خبر من القاهرة مع خالص الحب../ د.عزمي بشارة

الساعة 12:04 م|08 يونيو 2009

 

من الغرائب أن يعلن رئيس الولايات المتحدة عن نيته مخاطبة العالم الإسلامي. فلنجمعه له إذا، وليجلس بأدب ويستمع. ومن الغرائب أن يكرر الإعلام العربي ويروِّج للحدث بنفس لغة منظِّم الحدث: "يلقي الرئيس الأميركي خطابا موجها للعالم الاسلامي". وفور إعلان النبأ يتحول طبعا إلى "الخطاب المنتظر"، و"الخطاب المتوقع"...

 

ولا أدري لماذا أصر الإعلام العربي طيلة أكثر من اسبوع على محاولة استشراف ما سوف يأتي في الخطاب، كأنه حربٌ سوف تقع أو سلامٌ سوف يبرم. هل كان سوف ينجم عن هذه المعرفة شيء ما، خطوات هامة مثلا يجب اتخاذها قبل أن يلقي خطابه؟ لا فرق ان توقعنا ام لم نتوقع، ويمكن للإعلامي العربي أن ينتظر يومين ليسمع، فليس هنالك ما يضطره أن يتنبأ بما سوف يقوله الرجل. ولن يستبق أحد الخطاب بإعلان خطوة سياسية ما لو عُرِفَ المضمون. وليست مهنته كالتنجيم أو الشغف بمعرفة المصائر قبل وقوعها القدري. إنها صناعة خلق الانتظار والتوقع والترقب والاهتمام، وصبها جميعا في قالب معين واتجاه معين. وقد صيغ هذا الاتجاه مؤخرا من خلال تأكيد كلمة تاريخي: "زيارة تاريخية"، "خطاب تاريخي".

 

ومن هنا فخلافا لما يُروَّج، ليس الرئيس الأميركي بحاجة ان يقوم بحملة علاقات عامة، فهنالك من يقوم بها من أجله. هنالك من يخترع هذا النوع من الاهتمام.

وطبعا هو لا يخاطب العالم الإسلامي، بل يطرح مقاربة جديدة للمنطقة من قبل السياسة الخارجية الأميركية. وقد سبق أن قيل غالبيتها، منذ ان القى كلمته في موظفي وزارة الخارجية مرورا بخطابه في تركيا وخطابه الموجه للشعب الإيراني. وقد انتُخِب ليجري هذا التغيير في الخطاب السياسي الاميركي. ويخطئ من لا يرى تغيرا وتغييرا. أتى التغيير بعد أن أفشلت المقاومة وغيرها الخطاب السياسي السابق لقضايا المنطقة مقاربةً وممارسةً. هنالك تغيير. وقد فُرِضَ التغيير بفضل مقاومة الشعوب العربية للسياسة السابقة في العراق وفلسطين ولبنان، وليس بفضل من يصفقون دون شروط لهذه السياسة، أكان ذلك في عصر الرئيس السابق او الحالي.

 

ولكن مجرد تكرار الإعلام العربي للعنوان الذي اختاره هو " مخاطبة العالم الإسلامي" ضاعف من قوة الخطاب. وخلق نزعة للمبالغة ولاعتبار كل ما قيل جديدا. إذ صُوِّر العالم الإسلامي كائنا موحدا متجانسا ينتظر في حالة ارتباك وذهول وقلق، لا يهدأ له بال قبل سماع كلمة الرئيس. ولا بد من مكافأته على هذا الانتظار باعتبار الخطاب بداية مرحلة جديدة.

لكن العالم الإسلامي بعيد عن التجانس سياسيا، فهو يتنوع من حلفاء لأميركا بدرجات متفاوتة وحتى خصوم وأعداء لسياستها بدرجات متفاوتة، ولا يمكنه أن يخاطبهم جميعا في إطار واحد. فالولايات المتحدة حاليا تخاطِب مسلمي وزيرستان وأفغانستان بلغة القاذفات مثلا، ومن بين من ينفذ هذه السياسة الأميركية في باكستان وأفغانستان مسلمون أيضا. ومن المرجح أن المسلم في إندونيسيا لم ينتظر ليجلس بأدب ويستمع الى خطاب الرئيس الاميركي في القاهرة.

 

ناهيك بأنه كان من الأسهل والأكثر منطقية أن يدَّعي الرئيس أنه يخاطب العالم العربي من القاهرة، ولكن الولايات المتحدة رغبت وترغب بإخراج مصطلح العالم العربي من التداول أصلا، اللهم إلا في سياق مبادرة السلام العربية. والغريب أن العرب الذين يؤكدون على العروبة ضد إيران فقط لم يكرّروا تأكيدهم على العروبة في هذه الأيام "التاريخية".

 

ولا شك ان الرئيس الجديد، وهو ظاهرة صوتية ( مع الإضافة أنها ظاهرة صوتية سجالية لبقة ومثقفة)، قد حُمِل إلى السلطة على موجة تغيير فعلية يفرِحُ حلفاءه المحافظين في العالم الإسلامي بأنه لا يسعى، ولا يدعي أنه يسعى ل"ثورة ديمقراطية دائمة" كالمحافظين الجدد، بل يعتمد لغة المصالح البراغماتية التي ميزت المحافظين في الماضي. وقد بيَّنت هذه اللغة في الماضي، وهي تبيِّنُ حاليا أيضا نفاق اللبرالية الاميركية "التقدمية" حين يتغنى ممثلها الأبرز حاليا، أي الرئيس الاميركي، لغرض النفاق بحكمة ملك لا يشترك معه في شيء. هذا هو مصير اللبرالي خريج هارفرد، والذي حملته موجة تغيير شبابية الى الحكم ليمثل قيما جديدة، فوجد نفسه متبعا لسياسة المحافظين بدل المحافظين الجدد، إذ حوَّل لقاء المصالح الى المعيار.

 

وطبعا يغلَّف لقاء المصالح بالكلام المعسول عن "لقاء الحضارات" و"حوار الحضارات" و"احترام الحضارات" و"الانا والآخر"، بدل صراع الحضارات. وهو نوع من الكلام الذي يسير على حبل موازنا بين النقائض يتقنه الرئيس الحالي واتقنه في الحملة الانتخابية، خاصة وأن لديه اطلاع على عبارات يسارية وتقدمية و"لائقة سياسيا" يستخدمها في شرح مصالح الولايات المتحدة.

 

و رغم انتماء اللغتين (لغة حوار الحضارات ولغة صراع الحضارات) لنفس المنظومة الفكرية التي تقسم العالم سياسيا أيضا الى حضارات، فان النفاق يبقى أفضل من الحرب. وقد كشف الرئيس الاميركي عن نوع "رسالته" الى العالم الاسلامي عندما تغنىَّ بحكمة النظام الرسمي العربي القائم. وكان منافقا بالمعنيين، بمعنى التواضع الكاذب في التعامل مع المناصب والوجاهات، لان التواضع هنا ليس تواضعا بالفعل بل محاولة في الخداع لكسب الود، ولأنه يتضمن استخفافا بعقول الناس. والنفاق يعني امتداح ما لا يعجبه، كما يعني التضخيم الانتقائي لعناصر يصح فيها المديح، كما يكسب المنافق شخصا بمراءاته، متجاهلا التناقض القيمي لان لديه مصلحة معه. إنها السياسة بأقبح أشكالها.

 

لغة النفاق الاستعماريةلم يخترعها الرئيس الاميركي الجديد. إذا اكتفى بالتأكيد على الوجه المشرق النير في الإسلام معتمدا على آيات عدة تبعها تصفيق من قبل الباحثين عن الاعتراف بالإسلام في الغرب، بعد ان كان نفس الرئيس قد تعامل مع الإسلام كأنه تهمة او تشهير به حين "اتُهِّم" به إبان الحملة الانتخابية. وهو الآن يأخذ راحته في النفاق بعد أن تحرر من الحملة الانتخابية التي تفحصت علاقته بالإسلام بمجهر اليمين وماكين. والكلام التلفيقي كما اسلفنا اختصاصه الدائم، مع الديمقراطية وضد تصديرها، مع الفلسطينيين وضد المقاومة، مع الحرب على أفغانستان وضد الحرب على العراق ويعتبر القضية برمتها قضية أفكار نمطية، يدين العنف الفلسطيني وليس عنف الاحتلال، ولكنه ينتقد الاستيطان... هذا اختصاص توازن الألفاظ الذي لا يضر ولا ينفع خارج الواقع والممارسة. ولو لُفِت نظره فسوف يدخل في الخطاب القادم كلمة ضد العنف الإسرائيلي ثم سيبرره في العبارة التالية، فهو كما قال ضد الحرب على العراق، ولكن تغيير صدام بفضلها كان إيجابيا.

 

أما نابليون فأذكر القارئ أنه قال في بداية حملته على مصر إذ خطب حسبما نقل الجبرتي بالعلماء والمشايخ مفتتحا كلامه بالبسملة رافضا ليس الشرك فحسب، بل حتى مبدأ الآب والابن: " بسم الله الرحمن الرحيم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه …أيها المشايخ والأئمة ..قولوا لأمّتكم أنّ الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين". لقد ادعى نابيلون انه مسلم، وان الفرنسيين مسلمون وأنه حارب الفاتيكان لانه أطلق الحملات ضد المسلمين. صدق او لا تصدق!! ولن أضيف. وهو نفس نابليون الذي دعم إقامة دولة لليهود في فلسطين قبل نشوء الصهيونية. مهما نافق الرئيس الاميركي الجديد بلغة اللياقة السياسية، "من ناحية... ومن ناحية أخرى..." بشكل لا يغضب أحد، إلا أنه لن يصل الى مستوى خطابات أخرى سمعها العرب الحاليون وأسلافهم. ولا يرغب بعضهم بتذكرها.

سوف يفرح الرئيس الاميركي الجديد المحافظين العرب ببراغماتيته، وعدم رغبته بتصدير الديمقراطية وبرغبته بالتعايش على أساس المصالح المشتركة مع الأنظمة العربية والإسلامية القائمة، هذه المصالح المغلفة بحوار الحضارات، والتسامح والاحترام المتبادل. ولكنهم سيغضبون إذا اتبع نفس البراغماتية تجاه إيران. أما اللبراليين الجدد العرب، الذين التقوا مع المحافظين الجدد على تصدير الثورة الديمقراطية على المدمرات الاميركية فسوف يخيِّب أمل بعضهم، ولكنهم سوف يعوِّضون عن ذلك بتمكنهم من مدح أميركا علنا لأنها تخلت عن الحرب المباشرة والفورية لصالح لغة الدبلوماسية والسلام والحوار وغيرها، وهذا ما سوف يحصل فعلا في منطقة الخليج وغيرها. وعندما تتراجع الولايات المتحدة عنها بسبب "التعنت" الإيراني ورفض وقف التخصيب، أو إذا لم يتم التوصل الى تسويةصفقة ما إيران، فسوف يمتدحون أميركا أيضا حين تشدد العقوبات.

 

فلسطينيا:

 

من اتفق من العرب مع كل ما قاله الرئيس الاميركي السابق، لا يفترض أن يهمه كثيرا ما سوف يقوله الرئيس الجديد، ولا تحليلنا لما أدلى ويدلي به. فهو سوف يتفق مع الرئيس الأميركي على أية حال.

 

وهل كانت لدى النظم العربية الحليفة للولايات المتحدة مشكلة مع ما درج بوش على قوله، لكي تتأمل خيرا مما سوف يقوله الرئيس الجديد؟ فما يقوله رئيس الولايات المتحدة هو خير بحكم تعريفه، وذلك بالنسبة لمن يرى أنه لا بد من قبول ما يقوله والتنظير له وشرحه، ولو قال عكس ما يُنَظَّر له حاليا. فهذه هي الاستراتيجية الوحيدة في جعبة هذه النظم.

 

ولكي لا أصعِّب على أحد هضم ما يقال لن استعين بخطابات سابقة لبوش حول الإسلام والتطرف والاعتدال والخير والشر اتفق معها عرب أميركا المحافظون، وكلاما آخر حول ضرورة الديمقراطية اتفق معه عليها عرب أميركا النيو- لبراليون، فوجد كلٌّ منهم ضالته في كلام بوش. ولو كانوا على طرفي نقيض فكريا، لم يكونوا كذلك ممارسة. فكان التحالف مع بوش كافيا للقاء النيو لبراليين مع الأنظمة غير اللبرالية وغير الديمقراطية العربية الحليفة للحليف... بل سوف أذهب الى خارطة الطريق.

 

ولماذا يتأمل العرب جديدا في الشأن الفلسطيني من الرئيس الاميركي ما داموا قد وافقوا بحماس على خارطة الطريق التي طرحها بوش؟ وقد حوَّلوا هذه الخارطة الى مطلب وسقف تجري مطالبة إسرائيل بتنفيذه بعد أن نفذ الفلسطينيون حصتهم منه. وظهر ذلك جليا إبان الحرب على غزة، عندما قمعت السلطة في الضفة ليس فقط المقاومة، بل أيضا التضامن السلمي مع غزة. فهذا برأيهم يؤهل الفلسطينيين للمطالبة أن تنفذ إسرائيل حصتها من الخارطة ما دامت فقراتها الأولى المتعلقة بهدم النبى التحتية اللإرهاب، إما نفذت او قيد التنفيذ الحثيث. ولماذا يتوقع العرب جديدا من الرئيس الجديد ويهتفون لإصراره على دولة فلسطينية وحل الدولتين ما دام بوش قد رأى ( من رؤيا، والمقصود رؤيا بوش) دولة فلسطينية قبل نهاية عهده؟ سبق أن تحمسوا لرؤيا بوش، ويتحمسون الآن لرؤيا اوباما.

 

تغيرت أميركا، لا شك. كما تغيرت في عهد روزفلت وكندي وريجان. أما المشكلة فهي تغيير عقل الأنظمة العربية السياسي.

 

صحيح أن هنالك نبرة أميركية جديدة تجاه إسرائيل تشبه نبرة اليسار الصهيوني وليس اليمين الصهيوني، بالتأكيد على "حقين لشعبين"، وتعتبر الدولة اليهودية قيمة عليا. وترسم تكافؤا حيث لا تكافؤ. حسنا، نبرة جديدة إذا. ولكن حتى هذه النبرة الجديدة ناجمة ليس عن تغيير في أميركا فقط بل تغيير في إسرائيل أيضا. فهنالك حكومة في إسرائيل ترفض التعهد شفويا بتجميد الاستيطان كما فعلت الحكومة الإسرائيلية السابقة حتى لإدارة بوش، كما ترفض الالتزام الشفوي بمبدأ حل الدولتين كما فعلت الحكومة السابقة في عهد أولمرت. هذا هو الفرق.

 

وينجم رفض اوباما التعهد بالالتزام بورقة تطمينات بوش لشارون عن رفض نتنياهو الالتزام ب" رؤيا بوش" المتعلقة بحل الدولتين. التغيير هو أولا في النبرة الإسرائيلية نحو اليمين تبعه تغيّر في النبرة الأميركية تجاه هذه التغيير. وفي الشأن الفلسطيني تحديدا لا يوجد تغيير فعلي في الموقف الاميركي. تغيرت النبرة لان هنالك حكومة إسرائيلية غيرت نبرتها، وترفض الالتزام بأسسٍ تمكِّن من العودة لما يسمى ب"عملية السلام". وهذا ما يمكن لأوباما التعهد به فعلا للعرب عدا تغيير النبرة: الضغط على إسرائيل للعودة الى "عملية سلام". فأميركا وحلفاؤها العرب بحاجة لمثل هذه العملية السياسية الجارية التي صارت تشكل موسيقى مرافقة دائمة، وأجواء لا بد منها في تصوير فيلم الاعتدال العربي، مثل الموسيقى التي ترافق التغطية الصامتة للاستقبالات والمناسبات في التلفزيونات الرسمية في الدول التي يزورها الرئيس الاميركي حاليا.

 

لا تكمن المشكلة بالاعتراف بحصول تغير في الولايات المتحدة، وهو على كل حال لا ينشأ ولا يعبر عنه حتى في محاضرة أو زيارة، بل المشكلة في غياب استراتيجية عربية. ولذلك فحتى لو جرى تغييرا ففيما عدا الفرح بتغير النبرة والأجواء، ليس بوسع العرب أن يحصدوا الكثير من هذا التغيير ما داموا يعيشون دون تحديد للمصالح العربية ودون استراتيجية.