خبر فلسطين: قضية العرب أم مشكـــلة الفلسطينيّين؟ ..عزمي بشارة (2/2)

الساعة 09:24 ص|28 مايو 2009

ـ الأخبار اللبنانية 28/5/2009

لم يكن الاهتمام بالقضية الفلسطينية بمجملها يوماً، اهتماماًً بالفلسطينيين أنفسهم، ولهذا لم تنتهِ قضية فلسطين بل ازدادت تعقيداً مع مرور الزمن. ليس صحيحاً القول إذاً إن هناك اليوم اهتماماً دولياً أكبر وتضامناً متنامياً مع قضية فلسطين، فهذه الأخيرة تأثرت أكثر من أية قصية أخرى سلباً بالتطورات الدولية. فقد شهدت، منذ نشأتها، محاولات لتحويلها إلى كبش فداء لصراعات دولية عديدة، منذ ثورة 36 ـ 39 التي مثّلت عبئاً على الإمبراطورية البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية وحتى انعكاس الانهيار الذي أصاب المعسكر الاشتراكي مروراً بكل تطور دولي، ما جعلها على مر العقود، بشكل غير مسبوق، أسيرة للتطورات والتشابكات الدولية.

قضية فلسطين إذاً هي أسيرة المسألة اليهودية الأوروبية. أمّا مصدر التعقيد الثاني، فيكمن في كونها أسيرة مسألة عربية غير محلولة حوّلت قضية فلسطين إلى قضية بين دول عربية مختلفة تعيش صراعات في ما بينها، فهي تارة قضية إيديولوجية بالنسبة للدول التي تقدم نفسها كأنظمة راديكالية ثورية، وطوراً قضية صفقات مع الاستعمار والولايات المتحدة عند نوع آخر من الأنظمة.

وقعت قضية فلسطين على تقاطع مسألتين معقدّتين جداً، تعرف إحداهما بالمسألة اليهودية، فيما أعرّف أنا الأخرى على أنها المسألة العربية قي الشرق. وهي المسألة نفسها التي تجعل الدول العربية تبحث عن حلول منفردة مع إسرائيل ما دامت مسألة الأمة غير محلولة. وعند نقطة الالتقاء والتشابك، تقع القضية الفلسطينية. في ظل هذا، يستحيل أن نقول إن قضية فلسطين لاقت اهتماماً فاض عن حاجتها، حيث إن هناك كماً هائلاً من العناصر الدولية التي تحالفت ضدّها بصورة غير مسبوقة في التاريخ.

قضية فلسطين، قضية لاجئين؟

تختلف الرؤى في تحليل سبب شن إسرائيل حرب عام 67. فقد اعتبرها البعض محاولة منها لإسقاط «الأنظمة التقدمية». فيما هناك شريحة واسعة تدعي أن هدف حرب الـ67 كان التوسع من النيل إلى الفرات، ولكون إسرائيل لم تتوسع من النيل إلى الفرات، يمسي مدعاة للفرح حيث اقتصر الاحتلال على سيناء والضفة والجولان. وما نظرية من النيل إلى الفرات سوى أسطورة عربية ـ إسرائيلية، فالإسرائيليون عاجزون عن احتلال أراضٍ تمتد من النيل إلى الفرات، ولم يستوعبوا غزة وهم بالكاد يستوعبون الضفة. وطبعاً بدلاً من الإقرار بالهزيمة، يجري تعظيم قدرات إسرائيل وإمكانياتها وأهدافها. وقد تكون هناك أهداف اقتصادية إيديولوجية للحرب، ولكن الهدف الاستراتيجي الحقيقي شبه المعلن وما يُمارس سياسياً هو احتلال أراضٍ لمبادلتها بإنهاء حالة الحرب العربية مع إسرائيل والاعتراف بها والتطبيع معها، وذلك في فترة لم تجف عنها بعد دماء حرب 48 وذلك بعد مرور تسعة عشر عاماً على نكبة فلسطين.

إنّ تحقيق مثل هذا الاعتراف والتطبيع وقبول إسرائيل في المنطقة بعد أقل من تسعة عشر عاماً على أكبر عملية سطو مسلح على وطن عربي يُعتبر إنجازاً تاريخياً لإسرائيل من دون تحقيق شعار «من النيل إلى الفرات». وهل من إنجاز أهم من ذلك؟ كانت إسرائيل تعيش حينها حالة من الحرب وعدم الاستقرار والتسلل والعمليات الفدائية وبدايات جنينية لولادة حركة تحرر وطني فلسطيني حديثة. وكان هناك إيمان عربي قاطع بضرورة تحرير الأرض وتفكيك هذا الكيان، ولم تسدِ ثقة إسرائيلية أو دولية، ولا حتى بين ما يسمى بيهود الشتات، بإمكانية استمراريته.

وفلسطينياً كما قلنا، كانت قد تكوّنت منظمة التحرير من جهة ومنظمات العمل الفدائي من جهة أخرى، وكان الإيمان بإمكانية التحرير قوياً لدرجة تدفع العلماني للاستشهاد من أجل فلسطين قبل المتدين. وأذكركم هنا بأن قضية التضحية والاستشهاد التي تبدو الآن خاصة بالمتدينين والحركات الدينية ليست بالضرورة علمانية أو دينية، بل هي مسألة إيمان بقضية.

وأبدت حينها الحكومة الإسرائيلية نيتها الانسحاب من الأرض عندما أرسلت فوراً برقية إلى الرئيس الأميركي حينها ليندون جونسون عبّرت فيها عن استعدادها للانسحاب من الأراضي التي احتلتها باستثناء القدس، (وهي قضية مختلفة حيث ضمت القدس مباشرة إليها)، وفي ما عدا ذلك هي ترغب بأن تبادل الأراضي بالسلام مع العرب وغيرهم... وطبعاً تطورت مطامع إقليمية وبوشر بسياسة الاستيطان.

أما الادعاء بأن تحرير أرض دولة عربية احتلت في حرب حزيران مقابل السلام المنفرد مع إسرائيل هو إنجاز كبير، فنذكر أنه كان يُعتبر بمنطق قمة الخرطوم التي عقدت بعد الحرب مباشرة خيانة. لقد جاءت لاءات الخرطوم لا مفاوضات لا صلح لا سلام، لأن هدف تلك الحرب هو تحقيق الاعتراف بإسرائيل وعقد اتفاقية سلام معها مقابل الأرض التي تنسحب منها. أكثر من ذلك، فإن قيام أول دولة عربية وأكبرها بالخطوة الأولى بالتوصل إلى اتفاق سلام مقابل استعادة سيناء، بدّد حتى حاجة إسرائيل إلى مبادلة كل الأرض بالسلام. فبعدما كانت المساومة صعبة في البداية، باتت سهلة بعد تحقيق مثل هذا الاعتراف. فهو كاد يستثني الحرب العربية خياراً، بعدما انتشر الاعتقاد القائل إن الحرب غير ممكنة من دون مصر... وبذلك لم يعد السلام مع الآخرين ملحاً.

لم تكن هذه حصاداً لنتائج حرب أكتوبر كما يدعى بل مأسسة لهزيمة عام 67. وتحولت هذه الخطوة مع الوقت إلى نموذج تقتدي به كل الدول العربية، يحمل أسماء متنوعة كتطبيق قرار 242 (الأرض مقابل السلام)، بالإضافة إلى الاسم الأكثر رواجاً حالياً ألا وهو تحقيق الشرعية الدولية، وهو مصطلح عربي يفتقر إلى أية ترجمة له باللغات الأجنبية.

هناك شرعية أخلاقية وشرعية وطنية، ولكن ليست هناك من شرعية دولية. إنه مصطلح ابتكره العجر العربي وفقدان إرادة المواجهة. وهكذا أيضاً صُمِّم هذا النموذج المسمى بالأرض مقابل السلام، لتمسي معه قضية فلسطين قضية الأراضي المحتلة عام 67. فيما الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران كان يسمى عربياً «إزالة آثار العدوان»، وكان يُعتبر شرطاً للمفاوضات. فكان الانسحاب إلى أراضي 67 هو شرط التفاوض وليس نتيجة التفاوض، ولم يكن يعرف بالانسحاب من الأراضي المحتلة بل عرف بـ«إزالة آثار العدوان»، أي أن يعود كل شيء على ما كان عليه قبل الحرب.

وتبقى المعضلة الكبرى هي هذا التبني الفعلي «الرسمي» الفلسطيني (وما الرسمي قبل قيام الدولة؟ ما الرسمي بلغة حركات التحرر؟) لاختزال قضية فلسطين على قضية الأراضي المحتلة عام 67، ولا سيما أنها يطرحها لاجئون شرّدوا عام 48. فمنظمة التحرير الفلسطينية بسلبياتها وإيجابياتها قد انطلقت كونها حركة لاجئين من دون أرض، وتكمن كل من سلبياتها وإيجابياتها في هذه النقطة بالذات، إذ إنها ليست حركة الفلسطينيين على الأرض، حيث لم تقم في الضفة أو عند عرب 48، بل انطلقت من مناطق اللجوء والشتات (في الكويت ولبنان وسوريا والأردن وغيرها، ومن ضمنها غزة التي كانت وما زالت أشبه بمخيم كبير للشتات لجأ إليه أهالي يافا جنوباً، وليست مجرد منطقة محتلة عام 67). كانت منظمة التحرير وفصائل العمل الفدائي عموماً، حركة لاجئين، ولم تنشأ في المناطق التي احتلت عام 67، بل قبل ذلك.

وهنا، لا بد من طرح المسألة التالية المتعلّقة بمفهوم الحق وتشويه استخدامه عربياً ليتماشى مع السياسات الجديدة، وكمثل على ذلك نأخذ «حق المقاومة» و«حق العودة». لقد لحق تعديل غريب عجائبي على حق العودة المشتق من قضية لاجئين شردوا من ديارهم بغير حق بفعل حربي، وذلك بعدما تحول «الحق» إلى ورقة تفاوضية في مسار فلسطيني ـ إسرائيلي على مسألة دولة واحدة من 22 دولة عربية.

هنا أصبح حق العودة حقاً نظرياً، والمطلوب هو اعتراف نظري به ولكن ليس حق ممارسته. ومنذ أن صار هنالك سلام ومسارات لعملية السلام، جرى التنازل عن الأدوات الأخرى واعتبار التفاوض هو الطريق الوحيد.

وتعتبر المقاومة حقاً نظرياً. وانتشرت عربياً ظاهرة الاعتراف بحق المقاومة، ولكن من دون إمكانية استخدامه، بل يحارب ويمنع من يمارسه. وهكذا منعت المقاومة الفلسطينية من كل الجبهات العربية مع إسرائيل الواحدة تلو الأخرى، وذلك ليس لأن هنالك استراتيجية حربية عربية للتحرير يجب أن تنصاع المقاومة لها، بل لأنه في إطار السلام مع إسرائيل، لدى الأنظمة التزامات تنفذها بممارسة أشكال القمع والاعتقال كلها، بما فيها تسليم المقاومين إلى إسرائيل، إلا أن حق المقاومة النظري يبقى محفوظاً. فلا يمانع أحد في حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، إلا أن لا أحد يقبل ممارسة فعل المقاومة الفلسطيني. ماذا فعلنا أكاديمياً لترميم مفهوم الحق؟ حق المقاومة من دون مقاومة، وحق العودة لكن من دون عودة، يما يعني القهوة من دون كافيين (ديكاف)، وطبّق ذلك في كل من مصر (التي باتت تتدخل بحق المقاومة حتى في قطاع غزة المحتل) والأردن... وفي سوريا منذ عام 1982 في لبنان. وذلك دون أن تعقد الدولتان الأخيرتان اتفاق سلام ولتجنب الانجرار إلى حرب مع إسرائيل.

أما فلسطينياً فالمصيبة أكبر، إذ يجري في إطار السلطة الفلسطينية التنسيق أمنياً مع إسرائيل ضد المقاومة، وهذه أهم نتائج اتفاق أوسلو.

لقد آن الأوان للكلام على واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال، وواجب الدول في دعم المقاومة، وليس على حق الشعوب في مقاومته. فهذا حق تقره الشرائع الدولية والاعتراف به ليس فضيلة نضالية. في أوساط الشعب الفلسطيني والأمة العربية يجب الحديث عن واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال لا حقها.

وكما يرتبط حق المقاومة بممارسته واجباً، كذلك يرتبط حق العودة بدور اللاجئين السياسي، فهم حملة هذا الحق وهذه القضية وأصحابها. ولا يعقل أن يقتصر دورهم على التضامن مع غزة، فيما هم الأصل. الأصل هو حق العودة، والعودة مرتبطة بمشروع التحرير. إذ إن انتزاع حق العودة بالتفاوض مستحيل. فكيف استحال دور الشتات إلى التضامن مع غزة؟ وما هو دور الشتات الفلسطيني؟ وكيف يمكن استعادة هذا الدور؟ لا بد من طرح هذه الأسئلة في ذكرى النكبة. إذ يجب ألا يكون إحياؤها احتفالاً، لأن النكبة ما زالت مستمرة والشتات مستمراً. ورأينا مظاهر كليهما أخيراً متجلية في حال لاجئي العراق ونهر البارد. من يهتم بهؤلاء الناس ويرعى شؤونهم؟ ومن ينظمهم لأخذ دورهم في النضال؟ لا بد أن يحدّد هذا السؤال بنية حركة التحرر الفلسطينية، ليمسي الباقي نقاشاً نظرياً أكاديمياً.

إذا كان اللاجئون الفلسطينيون خارج عملية صنع قرار في حركة التحرر الفلسطينية، يصبح حق العودة كلاماً ليس إلا. ويشمل السؤال دور اللاجئين في عملية صنع القرار وأين هو صوتهم في عملية صنع القرار الفلسطيني؟ فهنالك خشية حقيقية من إخراج اللاجئين من عملية صنع القرار، لأن ذلك من شأنه أن يحوّل القضية الفلسطينية إلى مجرّد جلسات تفاوض وورش حوار لنخب منفصلة عن واقع القضية الأصلي، فيما واقع المخيم على شفير الانفجار.

حق العودة وواجب المقاومة

إنّ النكبة قضية العرب ولن يتحرر العرب ما لم يتحرر الفلسطينيون، ولن يتحرر الفلسطينيون دون أن يتحرر العرب. وهذا لا يعني أن نتيجة تقود لأخرى بل إن هذه صيرورة واحدة مترابطة لا تؤجل فيها مهمة بانتظار الأخرى. فالقضيتان مرتبطتان ارتباطاً عضوياً لا ينفصمان. وحدها المقاومة تحقق انتصارات وإنجازات وتصد عدواناً وتبلور إرادة شعب. المقاومة تبين لمجمل الأمة إمكانية الانتصار، ولكنها وحدها لا تكفي لتحرر فلسطين، ولا بد من جهود الأمة ولا يجوز تحرير العرب من هذا العبء.

وكانت كل المحاولات العربية الرامية إلى وضع إحداهما، التحرير ثم تغيير الحالة العربية، أو تغيير الحالة العربية شرطاً للتحرير، كانت كلها محاولات عبثية لأنها لا تقوم على ترابط جدي بين الأمرين. فعملية التحرير هي نفسها في القضيتين، وهي متشابكة مترابطة ليس لها أول ولا آخر. الفلسطينيون الذي ادّعوا أن المهمة مهمتهم فقط هم أنفسهم تحولوا في النهاية إلى ما يشبه نظاماً عربياً رسمياً. والعرب الذين تناسوا النكبة هم أنفسهم الذين أقاموا أنظمة عسكرية، وهم أنفسهم الذين أقاموا أنظمة فساد. فتذرّعت تلك الأنظمة الاستبداية بالإنفاق العسكري كونه أنهك الاقتصاد الوطني، فيما لو لم يكن هناك من فلسطين لاخترعت تلك الأنظمة أسباباً أخرى تعلّل به ضعف اقتصادها. وليس صحيحاً أن هذه الأنظمة أمست استبدادية لأنها لم تتمكن من تطوير بناها ومؤسساتها نتيجة الاستنفار الدائم لمواجهة إسرائيل. فالإنفاق الاقتصادي والبشري لا علاقة له البتة بقضية فلسطين، وأكبر دليل على ذلك هو أن أكثر طرف على تماس بقضية فلسطين عسكرياً واقتصادياً وإنسانياً واجتماعياً هو إسرائيل. فلماذا تمكّنت إسرائيل من إنشاء اقتصاد مزدهر ومؤسسات علمية ومن تأسيس ديموقراطية لليهود من طراز خاص، ومن تعزيز استقلالية محاكمها إضافة إلى تطوير هويتها الوطنية ولغتها العبرية؟ ولماذا يدخل اقتصادهم عالم «الهاي تيك» والـ«مايكرو أوبتكس» وباتوا يحصلون على جوائز نوبل في العلوم في ظل حالة حرب واستتفار دائمين. هم حاربوا فعلياً بالقدر الذي حاربت فيه كل الدول العربية مجتمعةً، لا بالقدر الذي حاربت فيه كل دولة على حدة. إنهم أكثر «دولة» تحملت «عبء قضية فلسطين» بالمعنى المعكوس للكلمة طبعاً. لماذا يسجل اقتصادهم معدّل نمو وصل في فترات معينة إلى 7 في المئة محققاً بذلك أرقاماً قياسية؟ لماذا الطبقة الوسطى مقبلة أبداً على التوسّع؟

حدث هذا كله أثناء الحرب. ولذلك لم يقولوا «نريد أن نعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، لم يعد في وسعنا تحمل المزيد». طبعاً هنالك عوامل كثيرة مثل الدعم الأميركي وغيره، ولكن كان هنالك مال عربي أيضاً.

المسألة الأساس هي طبيعة الأنظمة لا نوع المهمة. فبعض المهمات التي تنوء بها أنظمة، تزدهر لها أنظمة أخرى وتكون لها دافعاً للنمو والتطور.

ما لا شك فيه، أن التخلي عن قضية فلسطين هو كبش فداء لألف هدف في نفس يعقوب للحفاظ على أنظمة الديكتاتورية القائمة وعلى الظلم السائد. إن أمن النظام لا الأمن القومي هو الذي تطلب ذلك. وهذا ناتج من طبيعة كل نظام ولا علاقة له بقضية فلسطين. ولا يتحمّل الشعب الفلسطيني انطلاقاً من عام 48 وزر هذه القضايا. لم يمثّل الفلسطينيون بجمهور لاجئيه كارثة طبيعية على الناس، بالإضافة إلى أنه كان بإمكان قضيتهم أن تكون محفزاً على التطور الاقتصادي والاجتماعي ومحفزاً للدَمَقرَطة ومحفزّاً للعدالة، وهذا كان ليحدث لو كانت هذه هي خيارات أنظمة الحكم السائدة، ولكان الأمر مختلفاً. ففي إسرائيل يعتقدون أنه للتمكن من المحاربة بالطريقة المثلى، لا بد من ترتيب الوضع الاقتصادي، وتعزيز الطبقة الوسطى وتوفير تأمين صحي وغيرها من الضمانات. وتستحيل الحالة الحربية إلى حالة تطوير للاقتصاد وللتنسيق بين الجيش والأبحاث والصناعة، لا العكس. ولطالما يُتهم الفلسطينيون زوراً بأنهم سبب التدهور الاقتصادي في البلاد التي لجأوا إليها، فيما دورهم كان جلب ازدهار اقتصادي في العديد من الحالات ككفاءات وكناس عاملين.

وفي هذا السياق، لا بد من التساؤل التالي: أولاً: ماذا تعني كلمة لاجئين بالعربية بالنسبة إلى قوم عرب، وثانياً كيف يتهمهم بعض العنصريين بأنهم كانوا «عالة»، فيما هم أحضروا كل هذه الكفاءات والقدرات وبذلوا كل هذا الكد والكدح والجهد وشاركوا في بناء دول حقيقية في المنطقة، من جهاز التربية إلى جهاز القضاء، وليس فقط في بناء شركة خاصة أو شركتين.

وأخيراً، لا بد من طرح السؤال التالي: ماذا سيحل بالمخيم الفلسطيني من دون حق عودة، إذ إننا لا نستطيع أن نتعامل معه دائماً كمسألة نظرية تقتصر على الدراسات والأبحاث. نحن الآن أمام المشهد التالي: هُمّشت منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً للاجئين أيضاً بعد اتفاقيات أوسلو، ويجري إحياؤها تكتيكياً لغرض مواجهة تيار من خارجها فاز بالانتخابات كأداة فقط ضد حركة المقاومة لتهميشها وتفريقها. فيما تخوض السلطة الفلسطينية عملية سلام متعلقة بالضفة والقطاع متذرّعة بأنه لم يبق لديها خيارات أخرى. ولذلك في مثل هذه الظروف، لا يبدو حق العودة قريباً، ولا سيما في ظل منع المقاومة من ممارسة حقها من الخارج بسبب تهويل النظام الرسمي العربي من قوة إسرائيل.

لا يريدون خوض الحرب ولا يريدون السماح لأحد بالمقاومة. لقد كانت الحرب الحقيقية الوحيدة التي خاضها العرب في القرن العشرين هي الحرب ضد إيران بواسطة العراق بدعم من معظم الدول العربية، ولا سيما الخليجية، واستمرت ثماني سنوات. وسقط في هذه الحرب مئات الآلاف من الشهداء. فيما راح هؤلاء العرب أنفسهم يهوّلون مسألة سقوط ألف شهيد في لبنان وفي غزة، معتبرين ذلك تدميراً للبلدان والشعوب. وبلجوئها إلى تلك الذرائع، تعبّر تلك الأنظمة العربية عن عدم رغبتها في خوض الحرب مع إسرائيل، وهي جميعها، من دون أي استثناء، تمنع المقاومة الفلسطينية من أراضيها وعبر حدودها.

إن سقوط ألف شهيد لا يعني البتة إبادة شعب، وإن كان يعتبر من جرائم الحرب. لا تريد الأنظمة العربية أن تحارب ولا تسمح للطرف الآخر بأن يقاوم، ما يجعل المفاوضات عبثية، إذ فقد الطرف الآخر سبباً ليقدّم تنازلات حقيقية في المفاوضات، وهكذا تسدّ كل الآفاق. في مثل هذا الوقت إذاً الذي تمنع فيه الدول العربية المقاومة الفلسطينية من أراضيها، لا يبدو حق العودة قريباً. أما المقاومة المجيدة الباقية في لبنان فهي باقية لأنها لبنانية، وبفعل ضعف الدولة المركزية، وكذلك نوع المقاومة الباقية داخل فلسطين لعدم تمكن السلطة من فرض نفوذ كامل على الضفة وغزة بعد.

لقد بقي الفلسطيني في المخيم بعد النكبة إما لأن العودة قريبة أو للالتحاق بصفوف المقاومة، أو لأن المخيم قاعدة مقاومة. لا بد من طرح حق المخيم الفلسطيني في المقاومة والانخراط في ركب حركة تحرر وطني فلسطيني يضطلع فيها بدور طليعي. ولكن يشهد المخيم الفلسطيني إنتاج طلب سياسي متعلق به يجعله يتساءل ما معنى المخيم دون عودة قريبة ومن دون مقاومة.

صحيح أن اللاجئين في مخيمات شمال لبنان وفي غيرها من مناطق اللجوء صامدون وصابرون، إلا أنه لا أحد يستطيع أن يلغي وظيفة المخيم التاريخية، ألا وهي إما أن اللاجئ موجود ليعود إلى دياره، أو أنه موجود في مخيم هو لأنه مدرسة للمقاومة وقاعدة لها.

إذا لم نجب عن هذا السؤال الملح وبسرعة فإن النتيجة ستكون تحويل المخيم إلى غيتو وحي فقر، ونحن نعرف سوسيولوجياً ماذا تنتج الغيتوات وأحياء الفقر.

وفي الختام إذاً، لا بد من طرح هذه الأسئلة المشروعة في الذكرى الواحدة والستين للنكبة، وهي أسئلة متعلقة بمشاريع كبرى، منها إعادة مناقشة الوضع الفلسطيني والعلاقة مع الوضع العربي، وخلق حالة من الضغط السياسي والفكري عبر وعي هذه الأسئلة وطرحها، وهنالك فصائل ومنظمات ودول من واجبها أن تجيب عن هذه الأسئلة وأن نناقشها على إجاباتها هذه، وألا نسمح لها بالتهرب بالخطاب الديماغوجي. ولا أعرف مكاناً أفضل من الجامعة ومن هذا الجيل للبدأ بالمناقشة وطرح الأسئلة.