خبر حل الدولتين.. ومغامرة بالنظر من جهة الهاوية ! ..ماهر رجا

الساعة 03:10 م|10 يونيو 2009

ثمة عبارة يكثر الرئيس الأميركي باراك أوباما من ترديدها هذه الأيام على مسامع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو والشارع السياسي الصهيوني المتوجس من أسلوب عمل الإدارة الأميركية الجديدة حيال ملف الصراع في المنطقة.. العبارة كما بات معروفاً هي: حل الدولتين مصلحة أمنية لإسرائيل .

وواقع الحال أن أوباما لايخدع نتانياهو، لكن غباء الأخير هو المشكلة في بناء الاختلاف الراهن الذي يبدو خلافاً بين الحليفين. فالرجل الذي يحب أن يتذكر الإسرائيليون بأن والده عمل مساعداً لجابوتنسكي، أحد أبرز القادة الصقور في جيل الآباء من الحركة الصهيونية، يبدو اليوم بنظر الكثير من السياسيين في إسرائيل بوصفه السياسي الذي لم يتعلم شيئاً خلال تسع سنوات قضاها خارج مكتب رئاسة الوزراء منذ أن أطاح به باراك في انتخابات عام 1998.

الأمر الأساسي هنا أن نتانياهو يبدو بالنسبة لهؤلاء قاصراً عن فهم منافع حل الدولتين لإسرائيل.. هكذا يرى مثلاً واحد من أبرز المحللين الاستراتيجيين في إسرائيل "مارتن فان كريفيلد" وصاحب فكرة الجدار الفاصل في مقال له في السابع عشر من الشهر الماضي بعنوان في انتظار نتانياهو، في حين حذر حاييم اورون رئيس حزب ميرتس من ضيق الأفق السياسي الذي يهيمن على أروقة الحكومة التي لا ترى أن  "حل الدولتين للشعبين ليس تنازلا للفلسطينيين وانما هو مصلحة اسرائيلية عليا".

قبل قرابة عام ونصف، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. ففي نوفمبر عام 2007  وعلى متن طائرته في طريق العودة من انابوليس، حذر الاسرائيليين المعارضين لمبدأ الدولتين، من أن سقوط هذا المشروع سيعني نهاية اسرائيل.

في المقارنات البسيطة من حسابات الصراع، ما يكون في صالح الكيان الصهيوني ليس لصالح الفلسطينيين بالتأكيد على المدى الاستراتيجي، ومع ذلك فإن عبارة "حل الدولتين" هي الأكثر شيوعاً في مضامين اللغة والخطاب السياسي العربي اليوم  بوصفها عنوان الحل "العادل" الممكن لقضية الشعب الفلسطيني، إلى درجة أن  التشكيك بهذا الحل قد ينطوي على مخاطرة وقد يوصف صاحبها بضيق الأفق أيضاً على غرار نتانياهو إنما لأسباب ترى في الحل مصلحة فلسطينية وعربية وفرصة تاريخية توفرها اليوم الإدارة الأميركية!!

لكن هناك علامات استفهام ، وإشارات مبهمة من المهم التوقف عندها لدى مقاربة الصيغة السياسية المطروحة.. ولنغامر قليلاً بالنظر من جهة الهاوية.. هناك حيث يبدو حل الدولتين مصلحة إسرائيلية بالفعل

ـ  أولاً، متى طرح "مبدأ" حل الدولتين؟... يجب أن نتذكر أن هذا التوصيف لم يكن قائماً إبان مؤتمر مدريد ، ولم تكن العبارة موجودة في ملفات المفاوضات السرية والمعلنة التي أدت إلى اتفاق أوسلو.. كان الحديث والتفاوض يدوران عن شروط  إقامة دولة أو كيان فلسطيني إلى جانب الكيان الإسرائيلي القائم أصلاً. لكن أول توظيف سياسي لعبارة "حل الدولتين " ظهر على لسان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. وقد جاء ذلك قبل مؤتمر أنابوليس 2007 ثم كرس في هذا المؤتمر. فبعد الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية وتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية بعامين، عادت إدارة بوش إلى فتح ملف التسوية على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، بعد أن فرضت على ياسر عرفات بالتعاون مع تل أبيب حصاراً سياسياً وميدانياً، وألزمته بقبول وجود رئيس وزراء (محمود عباس، ثم أحمد قريع) يتابع المهام السياسية وعلى رأسها ملف المفاوضات.. في تلك الفترة ظهرت فكرة مقايضة الكيان الفلسطيني الذي يمكن أن تسفر عنه المفاوضات باشتراط اعتراف السلطة بيهودية الكيان الصهيوني. وكان المدخل إلى ذلك صيغة حل الدولتين التي جاءت نتاج عقلية يهودية سياسية حاذقة في إدارة المحافظين الجدد.

وعليه، فإن حل الدولتين لم يكن سوى  إشارة مبطنة تقصد أن يكرس أي حل سياسي مقبل أو تسوية،  إسرائيل كدولة يهودية طاردة لتواجد السكان الأصليين في الأرض المحتلة عام 48 (مليون وأربعمئة ألف فلسطيني) ، بمقابل أن تؤدي التسوية ذاتها إلى إقرار وجود كيان فلسطيني ما. وهذا هو على وجه الدقة التفكير السياسي في حزب كاديما مثلاً. ففي أوساط هذا الحزب يعتبرون حل الدولتين اعترافاً دولياً مسبقاً بالكيان الصهيوني كدولة يهودية صافية، أما "الدولة الفلسطينية" الممكنة فهي مستوعب ممكن أيضاً للفلسطينيين في أراضي 48 الذين تفكر إسرائيل بالتخلص من "مشكلتهم" الديموغرافية. وذلك ما كان يتطلع إليه أولمرت إبان مؤتمر أنابوليس، وحين طرح على "أبو مازن" الخريطة التي تحدث عنها الأخير الأسبوع الماضي، والتي تعطي الدولة، وفقاً لإبي مازن،  97 بالمئة من أراضي الضفة والقطاع، وتنطوي على تبادل للأراضي.

ثانياً، حل الدولتين هو حل إسرائيلي الغاية والمصلحة لأنه أيضاً يدعو لأن تستوعب الدولة الفلسطينية المقترحة الجزء الأكبر من فلسطينيي الشتات مع تعديلات سبق لها أن وردت في مقترحات كلينتون 2000. وتكررت في خريطة أولمرت. وبذلك فإن هذا الحل الذي اقترحه المحافظون الجدد ومؤسسات البحث الاستراتيجي للوبي اليهودي الأميركي على إدارة بوش هو الوصفة الأميركية الإسرائيلية الأنسب للتخلص من العقبة الأكبر في قضايا الحل النهائي : قضية اللاجئين الفلسطينيين.

ثالثاً، حل الدولتين إسرائيلي المرجع والاستراتيجية لأنه يحاصر واحداً من أهم المخاوف الإسرائيلية.. في الطرفة السياسية الإسرائيلية أن الفلسطينيين يفهمون حل الدولتين بأنه الوصول إلى إقامة دولتين للشعب الفلسطيني في أراضي 67 وأراضي 48.  ويحلو لبعض السياسيين المعارضين للمبدأ  أن يصوروه بالقول إن أهم مخاطر المشهد الفلسطيني احتمال قيام أكثر من دولة فلسطينية: واحدة في غزة ، وأخرى في الضفة ، وربما ثالثة في الأردن.. لكن الطيف السياسي الأوسع الذي يؤيد حل الدولتين في إسرائيل يفكر بنسخته المتخيلة للحل.. أي الصيغة المحكمة التي تقفل كل قضايا الوضع النهائي وتضع خاتمة نهائية للصراع تضمن استيعاب كل مكونات المسألة الفلسطينية والسيطرة عليها في إطار واحد هو الدولة الفلسطينية أو الكيان السياسي الفلسطيني المزمع.

حل الدولتين هو الحل الذي يخاطب الاستراتيجيا بالنسبةلإسرائيل ومستقبلها، فهو  يضع نهاية  للمعضلة الاسرائيلية التاريخية ،  لوجود إسرائيل وتعريفها وعلاقتها بالمحيط... حل ذهبي يمكنه أن يحقق نهاية للهواجس الأمنية والوجودية الإسرائيلية إلى الأبد... هكذا يفكر على الأقل المتحمسون للحل في إسرائيل، وهم كثر. وهكذا يفكر اليوم البيت الأبيض في الولايات المتحدة.

وقد يقول قائل هنا: حسناً ، لكن حل الدولتين يقيم دولة فلسطينية أيضاً!!.. والتساؤل مشروع وصحيح، لكن ينبغي ملاحظة أمرين:

الاول، أن الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي سيحكمان المفاوضات وقضايا الاتفاق بحيث لا تكون الدولة الفلسطينية دولة في نهاية المطاف.. الاستيطان قام بالمهمة الاكبر، ووثائق أوسلو مازالت الإطار الذي تعترف به السلطة لأي تسوية مقبلة بما في ذلك الوثائق التي تجعل الدولة الفلسطينية كياناً لصاحبه إسرائيل، مملوكاً لها وتحت قبضتها بفعل  اشتراطات عدم وجود جيش لهذه الدولة وعدم وجود سيادة على سمائها وأرضها وارتباطها الاقتصادي والسياسي إلى حد ما بالكيان الصهيوني.

والأمر الثاني المهم هو أن حل الدولتين يفترض وضع نهاية للقضية الفلسطينية ولرواية الصراع مرة واحدة وإلى الأبد.. وهذه مقايضة تاريخية الرابح فيها إسرائيل حتماً.