خبر الرئيس أوباما وجسوره الجديدة ..علي عقلة عرسان

الساعة 05:36 م|05 يونيو 2009

الرئيس أوباما وجسوره الجديدة ..

علي عقلة عرسان

ارتجل الرئيس الأميركي باراك أوباما خطابه المنتظَر في القاعة الكبرى لجامعة القاهرة، فسمع العالم منه لغة سياسية جديدة لم يسمعها من رئيس أميركي سبقه، ووقف على انفتاح ووعي ثقافي ومعرفة بالإسلام أياً كانت فإنها مما لم تتوفر لرئيس أميركي آخر. لقد ركز على المواضيع التي من شأن تناولها أن يثير اهتمام الناس في العالم الإسلامي خاصة والعالم كله بصورة عامة حيث كان ينتظر منه أكثر مما قدمه في الواقع، وأظهر امتلاكاً لناصية الكلام، وقدرة على الخطابة، وجاذبية المتحدث اللبق، ومسؤولية رجل الدولة الذي يعرف العالم ويعرف دور بلاده وأهميتها فيه وتأثيرها عليه، وصدر في كلامه عن رغبة صادقة في المصارحة والتماس التعبير الملائم  وعلني مواقف وسياسات وتوجهات مما كان يطبخ في الخفاء، ودل في أدائه على إحاطة بالظروف التي تكتنف العلاقة بين الإسلام والغرب، وبمدى ما دمره سلفه جورج W بوش من جسور كانت تربط الغرب بالعالم الإسلامي، وما شوهه من حقائق ووقائع وما أسس له من أحقاد نتيجة غطرسته وتعصبه وغطرسته وعقيدته التلمودية العدوانية المنحازة للصهيونية ثقافياً ودينياً.. وربما أدرك أوباما أن أحد أهم المداخل إلى العالم الإسلامي هو التراجع عما أعلنه وفعله وقام به سلفه وتصحيح ما خربه.. وبناء جسور تعاون وثقة مع الآخرين.. ولكن هل أوباما قادر على تنفيذ ما يمكن أن يكون قناعات راسخة لديه؟ وهل هو صاحب الرأي الأول والأخير في مثل هذه الأمور والسياسات والتوجهات أم أن المؤسسات المؤثرة ذات المواقف والآراء الإمبريالية ـ الصهيونية هي من يحكم ويتحكم ويصنع القرار في نهاية المطاف.؟

لقد بدا حريصاً على تغيير صورة الولايات المتحدة الأميركية بنظر العالم الإسلامي وتقديم صورة إيجابية بديلة، وأعلن أنه يسعى إلى إقامة علاقات جديدة تقوم على الاحترام والتعاون والندية وتبادل المصالح والشراكة في معالجة الأزمات وحل المشكلات وصنع مستقبل أفضل بحس رفيع من المسؤولية والعدالة.. مستقبل فيه التزام بما هو إنساني ومعرفي وحضاري، بعيداً عن الصور النمطية المغلوطة والتشويه الذي أدى إلى عداء للإسلام وكراهية للغرب. لم يؤسس أوباما خطابه على القوة وأبقاها في الخلفية قوية موحية، ولم يعلن عن مواقف تؤدي إلى وقف الحرب في أفغانستان والامتناع عن التلويح باستخدام القوة هناك بل أكد المضي في ذلك، وأشار إلى أنه قرر الانسحاب من العراق وتركه للعراقيين من دون فرض قواعد عسكرية ومصالح أميركية عليهم.. ولكنه لم يذكر شيئاً عن المسؤولية الأميركية الشاملة عن تدمير ذلك البلد، وعن إشعال الفتنة الطائفية فيه، وتدمير بناه الثقافية والعلمية والعلاقات الاجتماعية لسكانه بقومياتهم وطوائفهم. ولم ترد على لسانه كلمة تشي بأي اعتذار وأية مسؤولية عما ارتكب من جرائم ضد ذلك لبلد لا يمكن أن تُنسى أو تغتفر، كما لم يتكلم عن المسؤولية الأميركية في موضوع إعادة الإعمار.

  يعرف الرئيس أوباما جيداً أن القضية الأساس بين العالم الإسلامي والغرب هي قضية فلسطين، ويعرف أنها مفتاح الحرب والسلم في المنطقة التي يزورها، ومدخل العلاقات الجديدة والثقة المنشودة بين بلاده وبلدان العالم الإسلامي، وقد ركز على ذلك في خطابه ولكنه لم يقدم ما كان ينتظر منه مما يعزز الآراء التي ذهبت إلى تأكيد استمرار انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل. لقد أعلن أنه لن يعطي ظهره لقضية الشعب لفلسطيني، ولكنه لم يأت بجديد يغري بالقول إن العدالة تقترب والانحياز الأميركي الأعمى للكيان الصهيوني بدأ بالانحسار.

وأود أن أتوقف قليلاً عند ما ذكر وما لم يُذكر في الموضوع الفلسطيني الحساس، قبل أن أمضي إلى غيره مما تناوله الرئيس الأميركي في خطابه أو تجاوز عنه في ذلك الخطاب.

   لقد تكلم عن معاناة اليهود، وعن المحرقة والمعسكرات النازية التي سيزورها، وجدد التزام بلاده المطلق بأمن إسرائيل، وتحدث عن العلاقة التي لا يمكن أن تُكسَر بينها وبين بلاده خاصة والغرب عامة. وطالب الفلسطينيين بوقف العنف الذي لن يؤدي إلى نتائج حسب قوله، وذكَّر بما هو غير مقبول من الفلسطينيين مثل إطلاق الصواريخ وتفجير الحافلات.. وأكد دعمه لحل الدولتين ووقف الاستيطان. لم يتكلم الرئيس عن الاحتلال الصهيوني الذي هو أعلى درجات العنف والإرهاب وأساس التوتر والأزمات، ولم يشر إلى ما تعرض له الفلسطينيون من مذابح وتصفيات واعتقالات عبر مسلسل الإبادة الصهيوني البطيء المستمر منذ واحد وستين عاماً.. ولم يقل كلمة عن مستقبل الاستيطان والمستوطنات القائمة، ولا عن حدود الدولتين، والسيادة الفلسطينية التامة ولا عن الأمور الحيوية لشعب تحت الاحتلال، ولم يقل كلمة عن التهويد وجدار الفصل والممارسات الصهيونية التي ضيقت على الفلسطينيين عيشهم، كما لم يذكر ما يجري في القدس وما تعرضت وتتعرض له غزة المحاصرة بالموت. لقد طالب حماس بنبذ العنف ولم يقل " الإرهاب"، وتلك بادرة طيبة وإشارة ذات مغزى، وطالبها بالاعتراف بإسرائيل، ولم يطالب إسرائيل بشيء ذي قيمة يمكن التوقف عنده.. فما معنى وقف الاستيطان من دون الكلام عن تفكيك المستوطنات التي تخنق الشعب الفلسطيني وتقضم ما بقى من أرضه، ولا عن إرهاب جيش الاحتلال الصهيوني والمستوطنين ضد الشعب الفلسطيني؟، ولم يقل شيئاً عن القوانين الصهيونية العنصرية، ولا عن مطلب يهودية الدولة الذي يصادر حق العودة وينذر من تبقى من الفلسطينيين في وطنه الأصلي بترانسفير قادم.. ولا عن غزة ومأساتها المستمرة وما ارتكبه الصهاينة فيها من مذابح، ولا عن.. وعن.. وعن.. فمطالبته لإسرائيل بأي شيء ذي أهمية استراتيجية تدخله دائرة الخطوط الحمر التي لا يسمح له بتجاوزها وإلا اتهم بمعاداة السامية، وفي ذلك مقتل سياسي في الغرب.

لم يذكر الأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني في سورية ولبنان، ولا ما يترتب على ذلك من توتر ومخاطر.. كثير هو الذي لم يلامسه الرئيس أوباما حتى بالكلام، فكيف إذا انتقلنا إلى السؤال عن إمكانية ترجمة الأقوال إلى أفعال، وتسألنا عن برامج عملية لإقناع العرب والمسلمين بما يريد الرئيس الأميركي أن يقنعهم به؟ أحلام الرئيس إنسانية وجميلة ولكنها تدخل في ما أراه " تكتيكاً جديداً" من دون تغيير جوهري في الأهداف والاستراتيجيات الأميركية السابقة.. ولكن ما يهمنا هو ترجمة ذلك إلى برامج عمل وأفعال تضع حداً للاحتلال الصهيوني والهيمنة الأميركية وللحروب وتهديد الهويات القومية والثقافات والخصوصيات الشعبية التي أشار إليها باحترام.

في مجال آخر من المجالات التي تناولها الرئيس أوباما، تمنى.. وتطلع إلى عالم خال من الأسلحة النووية، ولكنه في الوقت الذي أقر فيه بحق الدول بالحصول على الطاقة النووية للأغراض السلمية من خلال عضويتها في الوكالة الدولية المعنية وبإشرافها ـ بما فيها إيران التي لم تكن تطالب بأكثر من ذلك ـ قال إن مشروع إيران النووي يهدد جيرانها العرب.. وهذا استمرار لتأسيس مناخ وظروف فتنة مذهبية بدأت في عهد إدارة بوش بينما هو دعا إلى محاربة الفتن والطائفية المذهبية؟!!. وإضافة إلى ذلك لم يذكر سورية التي تم عدوان إسرائيلي عليها، منسق من الإدارة الأميركية السابقة، وتدمير ما قيل إنه بداية بناء لمفاعل نووي.. على الرغم  من إنكارها لذلك وعدم ثبوت ما يؤكد الادعاء الصهيوني ـ الأميركي، وسورية عضو في الوكالة الدولية الدولية للطاقة الذرية! وفي الوقت ذاته لم يذكر الرئيس أوباما إسرائيل مطلقاً وهي التي تملك مفاعلات نووية تعمل منذ عام 1956 ـ 1957 وأسلحة نووية تراكمها وتتابع تطويرها، وتطالب بتدمير مفاعلات دول أخرى بذريعة أنها سوف تسعى لامتلاك أسلحة نووية مستقبلاً.. وهي رفضت أن تكون عضواً في الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟ كيف ينظر الرئيس أوباما إلى هذه الازدواجية في الوقت الذي جاء فيه ليقول إنه لن يمارس ازدواجية؟ إن هذا منطق لا يستقيم من جهة، ولا يدل على إمكانية قيام توازن في الموقف الأميركي يجعله يحمل مصداقية ويؤثر إيجابياً على علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، ويقوم بدور فال في حل الأزمات والقضايا والمشكلات العالقة منذ عقود من الزمن، من جهة أخرى. ولا يمكن تفسير هذا الموقف إلا في ضوء ما اتفق عليه الصهاينة مع الأميركيين والغربيين منذ زمن، وهو إبقاء موضوع امتلاكهم للسلاح النووي ومفاعلاتهم النووية وأعمالهم في هذا المجال "في دائرة الغموض"، وهو مما استمر بطلب من نتنياهو في لقائه الأخير مع الرئيس أوباما في واشنطن.!؟

لا شك في أن كلام الرئيس أوباما عن رفض "صراع الحضارات"، ومد اليد للتعاون الاقتصادي والثقافي والحضاري على أرضية فكرية وسياسية وثقافية مختلفة عن كلام المتطرفين الأميركيين في دارة بوش وعن آراء المرحوم هنتنغتون صاحب مقولة صراع الحضارات، وأساتذة في هذا النهج منهم ليفي شتراوس وبرنارد لويس.. تقوم على أساس الشراكة الإنسانية في صنع تقدم العالم وحل مشكلاته الكبيرة والكثيرة، والعمل على ازدهار الحضارة من خلال التنوع.. لا شك في أن هذا كلام عميق ومسؤول وصادق، وموقف منه يستحق التقدير والتشجيع، وهو مما يتطلع العالم كله إلى تحقيقه بجدية مسؤولية وإخلاص.. ولكن هل يوقف الرئيس أوباما يا ترى، أو باستطاعته أن يوقف التخريب الثقافي الممنهج الذي تقوم به الـ C.I.A والمتحالفون معها في الداخل والخارج، ضد ثقافات منها الثقافة الإسلامية وقيم الإسلام الروحية، وضد هويات شعوب وأمم منها أمتنا العربية، وقوميات مضطهدة تتعرض للتشويه منها القومية العربية؟

لم يحن الوقت بعد للحكم على الرئيس أوباما وسياسته وقدراته في هذا المجال، فما زال خطاب النوايا الطيبة الذي ألقاه يوم الخميس 4 حزيران 2009 في القاهرة ساخناً، وإقامته وتجربته في البيت الأبيض طازجة، وهو يدخل شيئاً فشيئاً في أعماق الدهاليز الكبيرة للسياسة الأميركية الخطيرة التي ارتكبت وترتكب جرائم كبيرة ضد الشعوب والثقافات.. إنه يستكشف، وربما يكتشف الأسرار الخطيرة والمثيرة، ومن يصنعون مآسي العالم وقرارات الرئاسات، ومن يحرك أجهزة ومؤسسات وشركات وشخصيات..إلخ.. عند ذلك سوف يقف بصورة أفضل وأشمل على عمق التغلغل الصهيوني ـ التلمودي، وعلى المصالح التي تحرك الأجهزة والمؤسسات والشركات، وعلى دورها وتأثيرها جميعاً في رسم السياسات وإشعال الحروب والتجارة بالدم البشري والسلاح وبكل ما يغدو عند عتبتها بحكم المباح والمستباح.. وأنها لا تهدف إلا إلى تعزيز الهيمنة العولمية ـ الإمبريالية الجديدة، والعنصرية الصهيونية البغيضة، ورأس المال الجشع، وتشكل مداخل لأشكال النهب والغزو والابتزاز والاستلاب، وتوظيف الجيوش لتحقيق مصالح وأحلام إمبراطورية وعنصرية شريرة، على حساب دول وشعوب.. على حساب الأبرياء والبسطاء والضعفاء، وعلى حساب القيم والديانات والثقافات الأصلية والأصيلة، وعلى حساب  الحضارة البشرية وتقدمها.

لا أقول إن الرئيس أوباما سوف يكشف الشراكات والأجهزة، ولكنني أتمنى ألا يصبح جزءاً منها ولا لاعباً رئيساً ماهراً فيها، فطيبته الظاهرة تدفع إلى مثل هذه التطلعات حتى لا يأتي يوم يتلمس فيه حديد جسوره الجديدة، ويرثي فيه أوباما الرئيس أوباما الطيب.

موسكو في 5/6/2009