خبر الرد على إستراتيجية أوباما ..ياسر الزعاترة

الساعة 09:25 ص|15 يونيو 2009

الرد على إستراتيجية أوباما ..

ياسر الزعاترة 

في حين كانت ملامح إستراتيجية أوباما قد اتضحت منذ شهور، ربما قبل فوزه بالرئاسة، وبالطبع في سياق من قناعة المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية بضرورة العمل الحثيث على الخروج من المستنقعات التي تورطت فيها إدارة بوش وأضرت بمصالح الولايات المتحدة وهيبتها، فإن الإستراتيجية المذكورة تبدو اليوم أكثر خطورة بعد خطاب جامعة القاهرة في الرابع من يونيو/حزيران (التوقيت لم يكن صدفة بحال).

 

ليس بسبب مضمونه الحقيقي، ولكن بسبب غلافه الجميل الذي ثبت أنه استهوى العديد من القوى والرموز في العالم العربي والإسلامي، أكان قناعة بأنه محطة لتغيير حقيقي في التعاطي الأميركي مع قضايا المسلمين، أم لمجرد ترويج التغيير لاعتبارات ذات صلة بسياسات بعض الدول، لا سيما تلك التي تنتمي إلى ما يعرف بمحور الاعتدال.

 

والحق أن الخطاب كان ذكيا ومتقنا إلى حد كبير، وفيما كان النص معدا ووزع على الوكالات بعد الحفل، إلا أن الرجل الذي ألقاه مرتجلا لم يغادر المضامين المكتوبة، حيث حفظها بالكامل، وألقاها بطريقة فيها الكثير من التميز، بما في ذلك النصوص الدينية، لا سيما أننا نتحدث عن نص يتجاوز خمسة آلاف كلمة.

 

لا خلاف على أن لون الرجل وأصله (والده كيني مسلم، بينما هو مسيحي)، قد وضع بعض المستمعين في حالة استلاب، أي أننا كنا إزاء "عين رضا" تبحث عن الجوانب الإيجابية، وقديما قال الشاعر العربي "وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا".

 

من هنا تبدو مهمة قوى المقاومة والممانعة بالغة الصعوبة للرد على إستراتيجية أوباما، لأن المطلوب قبل الرد هو العمل على إقناع الجماهير بأن الرجل لم يغادر المواقع الأميركية التقليدية من صراعاتنا، وأن بلاده لن تخلع ثوبها الإمبريالي، فضلا عن ضرورة النظر إلى فعل يديه وليس إلى مدحه للمسلمين وابتساماته في وجوههم.

 

بعد هذا الجهد الضروري تأتي عملية المواجهة مع مخطط الرجل الرامي إلى دفع الأنظمة العربية إلى مساعدته للخروج من المستنقعات التي تتخبط فيها بلاده، ومن ثم استدراجنا إلى مواقف تضر بقضايانا الرئيسة.

 

في السياق الأول يمكن القول إن تفرد الولايات المتحدة بالمشهد الدولي لم يكن يوما في صالح العرب والمسلمين، بل إنهم كانوا الأكثر تضررا منه، وقد تأكد ذلك من خلال الانحياز الدائم للدولة العبرية، إضافة إلى مسلسل الحروب التي شنت عليهم، والاستهداف الذي تعرضوا له، فضلا عن دعم أنظمتهم الفاسدة، والاستمرار في السياسة الرامية إلى إبقائهم في حالة من التشرذم والتبعية على مختلف الأصعدة.

 

من المؤكد أن التعددية القطبية في المشهد الدولي هي الوضع الأفضل لخدمة قضايا أمتنا، ومعها سائر المستضعفين في الأرض، وليس من مصلحتنا أبدا مساعدة أميركا على استعادة قوتها ونفوذها من جديد بعدما أخذت في التراجع التدريجي بسبب المغامرات التي ورطها فيها جورج بوش، بل لعل من الأفضل لنا ولقضايانا أن نساعد على المزيد من تراخي القبضة الأميركية على المشهد الدولي، أكان بتكريس فشلها هنا وهناك، أم بفتح مجالات للتعاون مع القوى الكبرى الصاعدة مثل روسيا والصين والبرازيل ودول أميركا اللاتينية.

 

من الواضح أن أوباما يريدنا أن نحقق له الهدفين معا، فهو يريد منا مساعدته في حل معضلاته المتفاقمة، في ذات الوقت الذي يريدنا أن نبقى أسرى العلاقة مع بلاده بعيدا عن فتح مجالات تعاون مع القوى الكبرى المنافسة، والتي تسعى بدورها إلى دور ونفوذ في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

في مواجهة إستراتيجية أوباما، ثمة عنوانان رئيسان على قوى المقاومة والممانعة التوقف عندهما، أولهما ذلك المتعلق بموقف واشنطن من الأنظمة العربية، إذ من الواضح أن الصفقة التي حكمت العلاقة بين تلك الأنظمة وبين الولايات المتحدة في مرحلة بوش الثانية ستبقى قائمة، أعني عدم الضغط عليها في مجال الديمقراطية والإصلاح مقابل الدفع من جيب قضايا الأمة الكبيرة في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والسودان.

 

وفي حين تبدو قضية الإصلاح بالغة الأهمية بالنسبة لقوى الأمة الحية، فإن المطلوب هو تصعيد النضال السلمي داخل كل قطر من أجل دفع عجلة الإصلاح، بل التغيير الجذري إن أمكن ذلك، لا سيما بعد أن ثبت أن ديمقراطية الديكور القائمة لا تأتي بإصلاح حقيقي مهما رفع رقم "كوتا المعارضة" في مجالس النواب، ومن الضروري أيضا فضح الصفقة المذكورة للجماهير حتى تكون على بينة من أمرها.

 

العنوان الكبير الثاني هو المتعلق بقضايا الأمة الرئيسة، وأولها قضية فلسطين، وهنا يمكن القول إن مخطط أوباما للتسوية يستحق المواجهة، ولا ينبغي الركون إلى مقولات تشدد نتنياهو، وقد قال أوباما نفسه في لقاء صحفي عقب خطاب القاهرة إن هذا الأخير أقدر على صناعة السلام من قوى اليسار، لا سيما أن ما سيُعرض عليه سيكون مغريا إلى حد كبير، وسيحظى على الأرجح بغالبية في الداخل إذا انضم كاديما إلى الائتلاف الحاكم، كما سيحظى بدعم من قادة كبار في اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة.

 

عندما يتحدث أوباما عن حل الدولتين ينسى المهللون أنه طرح بوش وشارون، أما وقف الاستيطان فهو نداء زعماء أميركا منذ عقود لقادة الدولة العبرية بلا جدوى، لكن خطاب القاهرة استبطن من جهة أخرى مطلب تغيير المبادرة العربية، حين قال إنها ليست كافية، ما يعني شطب حق العودة والتطبيع المبكر، فكيف حين نعلم أن رئيس السلطة قد وافق عمليا على معظم النقاط الإشكالية في التسوية (شطب حق العودة، بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة تحت بند تبادل الأراضي، السيادة المنقوصة)، والنتيجة أن التسوية ليست مستبعدة إذا وافق نتنياهو على منح السلطة حصة بسيطة في القدس الشرقية تقام عليها عاصمة الدولة، وبترتيبات طرف ثالث للمقدسات الإسلامية كما ذهب أحد وزراء السلطة.

 

مثل هذا الحل هو تصفية للقضية الفلسطينية، لأن دولته الفلسطينية العتيدة بائسة أيما بؤس، وقد تؤدي إلى رحيل الكثير من السكان نحو الأردن الذي يؤوي أغلبية اللاجئين، فضلا عن ترتيبات لا يمكن استبعادها لإلحاق الضفة الغربية به، لكن انتظاره يفعل ذات الشيء أيضا، فهو يعني كما ذهب أوباما "نبذ العنف" والاستمرار في تنفيذ البند الأول من خريطة الطريق، أي شطب المقاومة بالكامل وتكريس الدولة المؤقتة القائمة، بصرف النظر عن المدى الزمني الذي ستستغرقه المفاوضات.

 

لا بد من مواجهة صارمة لمثل هذا الحل، الأمر الذي لن ينجح من دون توافق قوى المقاومة، ومن ضمنها قطاعات من فتح على رفض ديمقراطية السلطة، بل حتى وجودها إذا اقتضى الأمر، ورفع شعار المقاومة حتى دحر الاحتلال دون قيد أو شرط عن الضفة الغربية، مع إدارة بالتوافق لقطاع غزة كقاعدة شبه محررة للمقاومة، وتجييش دعم شعبي عربي وإسلامي، مع ما تيسر من دعم رسمي لهذا المسار.

 

في العراق، لا ينبغي الركون بحال لوعود الانسحاب، وعلى قوى المقاومة التي تصاعد فعلها بشكل جيد في الشهرين الماضيين، أن تواصل هذا التصعيد وأن تجعل خروج القوات الأميركية إذا تم بالفعل، خروجا تحت النار، كما كان خروج الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، الأمر الذي يتطلب مزيدا من التنسيق بين فصائلها، لاسيما أن كتلة كبيرة منها قد منحت الشيخ حارث الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين حق التحدث باسمها.

 

في أفغانستان ينبغي أن تتواصل سياسة الاستنزاف لقوات الاحتلال، ومن ثم التصدي لمحاولات اختراق جبهة طالبان، الأمر الذي يحدث من خلال بعض الدول العربية، ولعل استمرار التصعيد سيدفع في اتجاه زيادة عدد القوات الأميركية هناك، ما يعني منح طالبان قدرة أكبر على استنزافها، والخلاصة أن شعار خروج القوات الأميركية من دون شروط ينبغي أن يبقى على حاله.

 

في باكستان، على القوى الإسلامية أن تتصدى بقوة للتدخل الأميركي الذي أفشل اتفاق وادي سوات وأنشأ حالة عدم الاستقرار في المنطقة، ليس حفاظا على وحدة البلاد ومصالحها فحسب (قدراتها النووية مستهدفة من دون شك)، بل حفاظا على خطوط إمداد حركة طالبان الأفغانية أيضا، لا سيما أن انتصار الحركة يشكل مصلحة لباكستان وأمنها القومي.

 

القضية الأخرى البالغة الأهمية هي قضية المواجهة مع إيران، وهنا يجدر التنبه إلى أن خطاب أوباما حيالها لم يأت بجديد، فهو يمد يدا ناعمة، لكن المطلوب هو ذاته (شطب الخيار النووي، ووقف دعم قوى المقاومة)، ولذلك ينبغي التصدي لمقولة الخطر الإيراني الذي يتقدم على خطر المشروع الصهيوني الأميركي، ليس لأنه محض تزوير على الأمة، حتى لو صح أن لإيران طموحاتها التي يمكن التصدي لها عربيا بطرق مختلفة، أو عبر تفاهم مع طهران على الملفات الإشكالية بين الطرفين، بل أيضا لأن أي هجمة عسكرية على إيران لن تكون في صالح الأمة، لا سيما إذا مضى البعض في لعبة الحشد المذهبي تحضيرا لتلك الهجمة.

 

لا شك أن سوريا هي في قلب هذه المعركة، لا سيما بعد تجاهلها في خطاب أوباما ومساعي إبعادها عن إيران بدون ثمن يذكر، مع العلم أن تسوية وضعها الداخلي عبر انفتاح على قوى المعارضة الوطنية سيشكل نقطة إيجابية لصالح تمتين جبهة المقاومة والممانعة.

 

هي إذن معركة بالغة الأهمية تخوضها الأمة، وسيتحدد بناء على نتيجتها شكل المنطقة وهويتها ومستقبل شعوبها، بل وربما مستقبل العالم ككل، بين أن يعود من جديد أسيرا لأحادية قطبية مدججة بالروح الإمبريالية، وبين أن يمضي نحو تعددية تخدم أمتنا ومشروع نهوضها، بل تخدم سائر المستضعفين في العالم.