خبر قراءة في وقائع المؤتمر الصحافي بين أوباما ونتانياهو ..حسن نافعة

الساعة 09:42 ص|27 مايو 2009

ـ الحياة 27/5/2009

حرصتُ على متابعة المؤتمر الصحافي الذي عقده كل من الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عقب لقائهما في واشنطن في بداية الأسبوع الماضي. وقد بلغ هذا الاهتمام حدا دفعني إلى عدم الاكتفاء بمشاهدة وقائع اللقاء بالصوت والصورة، وهو أمر له أهميته الخاصة في التعرف على الحالة المزاجية للمتحدثين، وإنما إلى العودة أيضا لقراءة نص اللقاء المنشور على موقع البيت الأبيض على «الانترنت»، وهو أمر له أهميته الخاصة في محاولة تبيّن ما وراء الكلمات التي نطق بها الرجلان خلال هذا المؤتمر. فقد كان هناك إجماع واضح بين المراقبين على أهمية اللقاء الرسمي الأول بين رجلين يبدوان على درجة عالية جدا من الذكاء الشخصي ويتمتعان بسرعة بديهة، لكنهما مختلفان كل الاختلاف. فكلاهما يدرك تمام الإدراك أن نمط العلاقات الفريدة بين بلديهما، والذي ترسخ عبر عقود طويلة، يبدو أعقد بكثير من قدرة أي منهما على تغييره أو العبث به على نحو مفاجئ. ومع ذلك فكلاهما يدرك في الوقت نفسه أن بلديهما يمران بظروف موضوعية في هذه اللحظة تدفعهما، ربما للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، نحو السير في اتجاهين متعاكسين إلى حد كبير. فإذا ما أضفنا إلى هذا العامل الموضوعي بعدا آخر يتعلق باختلاف التاريخ الشخصي والتكوين الثقافي والنفسي والأيديولوجي لرجلين قدّر لهما أن يقودا بلديهما في تلك المرحلة البالغة الحساسية، وهو عامل له تأثير مهم على إدراك كل منهما لما يمثله بالنسبة إلى بلاده، لتوصلنا بسهولة إلى قناعة مفادها أن الرجلين كانا شديدي الحرص على أن يخرجا فائزين من مؤتمر صحافي بدا وكأنه ساحة مبارزة أو حلبة لمباراة ودية في الملاكمة!.

يدرك أوباما أن بلاده تمرّ بأزمة مجتمعية شاملة، وليس بأزمة ظرفية موقتة تتعلق بالسياسة الخارجية وحدها، وأن هذه الأزمة الشاملة هي التي أتت به رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وأن غالبية من الناخبين الأميركيين صوتت له في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لا لشيء إلا لأنها توسّمت فيه قدرة على التغيير الذي رفع شعاره خلال الحملة الانتخابية. وليس لذلك سوى معنى واحد وهو أن أوباما يدرك إدراكا عميقا أن نجاحه مرهون أولا وأخيرا بقدرته على إحداث التغيير. وكان أوباما خلص، حتى منذ مرحلة الحملة الانتخابية، إلى أن التغيير المطلوب في السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط يقتضي منه تحركا سريعا في اتجاهين، الأول: الانفتاح على إيران والسعي لإبرام صفقة متوازنة معها تعينه على العثور على خروج مشرّف للقوات الأميركية من العراق وربما من أفغانستان أيضا في مرحلة لاحقة، والثاني: طرح أفكار جديدة تسمح بتسوية متوازنة قدر الإمكان للصراع العربي - الإسرائيلي، وبالذات على مساره الفلسطيني كمرحلة أولى يصعب من دونها التقدم على المسارات الأخرى. لذا أتصور أنه ذهب إلى المؤتمر الصحافي عقب لقائه بنتانياهو وهو مدرك تماما أن عليه أن يثبت أنه لم يقدم خلال محادثاته مع نتانياهو أي تنازلات عن مواقفه المعلنة من أي من هاتين القضيتين المحوريتين.

على الناحية الأخرى، يدرك نتانياهو بدوره أن المجتمع الإسرائيلي يمرّ بأزمة عميقة بعد فشل حكومته السابقة في حرب الصيف على لبنان عام 2006 وفي حرب الشتاء على غزة نهاية عام 2008 وبداية هذا العام، وأن الناخب الإسرائيلي صوت لصالح يمين متطرف يعتقد أن بوسعه أن يعيد إليه ثقته في نفسه وفي سلامة وصحة المشروع والمعتقدات الصهيونية التي بدأت صورتها تهتز كثيرا في السنوات الأخيرة، وأيضا الثقة في مؤسسة عسكرية إسرائيلية تبدو الآن غير قادرة على التكيّف مع نمط حروب من نوع خاص فرضت عليها في جنوب لبنان وغرب فلسطين! ولأن نتانياهو كان، بحكم تكوينه الأيديولوجي وطموحه السياسي، قد خلص إلى أن السبيل الوحيد لاستعادة المجتمع الإسرائيلي ثقته بنفسه يقتضي منه السعي إلى تحقيق إنجاز ما في مواجهة كل من إيران و «حماس»، وإقناع الإدارة الأميركية الجديدة في الوقت نفسه بأنه يصعب التحرك بفاعلية على طريق التسوية في المنطقة قبل إزالة التهديد الذي تشكله دولة إيران ومنظمة «حماس»، فقد ذهب إلى المؤتمر الصحافي وهو يدرك تماما أن عليه أن يثبت أن أوباما لم ينجح في الضغط عليه أو يقنعه بضرورة تغيير أولوياته!.

مباراة الذكاء وموازين القوى بين ما يمثله الرجلان بدت واضحة في المؤتمر الصحافي وعكستها عبارة قالها أوباما ورد عليها نتانياهو على الفور. فقد حاول أوباما أن يوحي إلى نتانياهو أنه يتوقع منه، على عكس ما يشاع عنه، تصرفا يعكس خبرته السياسية كرئيس وزراء سابق لإسرائيل، وبالتالي يفترض أن يكون على دراية تامة بالأوضاع في الشرق الأوسط، كما يعكس شبابه، والذي يفترض أن يمنحه جرأة أكبر في اتخاذ قرارات قد تكون صعبة. من هنا استخدام أوباما عبارة: إنني أثق في شبابكم وحكمتكم!

غير أن نتانياهو تعمّد بشكل واضح أن يؤكد للجميع أنه لن يسمح لأحد أن يتعامل معه كصيد سهل!. لذا لم ينتظر حتى يكمل الرئيس أوباما عبارته، وفضل مقاطعته بـ «قفشة» على الطريقة المصرية قائلا: بوسعك، سيدي الرئيس، أن تعتمد على شبابي، أما.. ثم توقف دون أن يكمل عبارة فهمت ضمنا أنها تقول: «أما حكمتي فلا تعوّل عليها كثيرا»، ما أثار قهقهات عالية. وفي تقديري أن هذا المقطع، والذي لخص روح المؤتمر الصحافي والسياق الذي ينعقد فيه على أفضل ما يكون، أكد أن مباراة، ربما تكون حاسمة في دوري العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، قد بدأت لكنها لم تنته بعد. ولأن كل طرف جاء معه، كالعادة في مثل هذا النوع من المؤتمرات الصحافية، بفريق إعلامي يحاول دفع الطرف الآخر في الاتجاه الذي يريده وإجباره على اتخاذ مواقف تؤدي لإحراجه والإيحاء بأنه ربما يكون قد غيّر من مواقفه عن طريق الضغط أو الاقتناع، بينما بدت المباراة وكأنها لعبة جماعية وليست فردية.!

فريق الإعلام المصاحب لنتانياهو حاول دفع أوباما لتحديد مهلة أو جدول زمني قصير لاستنفاد حوار ديبلوماسي مع إيران عليه أن يخلي الطريق بسرعة لتجربة وسائل أخرى ربما تكون أجدى وأكثر نفعاً. غير أن أوباما لم يلتقط الطعم وكان حريصاً جداً على أن يبقي الباب مفتوحاً لاستكمال طريق الحوار حتى نهايته. لذا تحدث عن الانتخابات المقبلة في إيران مؤكدا اقتناعه بضرورة إتاحة الفرصة كاملة للرئيس الإيراني المنتخب لتقييم المواقف السابقة واتخاذ ما يراه ضرورياً للتعامل مع اليد الأميركية الممدودة. ورغم أنه أشار تحديداً إلى نهاية العام كتاريخ يتعين التوقف عنده لتقييم ما جرى، إلا أنه لم يعتبره مهلة يتعيّن بعدها تغيير السياسات وإنما فترة تسمح برصد أفضل لحقيقة النيات والسياسات وتقييمها.

من ناحيته، حرص نتانياهو في ردوده على الأسئلة التي وجهت إليه من الفريق الآخر على التأكيد على أمرين، اعتبرهما على جانب كبير من الأهمية ولم يحد عنهما قيد أنملة. الأمر الأول: أن البرنامج النووي الإيراني ليس خطرا على أمن إسرائيل وحدها وإنما على أمن الولايات المتحدة أيضا بل على أمن العالم بأسره، وبالتالي تتطلب مواجهته عملاً دولياً جماعياً وليس عملاً فردياً لن تتردد إسرائيل في القيام به إذا تقاعس الآخرون. والأمر الثاني: أن تحالفاً موضوعياً بين إسرائيل و «الدول العربية المعتدلة» قام بالفعل في مواجهة خطر مشترك يمثله البرنامج النووي الإيراني، وبات على الولايات المتحدة والعالم استثماره والبناء عليه من منطلق أن تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي لم تعد لها الأولوية كما كان الأمر في السابق.

كشف المؤتمر الصحافي أيضاً عن بعد آخر في عملية ترتيب الأولويات الخاصة بكل من الولايات المتحدة وإسرائيل. فبينما سعى نتانياهو والفريق الإعلامي المصاحب له الى دفع الرئيس الأميركي أوباما للربط بين البرنامج النووي الإيراني وبين التقدم على طريق التسوية ولكن في اتجاه محدد يقضي بإزالة التهديد الذي يمثله البرنامج النووي الايراني أولا، كشرط لا غنى عنه للتقدم على طريق التسوية، رفض الرئيس أوباما تماماً هذا المنطق وراح يؤكد أنه إذا كانت هناك ضرورة لربط من هذا النوع فيجب أن يكون وفقاً لمنطق آخر معاكس تماما. ففي رأي أوباما أن التقدم على طريق التسوية، وليس العكس، هو الذي سيتيح للولايات المتحدة فرصة أفضل لحشد حلفائها وأصدقائها في المنطقة في مواجهة إيران إن هي استمرت في عنادها، فضلاً عن أنه سيساعد في نزع بعض الذرائع التي تحاول إيران من خلالها تبرير مواقفها المتشددة.

في سياق كهذا يبدو واضحا تماما أن أولويات الإدارة الأميركية الحالية تختلف موضوعيا عن أولويات الحكومة الإسرائيلية الحالية، على الأقل في المرحلة الراهنة. كما يبدو واضحاً أن فجوة الأولويات هذه مرشحة للاتساع خلال الأسابيع والشهور المقبلة، خصوصا إذا قرر الرئيس أوباما، كما يشاع حاليا، طرح مبادرة أميركية جديدة لاستئناف مفاوضات التسوية الشاملة أثناء خطابه المنتظر والذي سيوجهه الى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة خلال زيارته لمصر في 4 حزيران (يونيو) المقبل.

ليست هذه بالطبع هي المرة الأولى التي يظهر فيها تباين في الأولويات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والتي كانت فيها إسرائيل قادرة باستمرار على إعادة جسرها دوما بالطريقة التي تحافظ بها على مصالحها. غير أن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة ليس فقط لأن الفجوة في الأولويات تنطوي في الوقت نفسه على فجوة في المصالح وفي الرؤى تبدو أكثر اتساعا من أي وقت مضى، ولكن أيضاً لأن الولايات المتحدة تواجه وضعا داخلياً ودولياً لم تشهد له مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية. غير أن حلقة الضعف الأساسية التي تحول دون قدرة العالم العربي على استغلال هذا الوضع على الوجه الأكمل، وعلى نحو يدفع في اتجاه البحث عن تسوية حقيقية للصراع العربي - الإسرائيلي، تكمن في ضعف موقفه نتيجة لانقسام الفلسطينيين والعرب إلى معسكرين متصارعين وكأنهما في حرب باردة من نوع جديد. وما لم تتدارك الأطراف الفلسطينية والعربية هذا الوضع فستقدم لأكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً في تاريخ إسرائيل فرصة ذهبية تمكنها من احتواء الموقف الأميركي من جديد وتوظيفه لصالحها مرة أخرى، وهو ما يعني اتساع نطاق الفوضى وعدم الاستقرار.

إن القدرة على توظيف موقف أميركي يبدو في هذه المرحلة مختلفاً عن الموقف الإسرائيلي، وبالتالي أكثر إيجابية نسبياً من المواقف التي اعتدنا عليها، يتطلب من العرب القيام بأمرين، الأول: استعادة الوحدة الفلسطينية على أساس برنامج وطني ملتزم بالثوابت الفلسطينية. الثاني: بدء حوار عربي - إيراني شامل يتوازى مع، أو حتى يسبق، الحوار الأميركي - الإيراني المرتقب من أجل بلورة رؤية استراتيجية عربية إيرانية مشتركة قادرة على قطع الطريق على محاولات إسرائيل الرامية لاستغلال الخلافات العربية الإيرانية وتوظيفها كأداة للتملّص من التزاماتها تجاه تسوية عادلة ودائمة وشاملة للقضية الفلسطينية.