباهى المسلمين بأعماله دون خجل أو حساسية قائلاً " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً قط ، الا كنت حاضره ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها ، ولا غزا غزوة قط أول الزمان أو آخره ، الا كنت فيها عن يمينه أو شماله ، وما خاف المسلمون – أمامهم قط الا كنت أمامهم ولا خافوا وراءهم إلا كنت وراءهم ، وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينى وبين العدو أبداً حتى لقى ربه " 0

 

******

 

وأى تجربة متميزة تلك التى تجعل بلالاً العبد الحبشى الأسود هو الذى يؤذن للصلاة ، وهو شرف كان يتمناه كل الصحافة الكبار والصغار ، بل وهو من يمسك به الرسول من ناحية ، وبأسامة بن زيد بن حارثة من ناحية أخرى ويدخل بهما الكعبة يوم فتح مكة ، وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤكد تجربة الاسلام العظيمة فى صعود المستضعفين ، لأنه يوم النصر الأكبر لا يدخل الكعبة وعن يمينه عمر بن الخطاب أو أبو بكر الصديق ، أو خالد بن الوليد أو عثمان بن عفان أو عبد الرحمن بن عوف أو حتى العباس بن عبد المطلب بل يمسك ببلال العبد الحبشى الأسود الذى كان يوماً عبداً عند أمية بن خلف من ناحية ، ومن الناحية الاخرى أسامة بن زيد بن حارثة أى ابن عبد آخر كان ذات يوم عبداً عند السيدة خديجة فوهبته لمحمد فأعتقه 0

 

ولعل وجهاء مكة – وكل أهلها – قد فهموا هذا المعنى نفسه عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالاً بالصعود فوق أعلى مكان فى الكعبة وأن يؤذن ، فوقف ثلاثة من زعمائها هم أبو سفيان بن حرب – وكان قد أسلم منذ ساعات – وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وكانا لم يسلما بعد يتحدثون فيقول عتاب بن أسيد وعينه على بلال وهو يرفع الآذان ويعلن انتصار الحق 00 لقد أكرم الله أسيدا الا يكون حضرهذا فيسمع منه ما يغيظه 00 وهكذا من عبد فى مكة الى صاحب اعلان نهاية الكفر فيها وشروق فجر جديد 00 ويا له من شرف عظيم 0 بلال بن رباح من عبد فى مكة الى رجل يفخر به كل مسلم بل وأشهر من عُرف بين أجيال المسلمين ، بل وتقوم باسمه حركات ومؤسسات ، بل ويندر أن تقابل مسلماً عربياً أو أعجمياً ، أفريقى أو آسيوى ، أوروبى أو أمريكى 00 ولا يعرف بلال 00 سواء كان هذا المسلم رجلاً كبيراً أو طفلاً صغيراً ، من الخواص أو من العوام 0

 

******

 

هذه التجربة المنقطعة النظير – هى التى تصنع بن زيد بن حارثة هذا العبد لدى السيدة خديجة فى مكة التى تهديه لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فيحرره ويتبناه الى أن ينزل قرآناً ينهى عادة التبنى ، هذا العبد ينزل فيه قرآن من فوق سبع سموات 00 ويصبح هو نفسه قائداً لجيش المسلمين بما فيه من كبار الصحابة ووجهاء القوم – فى غزوة مؤتة ، ومن قبلها كان هو قائد أكثر من سرية وأميراً للقوات الزاحفة الى معارك الجموح ، والطرف ، والفيصل ، وحسمى وغيرها 0

 

هذا العبد القصير الأسمر ، أفطس الأنف هو نفسه " الذى لا يرسله الرسول صلى الله عليه وسلم فى جيش إلا أمره عليه ولو بقى حياً بعد الرسول لاستخلفه " كما تقول السيدة عائشة 0 من عبد إلى أمير ، بل ولو عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم به ليكون خليفة للمسلمين 0

 

******

 

بل وابنه أسامة بن زيد بن حارثة ، التى كانت أمه أيضاً من العبيد " أم أيمن " وهو أيضاً الأسود الأفطس الأنف مثل أبيه ، هو وبلال من يدخلان بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الكعبة يوم الفتح 0

 

وهو الذى يجعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميراً لجيش أسامة أى لذلك الجيش الذى حمل اسمه حتى اليوم ، هذا الجيش الذى كان فيه عمر وأبو بكر وغيرهما من كبار الصحابة جنوداً تحت إمرة القائد أسامة بن زيد الذى لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره فى ذلك الوقت 0

 

******

 

هذه التجربة التى لا تستطيع الكلمات وصفها بما تستحق ، هى من تجعل من خباب بن الأرت عبد أم أنمار ، ذلك الحداد الذى كان يصنع السيوف فى مكة هو من يعلم اخوانه المسلمين الأوائل آيات القرآن ، وهو الذى كان يعلم فاطمة بن الخطاب وزوجها سعيد بن زيد القرآن عندما داهمهم عمر بن الخطاب فى القصة المعروفة لاسلام عمر 0

 

******

 

ومن خلف تلك الممارسة الفذة 00 كان النص قرآناً وسنة يؤكد هذه التجرية بل يصفها بقوله تعالى " ان أكرمكم عند الله اتقاكم " ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ليس لعربى فضل على أعجمى إلا بالتقول " 0ويقول " ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوي " ويقول : " كلكم لآدم وآدم من تراب " 0 ومن خلف النص والممارسة كان المنهج الاسلامى بشموله وروعته مهيمناً " 0