خبر بين « هلا يا صقر القسام » و « عليِّ الكوفية » ثقافة سياسية تأبى التقاطع

الساعة 08:09 ص|19 يونيو 2009

فلسطين اليوم : كتبت/ الإيمان بالله بارود

أثناء تبادلي وإياها أطراف الحديث _ وكنت لم التق بها منذ ما يقارب الأسبوعين _ قالت لي:" أعجبت بشخصية إحدى الطالبات المرافقات لي في ذات المحاضرة .. وتمنيت أن تصبح لي صديقة، خاصة وأنني أرى فيها سمات الأخلاق غير أنها صدمتني بعد أن سمعت _ رنة_ جوالها ، إنها من مناصري حركة .... "!

في حقيقة الأمر لم تكن " إحدى صديقاتي " هي المصدومة ، بل كنت أنا .. فلم أكن أعلم بأن نغمة الهاتف النقال كفيلة بأن تفصح لنا عن كل ما نريد معرفته عن الآخرين .. ولم أكن أعي بعد هذه التقنية عالية الجودة والتي تتمثل في "قدرة رنة الجوال على تحديد علاقاتنا وسلوكياتنا مع المحيطين ".

وإن كنت أدركت _ متأخراً_ بأن نغمة الأجهزة الخلوية الخاصة أصبحت انعكاساً واضحاً للميول والاتجاهات السياسية، فإن هذا مؤشر على أن الحالة السياسية الفلسطينية باتت تقتحم علينا كل المنافذ والأبواب الشخصية..!!

جوال "حمساوي"..!

الطالب في كلية الهندسة " بهاء أبو الخير" أشار إلى أن انتماءه السياسي واحترامه الشديد للحركة التي يؤيدها ويناصرها انعكس بشكل تلقائي على هاتفه المحمول ليصبح " حماسوياً بنغماته وصوره ".

وأكد أن شغفه الشديد بمتابعة جديد الأناشيد الوطنية التي تتحدث عن حركته، وبطولاتها، وتاريخها يدفعه لإلحاق هذه الأناشيد بجهازه المحمول لاستخدامها نغمة للمكالمات الواردة إليه.

وقال :" في السابق كنت أتردد كثيرا قبل وضع مثل هذه النغمات في جهازي خشية من بعض التعليقات التي قد اسمعها من المحيطين بي .. غير أنني الآن أصبحت لا أعير الكثير من الاهتمام لمثل هذه التعليقات خاصة وأنني أفتخر بانتمائي".

مضيفا :" صحيح أن نشيد – هلا يا صقر القسام -  بمثابة رسالة واضحة لمن حولي بحقيقة ميلي السياسي، إلا أنني لا أبالي كثيراً بهذا الأمر على الرغم من كثرة الأقوال التي أسمعها حين استقلالي لإحدى المركبات العمومية أو دخولي لأحد المحال التجارية".

وبين الطالب " أبو الخير" أنه على الدوام يتبادل وأصدقاءه نغمات الجوال "الحمساوية "، لافتا إلى أنه يعمد كل يومين أو ثلاثة على الأكثر إلى تغيير نغمة الرنين الخاصة بهاتفه.

"يا أم الجماهير".. أضاعت العريس

أما " نور " (24 عاما) فقد اعتبرت أغنية " يا أم الجماهير يا فتح " نغمة جوالها المفضلة، وقالت مفسرة :" لم أحاول تغيير هذه النغمة منذ أكثر من عام تقريبا .. فأنا أريد أن يعرف الكل أنني فتحاوية "!.

وأوضحت أن أخويها الاثنين هما أول هؤلاء "الكل" الذين تتحدث عنهم، إذ تشعر بالسعادة حين تقوم باستفزازهما وإرغامهما على سماع ما لا يحبون.

وأضافت قائلة :" لا أنكر أن اعتماد النغمات التي تشير إلى حزب سياسي معين يجر في كثير من المرات إلى مشادات كلامية مع أشخاص يختلفون معنا في الرأي والاتجاه، ولكننا أصبحنا في واقع نستمتع فيه بالخلافات "، منوهة إلى أن تسييس الهواتف النقالة أصبح أمرا عاديا، خاصة بعد أن " انقسم قطاع غزة إلى شطرين فإما فتح وإما الأخرى ".

وأوضحت "نور" أن نغمة " يا أم الجماهير"، كانت سببا في هروب إحدى الخاطبات من منزلها حين قالت مبتسمة : " أثناء زيارة إحدى الخاطبات لمنزلي رن هاتفي الخاص وبعد انتهاء المكالمة اعتذرت المرأة وغادرتنا بسرعة"، مشيرة إلى أن نظراتها وعلامات وجهها كشفت عن غضبها واستيائها.

و"ما يهاب الموت " دفعتها للمشي !

" أم محمد"  46 عاما قالت مبتسمة :" عندما أهدتني أكبر بناتي جهاز الجوال طلبت منها أن تضع لي نغمة " حمساوي ما يهاب الموت " ..".

وأضافت :" لا أفهم جيدا لتقنية الهاتف المحمول الأمر الذي يجعلني في كثير من المرات وعن طريق الخطأ أعمل على تغيير النغمة .. حينها اغضب بسرعة واطلب من احد أبنائي أن يعيدها لي من جديد "، مؤكدة أنها ومن وخلال جوالها تريد إيصال رسالة للجميع بهويتها السياسية .

وبينت الوالدة لأربعة من الأبناء، أنها وفي إحدى المرات وأثناء ركوبها إحدى السيارات العمومية قام السائق بإيقافها في مكان بعيد عن الذي تقصده إلا أنها وقبل أن تبعد عن السيارة سمعت السائق وهو يقول للركاب " هذه حجة حمساوية .. والله ما أوصلها "، لافتة إلى أنها استدركت الأمر بعد أن تذكرت نغمة جوالها الذي تلقت من خلاله مكالمة أثناء جلوسها في السيارة والتي كشفت عن انتمائها السياسي.

عمله لقنه انتماءاتهم!

من جهته فقد اعتبر " عمر " 27 عاما والذي يمتلك أحد محال بيع الأجهزة الخلوية وسط مدينة غزة أن السياسة قد احتلت مساحة كبيرة من حياة الفلسطينيين اليومية حتى طغت على ممتلكاتهم الشخصية كأجهزة الجوال.

وبين أن أغلب الزبائن الذين يتعاملون مع محله يرتادونه مرارا من أجل جديد النغمات الحزبية.

وقال موضحاً :" بعد أن تنتشر أغنية أو نشيدة حزبية معينة يتهافت إلى كثير من الشباب من أجل نقلها إلى أجهزتهم ومن ثم يتبادلونها فيما بينهم عبر تقنية البلوتوث".

وتابع : " حتى عندما أبيع احدهم جهاز محمول فإنه لا يخرج من المحل قبل أن يأخذ صور ونغمات تعود إلى احد الفصائل الفلسطينية"، مشيرا إلى أنه أصبح على دراية بانتماءات كثير من الأشخاص الحزبية .!

وأكد "عمر" _ الذي وأثناء الحديث معه علمت "فلسطين" أيضا بانتمائه السياسي بعد أن تلقى مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء_ انه يحرص دائما على الاحتفاظ بجديد الأناشيد الوطنية الخاصة بكافة الفصائل الفلسطينية وتحويلها إلى مقاطع تصلح لنغمات أجهزة الجوال منوها إلى انه وان كان يتلقى ثمنا قليلا أمام هذه الخدمة إلا أن كثرة رواد المحل لهذا الغرض يجعل من الأمر مربحا.

انعكاس للحالة السياسية

لقد أصبحت النغمات السياسية التي تستخدم كرنات للهواتف المحمولة وسيلة أخرى جديدة للمناكفات بين الأشخاص أصحاب الرأي والرأي الآخر الأمر الذي يجر في مرات كثيرة إلى لحظات من الجدال أو شيء من الحقد.

الدكتور زياد الجرجاوي الباحث الاجتماعي المختص أشار إلى أن اختيار الشخص لنغمة هاتفه النقال أمر يرتبط بكثير من الأمور التي تتعلق بسمات شخصيته وأنماطها كالعاطفة والنوع البشري إضافة إلى مرحلة العمر إذ أن الرجل الكبير لا يرتضي لنفسه ذات النغمة التي يرتضيها الابن المراهق مثلا.

وبين أن النغمات ترتبط أيضا بطبيعة البلد وواقعها حيث قال موضحا :" أوقات الحرب أو السلم تؤثر على اختيار صاحب الهاتف النقال لنغمة الرنين الخاص به ففي أثناء الحرب يلاحظ دائما بأن الأغلبية تفضل اختيار النغمات الحماسية والوطنية التي تثير روح الشجاعة لديهم ولدى المحيطين بهم على عكس أيام السلم والرفاهية التي يتم فيها اختيار نغمات أقرب إلى الترفيه والفرح والعاطفة "، لافتا إلى أن الأحداث الهامة الجارية في المنطقة والتي تعني الشخص نفسه تعتبر من العوامل التي يتم وفقا لها اختيار النغمة.

وأرجع الباحث الاجتماعي ميل شريحة واسعة من المواطنين في غزة إلى اختيار نغمات سياسية لطبيعة الوضع السياسي الذي يعيشونه وما يشوبه من تجاذبات سياسية.

وقال :" الشعب الفلسطيني بطبيعته شعب مسيس يميل إلى التقسيمات الفئوية والحزبية ودرجة تأثره الكبيرة بالأوضاع السياسية الجارية في بيئته ساهمت في أن تطفو هذه الظاهرة على السطح"، مؤكدا أنها لا تتعدى كونها وسيلة مناكفة بين الإخوة أنفسهم.

ثقافة فئوية

من جانبه فقد اعتبر الدكتور فضل أبو هين مدير مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات بغزة هذه الظاهرة " بالجزء الطبيعي الناتج عن الثقافة الفئوية الحزبية " مؤكدا أنها جزء لا يستهان به من المشكلة الفلسطينية والتي تخطت حدود الفكر وبدأت ملاحمها تتضح بشكل جلي في اختيارات الإنسان ورغباته.

وأوضح أن المراقب عن قرب لكثير من تغيرات المجتمع ونفسيات أفراده يدرك أن هناك تحولا كبيرا في نوع الأغاني الوطنية التي يحب سماعها.

وقال مفسرا :" قبل الأحداث التي شهدها قطاع غزة من عامين كانت الأغلبية تميل إلى سماع كل ما يتعلق بالوطن وتستخدم كافة الصور التي تعبر عن ثقافة المقاومة  غير أن حالة الانقسام والشرخ الفلسطيني الحاصل بين كبرى الحركات الفلسطينية وصل تأثيره إلى حد الشرخ والانقسام والتهتك على صعيد المشاعر والأحاسيس".

وأضاف أبو هين قائلا :" من يلاحظ استخدام شريحة واسعة من الناس لنغمات سياسية يدرك جيدا أن الهدف لا يتعد كونه محاولة ووسيلة للنكاية في بعضنا البعض لسبب وحيد يتعلق بانعكاس التوتر السياسي على الأشخاص المناصرين والمنتمين للأحزاب المختلفة"، مشيرا إلى أن هذه النغمات أصبحت أيضا بمثابة مصدر الاستفزاز بين أفراد الأسرة نفسها خاصة وان هناك الكثير من الأسر تختلف اتجاهات أفرادها السياسية.

انقسام عاطفي واجتماعي

واعتبر أبو هين استخدام النغمات السياسية دليلا واضحا على حالة التعصب الذي يعاني منه أفراد المجتمع والذي من شأنه أن يقود إلى انغلاق في الأفق والرؤى. وحذر من أن هذه الظاهرة تعمل على سوء العلاقات بين الأفراد أنفسهم وتصعد من حالة الانقسام العاطفي والاجتماعي مشددا على ضرورة أن تقوم المؤسسات المعنية بتوعية كافة فئات المجتمع ووضعهم على مساوئ وتبعات الحزبية الضيقة التي ستترك آثارها الوخيمة على المجتمع بتصرفات وسلوكيات خاطئة يظنها الكثيرون بالأمر الطبيعي أو العادي.