خبر هل تتخلص أميركا من ثقافة الخوف وتقويض الأمن؟! ..مازن النجار

الساعة 04:29 م|28 مايو 2009

ضرورة القطيعة مع هذا الإرث .. هل تتخلص أميركا من ثقافة الخوف وتقويض الأمن؟! ..

مازن النجار

 

أدى إعلان إدارة بوش حربها العالمية ضد الإرهاب، إلى أكلاف معنوية ومادية باهظة تركت آثاراً غائرة على وجه التجربة والحضارة الأميركية، بحيث يمكن القول بأن عهد هذه الإدارة قد بدّل الثقافة العفوية وحياة الاسترخاء والحلم الأميركي، وأنها قد لا تعود لسيرتها الأولى. في هذا السياق، لا بد من عرض تلك التغيرات والتبدلات التي طرأت على التجربة الأميركية في سنواتها العجاف الماضية لكي يمكن رؤية ملامح أو آفاق السنوات القادمة في هذه التجربة التي استولت على مخيلة وتطلعات شعوب وأمم كثيرة.

 

خلقت "الحرب على الإرهاب" ثقافة الخوف في الولايات المتحدة؛ فتحويل إدارة بوش لهذه الكلمات الثلاث لشعار وطني منذ سبتمبر/أيلول 2001، كان له تأثير مدمر على الديمقراطية الأميركية والنفسية الأميركية ومكانة الولايات المتحدة عالمياً. بل إن استخدام عبارة "الحرب على الإرهاب" قد قوض قدرة أميركا على مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجهها من قبل "متطرفين" قد يستخدمون الإرهاب ضدها، هكذا يخلص زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي بإدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر.

 

أوقعت الكلمات الثلاث إيذاء ذاتياً لأميركا أعظم مما فكر به المتورطون بهجمات سبتمبر/أيلول 2001. بل إن عبارة "الحرب على الإرهاب" ذاتها لا معنى لها. فهي لا تقدم تعريفاً لسياق جغرافي محدد، كما لا تحدد الأعداء المفترضين. فالإرهاب ليس عدواً بذاته، وإنما هو أسلوب في الحرب والصراع. لكن غموض العبارة كان مقصوداً بشكل متعمد أو غريزي من قبل أصحابها. فالإشارات والتنويهات المتواصلة بها أنجزت هدفها الأساس: استحثاث ثقافة الخوف. فالخوف يطمس العقل، ويكثف العواطف والانفعالات، ويسهّل على السياسيين تعبئة الرأي العام لصالح سياسات يسعون إليها.

 

الحرب التي اختارت الإدارة خوضها في العراق لم تكن لتنال دعم الكونغرس بدون الارتباط النفسي بين صدمة سبتمبر/أيلول 2001 والوجود المزعوم لأسلحة الدمار الشامل العراقية. كذلك، كان الدعم الذي تلقاه الرئيس بوش في انتخابات 2004 الرئاسية يعود جزئياً لفكرة أن "أمة في حالة حرب" لا تغير القائد الأعلى لقواتها المسلحة في منتصف المعركة. فالإحساس بالخطر الهائل،  وإن لم يكن محدداً أو دقيقاً، قد تم توجيهه نحو اتجاه سياسي نفعي تعبوي لكون البلاد في حالة الحرب.

 

لتبرير "الحرب على الإرهاب"، صاغت الإدارة سردية تاريخية زائفة، قد تصبح نبوءة ذاتية التحقق. وبادعاء أن حربها الراهنة مشابهة لكفاح الولايات المتحدة مبكراً ضد النازية والستالينية (بينما تتجاهل حقيقة أن كلاً من ألمانيا النازية وروسيا السوفياتية كانتا قوتين عسكريتين عتيدتين من الطراز الأول، وهو ما لا تمتلكها "القاعدة" ولا تستطيع إنجازه).

 

تشبه ثقافة الخوف جنياً أخرج من قمقمه، فاستحوذت على زمنها ودورة حياتها الخاصة بها، ويمكن أن يكون لها وقع مدمر للمعنويات. فأميركا جورج بوش ليست هي تلك الأمة الواثقة بنفسها عندما استجابت لهجوم اليابان على قاعدة "بيرل هاربر" البحرية؛ وهي ليست أميركا التي قال رئيسها فردريك روزفِلت في لحظة أزمة أخرى: "إن الشيء الذي ينبغي الخوف منه هو الخوف ذاته"؛ وليست أميركا الهادئة التي شنت حرباً باردة بمثابرة وإصرار هادئ رغم علمها بأن حرباً حقيقية يمكن أن تنشب فجأةً خلال دقائق، وتؤدي لهلاك 100 مليون أميركياً، خلال ساعات.

 

لكن في عهد إدارة بوش، الأميركيون انقسموا على أنفسهم، وافتقدوا اليقين، وشعروا أنهم أكثر هشاشة وتعرضاً للرعب في حال وقوع هجوم آخر في الولايات المتحدة ذاتها. تلك نتائج سنوات من غسيل الدماغ القومي المتواصل حول موضوع الإرهاب، هذا بخلاف ردود فعل أكثر انضباطاً لأمم أخرى عديدة (كبريطانيا وأسبانيا وإيطاليا وألمانيا واليابان، مثلاً)، وهي التي عانت هجمات مؤلمة أيضاً.

 

لا خلاف حول أن أميركا كانت في عهد بوش غير آمنة وأميل لجنون الارتياب. أدى الجو العام الذي ولدته "الحرب على الإرهاب" لتشجيع اضطهاد العرب الأميركيين قانونياً وسياسياً بسبب ممارسات لم ينفردوا بها. ومن النتائج غير المباشرة للحرب ضد الإرهاب التمييز الاجتماعي ضد المسلمين. وفرّخت ثقافة الخوف تعصباً، وتشككاً في الأجانب، وتبنياً لإجراءات وأساليب قانونية تقوض المفاهيم الأساسية للعدالة، كقاعدة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، إن لم يكن قد تم تفكيكها بالفعل. مواطنون أميركيون سجنوا لفترات طويلة دون إجراءات العدالة المتعارف عليها.

 

وليس هناك أي دليل معروف وملموس على أن هذه التجاوزات قد منعت أعمالاً إرهابية، كما أن أحكام الإدانة بحق إرهابيين محتملين من أي نوع كانت قليلة ومتفرقة. ويوماً ما، سيخجل الأميركيون من هذا السجل كما هم الآن خجلون من أمثلة أخرى مبكرة في تاريخهم، والتي نجمت عن رعب الأكثرية المفضي للتعصب ضد الأقلية.

 

سببت "الحرب على الإرهاب" عطباً بالغاً لمصالح وسمعة الولايات المتحدة على المستوى الدولي. فالبنسبة للمسلمين، التماثل بين المعاملة القاسية للمدنيين العراقيين على يد العسكر الأميركيين وبين معاملة الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين قد دفع لشعور عدائي واسع الانتشار تجاه الولايات المتحدة، ولم يقتصر هذا السخط على المسلمين وحدهم.

 

في أعقاب انتخاب الرئيس باراك أوباما، بزغت آمال كبيرة بين الأميركيين وغيرهم بأن تتخلص الولايات المتحدة من هذا الإرث الثقيل، وبدأ الرئيس أوباما يتخذ إجراءات في هذا السياق. فوقّع قراراً رئاسياً بتصفية وإغلاق معتقل غوانتنامو سيء السمعة، والذي ألحق بالبلاد أسوأ الضرر، وأمر بوقف كافة ممارسات التعذيب، وسمح بالإفراج عن الوثائق التي تبادلها قادة إدارة بوش حول تقنين تلك الممارسات، إضافة إلى صور التعذيب. لكن سرعان ما أجهضت هذه المحاولات.

 

تحت ضغط حجب التمويل، أحبط الكونغرس الأميركي مشروع الرئيس لإغلاق معتقل غوانتنامو، وأمر الرئيس بوقف الإفراج عن صور التعذيب. ثم تلا ذلك، إعلان البيت الأبيض عن استمرار العمل بنظام اللجان العسكرية لمحاكمة المعتقلين في غوانتنامو، وهي المشكوك في شرعيتها أو دستوريتها بالأساس. من ناحية أخرى، استمر الإدعاء العسكري الأميركي في نفس المواقف والممارسات إزاء المعتقلين، من معتقل باغرام في كابل بأفغانستان إلى غوانتنامو في كوبا، وكأن إدارة بوش لا تزال تحكم، وكأن الأميركيين لم ينتخبوا رئيساً شعار حملته الانتخابية "تغيير يمكن أن نؤمن به".

 

الحقيقة أن الولايات المتحدة لن نستطيع الإفلات من كابوس الخوف وتقويض الأمن إلا بإحداث قطيعة تامة مع هذا الإرث الثقيل والمسيء إلى ما تدعيه من قيم إنسانية ومثل ديمقراطية. فكرة القطيعة مع الماضي هي جوهر أطروحة نادى بها منذ عقود الفيلسوف السياسي جيوفاني سارتوري، في كتابه الذائع "الأحزاب وأنظمة الأحزاب". في هذا الكتاب كان سارتوري يعالج قضية الانتقال من الأحادية السياسية إلى التعددية السياسية، أو من حكم الحزب الواحد إلى نظام التعدد الحزبي. أكد سارتوري أنه لا يمكن يحدث ذلك التحول بدون قطيعة تاريخية فكرية ومادية تمس كافة مظاهر الأحادية ومؤسساتها وأفكارها وتقاليدها التي قامت عليها. لا بد من انفجار ما مدوٍ يضع حداً للسياق الأحادي ويفتح السبيل باتجاه التعددية.

 

الولايات المتحدة الآن على مفترق طرق: إما أن تحدث تلك القطيعة وتسترد روحها وإما أن ترزح تحت إرث بوش والمحافظين الجدد الذين أساءوا غاية الإساءة إلى أمتهم والعالم، وأن تفقد ما تبقى من قوتها الناعمة.