ائتلاف نتنياهو.. بين سندان الانقسامات الداخلية ومطرقة العمليات الفدائية.. بقلم: أحمد عبد الرحمن

الساعة 04:33 م|13 مارس 2023

فلسطين اليوم

لم يكن أشد المتشائمين في معسكر اليمين الإسرائيلي، يتوقّع أن تنقلب الصورة بهذا الشكل الدراماتيكي، بعد أقل من 5 أشهر على فوز ائتلاف بنيامين نتنياهو والتيار الديني الصهيوني، بالانتخابات البرلمانية الخامسة التي جرت في غضون الأربع سنوات الأخيرة.

فالنتائج التي أُعلنت مساء الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، والتي حصل بموجبها الائتلاف الحاكم الحالي في "إسرائيل" على 64 مقعداً، ضمنت له تأليف حكومة قوية ومنسجمة في كثير من الملفات، يبدو أنها كانت خادعة، وحملت في طيّاتها الكثير من المفاجآت غير المتوقّعة، ويبدو أن حالة النشوة التي شعر بها أنصار "الائتلاف" في ذلك الوقت، كانت عبارة عن "غمامة صيف"، سرعان ما انقشعت تحت وطأة الكثير من التحديات، على المستويين الداخلي والخارجي.

أولى هذه التحديات، هو الانقسام الداخلي، الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي، وباتت تداعياته أكثر وضوحاً بعد محاولة الحكومة الحالية، تمرير حزمة من القوانين التي تقلّص صلاحيات الجهاز القضائي، لصالح السلطتين التشريعية والتنفيذية. ومع أن الساحة السياسية في "إسرائيل" شهدت في السابق احتجاجات مشابهة، وفي ظل حكم نتنياهو تحديداً، كتلك التي شهدها صيف العام 2011، بسبب ارتفاع أجرة السكن، وغلاء المعيشة، إلا أن ما يجري الآن يختلف بشكل كبير، سواء من حيث الأسباب، أو من حيث الحجم، والتداعيات المحتملة.

فحملة الاحتجاجات الحالية التي انطلقت شرارتها في كانون الأول/ديسمبر من العام المنصرم، تكاد تكون الأولى من نوعها التي تنخرط فيها أطياف متعددة من الجمهور الإسرائيلي، وبأعداد كبيرة وصلت إلى ما يقارب الـ 250 ألف متظاهر قبل أسبوع تقريباً، حيث وصل بهم الأمر إلى إغلاق الطرق المؤدية إلى أهم مطار في "إسرائيل"، وهو مطار اللد (بن غوريون)، ما أجبر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، على عقد لقائه مع نتنياهو داخل أروقة المطار، الذي وصله الأخير على غير العادة بطائرة مروحية، في سابقة مُحرجة لم تعهدها "إسرائيل" من قبل.

إلى جانب هذه المشاركة الحاشدة وغير المسبوقة للإسرائيليين، برز دور جنود وضباط الاحتياط العاملين في وحدات مختلفة من "الجيش"، والذين تقدّموا بعرائض احتجاج لمديريهم، يعلنون فيها عدم مشاركتهم في التدريبات، أو العمليات الحربية إذا لزم الأمر، في حال تمرير ما يسمى بـ "الإصلاحات القضائية"، وعلى رأس أولئك الجنود طيّارو سلاح الجو، الذي يُعتبر ذراع "إسرائيل" الطويلة، التي تهدّد به كل دول المنطقة، وتُفاخر بأنه أحد أحدث الأذرع الجوية على مستوى العالم.

وهذا دفع قادة كباراً في "الجيش" الإسرائيلي للقول: "إن إسرائيل ستكون بلا أجنحة، في حال نشبت حرب بينها وبين إيران، أو حزب الله، أو المقاومة في غزة"، ولم يقتصر هذا الأمر على الطيارين الحربيين فقط، بل امتد ليشمل نظرائهم المدنيين، الذين وصل بهم الحال إلى الامتناع عن نقل رئيس الوزراء نتنياهو، وزوجته سارة، في رحلتهما إلى العاصمة الإيطالية روما، ما اضطره للاستعانة بطيار من اليهود الحريديم للقيام بهذه المهمة.

مع العلم أن تنقّلات رئيس الوزراء في الكيان الصهيوني تخضع عادة لإجراءات يُطلق عليها "الرحلات الخاصة"، والتي لا تخضع لنظام الجدولة كباقي الرحلات العادية، وهي تحتاج لإجراء مناقصة خاصة للحصول على طيّارين متطوّعين، وهو ما قامت به بالفعل شركة "إل عال"، حيث لم يتقدّم أي طيار للقيام بهذه المهمة.

إضافة إلى ذلك برز موقف جنود وضباط قوات النخبة، في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، والتي يُناط بها تنفيذ العمليات الاستخبارية الخارجية، التي تصل في بعض الأحيان لتنفيذ عمليات تخريبية في دول "معادية"، وعمليات اغتيال ضد معارضي الكيان في العديد من دول العالم. 

التحدّي الثاني والذي لا يقل خطورة عن الأول، هو سلسلة العمليات الفدائية التي ينفذها مقاومون فلسطينيون، سواء داخل المدن المحتلة عام 48، أو في مدن ومخيمات الضفة الغربية، والتي كان آخرها حتى لحظة كتابة هذا المقال، عملية شارع "ديزنغوف" وسط مدينة تل أبيب، والتي نفذها الشهيد البطل المعتز بالله الخواجا، من قرية نعلين غرب رام الله، والتي أتت بعد ساعات قليلة، من جريمة اغتيال 3 من مقاتلي "كتيبة جبع" التابعة لسرايا القدس، على يد القوات الخاصة الصهيونية.

هذه العملية لم تكن الوحيدة التي هزت عرش المؤسسة الأمنية والعسكرية في "إسرائيل"، منذ عودة نتنياهو لتولي منصب رئاسة الوزراء نهاية العام الماضي، فقد سبقتها سلسلة من العمليات الصعبة والقاسية، التي أصابت منظومة "الأمن" الإسرائيلية في مقتل، وساهمت في زيادة شعور المستوطنين الصهاينة بحالة من فقدان الأمن داخل المدن المحتلة.

ففي السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير الماضي فاجأ الشهيد خيري علقم الجميع، عندما نفذ هجوماً نوعياً في مستوطنة "النبي يعقوب" في القدس المحتلة، موقعاً 7 قتلى من المستوطنين الصهاينة، إضافة إلى إصابة آخرين، في عملية وصفتها الصحافة الإسرائيلية بالجريئة والقاسية، وهي التي جاءت بعد يوم واحد فقط على المجزرة التي نفذتها القوات الصهيونية في جنين، وأدت إلى سقوط 10 شهداء فلسطينيين، وجرح عشرات آخرين.

في اليوم الثاني مباشرة لعملية "النبي يعقوب"، نفذ الفتى الفلسطيني محمود عليوات (13 عاماً)، عملية إطلاق نار أخرى في حي سلوان في القدس المحتلة أيضاً، موقعاً إصابتين وُصفت جراحهما بالخطيرة، إحداهما لضابط في الوحدات الخاصة الصهيونية.

بعد عمليتي القدس البطوليتين بأقل من أسبوعين فقط، قام الشهيد البطل حسين قراقع، من سكان بلدة العيسوية جنوب القدس المحتلة، بتنفيذ عملية دهس استهدفت مجموعة من المستوطنين الصهاينة، بالقرب من محطة الحافلات في حي "راموت"، ما أدى إلى مقتل 3 منهم، وإصابة 5 آخرين وصفت حالة 3 منهم بالخطيرة.

انتقلت العمليات بعد ذلك إلى مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، حيث قام الشهيد البطل عبد الفتاح خورشة-استشهد لاحقاً في مدينة جنين-بإطلاق النار من مسافة صفر على سيارة للمستوطنين في قرية حوارة، ما أدى لمقتلهما على الفور، وهي العملية التي جاءت رداً على قتل القوات الصهيونية لـ 11 مقاوماً ومواطناً فلسطينياً في مدينة نابلس قبل العملية بيومين.

كل ما جرى من عمليات خلال الشهرين الماضيين، وصولاً إلى عملية تل أبيب الأخيرة، قابل للاستمرار خلال المرحلة المقبلة، ولا سيما ونحن نقترب من شهر رمضان المبارك، والذي يُتوقّع فيه ارتفاع منسوب الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة، وزيادة نسق اقتحامات غلاة المستوطنين لساحات وباحات المسجد الأقصى المبارك، وهو ما سيشكّل صاعق تفجير كبير لمجمل الأوضاع في فلسطين المحتلة، ربما تصل تداعياته إلى مناطق أخرى في الإقليم.

قياساً على ما تقدّم من تحديات تواجه الائتلاف الحاكم في "إسرائيل"، وتضع أمام استمرار مشروعه بشقيه الداخلي والخارجي مزيداً من العراقيل والمعوّقات، نصبح أمام مجموعة من الاحتمالات، التي يمكن أن تشهدها المرحلة المقبلة، والتي يشير معظمها إلى أن الأسوأ لم يأتِ بعد، وأن ما كان يُعتقد بأنه أحد أقوى الائتلافات التي مرت في تاريخ "إسرائيل"، ربما يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى الائتلاف الأسرع سقوطاً وتفكّكاً، في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه.

أولى هذه الاحتمالات تشير إلى استمرار تعنّت نتنياهو وائتلافه، وعدم التراجع عن القرارات التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد. يقابل ذلك استمرار وتيرة الاحتجاجات في الارتفاع كمّاً ونوعاً، سواء في الميدان الذي يشهد حالة من الاحتقان الشديد بين المتظاهرين من جهة، وبين أجهزة الأمن، التي يشرف عليها إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، من جهة أخرى، وإمكانية أن تتحوّل الاحتكاكات والمناكفات اللفظية والجسدية الخفيفة، إلى مواجهات عنيفة ينتج عنها قتلى وجرحى من الجانبين، أو في المؤسسات الرسمية والحكومية، والتي تقف على رأسها مؤسسة "الجيش"، حيث تبدو فيها الأوضاع أكثر سخونة، وتحمل في طياتها مخاطر جمة على مستقبل "إسرائيل".

وبالتالي هناك إمكانية بأن يدخل الكيان في حالة من الإرباك الشديد، التي ستجعل كثيراً من مؤسساته السيادية قريبة من التفكّك والانهيار، أو على أقل تقدير تفتقد للانسجام المطلوب لاستمرار عملها بطريقة تحافظ على ترابط وتماسك النظام السياسي والاجتماعي. وهنا تدخل "إسرائيل" في حالة من الشك الأقرب إلى فقدان الثقة بالمستقبل، والذي يمكن أن يؤدي إلى هجرة من الداخل للخارج، بحثاً عن مكان أكثر أمناً، ورخاء، واستقراراً.

الاحتمال الثاني هو هروب نتنياهو ومعه حلفاؤه خطوة إلى الأمام، محاولاً ضرب عصفورين بحجر واحد، حيث يتخلص من التحدي الداخلي من دون أن يقدّم تنازلات حقيقية، ويقلل من تأثيرات وتداعيات التحدي الخارجي المتمثل في العمليات الفدائية. وهذا الخيار المطروح على الطاولة كما تقول الكثير من المصادر الإسرائيلية، يتطلّب ذهاب نتنياهو إلى مواجهة عسكرية واسعة، يمكن أن تستهدف مدن ومخيمات الضفة المحتلة كوجهة أساسية.

وذلك على غرار عملية "السور الواقي" في العام 2002، والتي يمكن أن تتوسّع لتشمل قطاع غزة الذي يشكّل سلاح الردع الذي يُشهره الفلسطينيون، في وجه أي عدوان كبير على الضفة أو القدس، وهذا الخيار في حال اللجوء إليه سيحمل في طياته مخاطر جسيمة على حكومة نتنياهو، وهو الذي ذاق مرارته بعد معركة سيف القدس أيار/مايو 2021، التي كان إحدى تداعياتها سقوط حكومته، وجعلته قريباً جداً من دخول السجن، على خلفية قضايا الفساد المرفوعة ضده في المحاكم الصهيونية.

ختاماً يمكننا القول إن أمام نتنياهو شخصياً شهوراً صعبة، يمكن أن تحمل في طيّاتها الكثير من المفاجآت غير السارّة، سواء له وهو الذي يطمح أن يصبح الملك المتوّج للأبد، على سدة الحكم في "إسرائيل"، أو لزوجته "سارة"، التي أفسد عليها المحتجون إتمام تصفيف شعرها في أحد الصالونات الشهيرة، وحاصروها، وطردوها، بشكل مذل ومهين.

أما حلفاؤه من التيار الديني الصهيوني المتطرّف، وعلى رأسهم بن غفير وسموتريتش، فيبدو أن أحلامهم بالسيطرة على مقاليد الأمور في "الدولة اليهودية"، كما كان يتمنّى أسلافهم وأجدادهم، منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، ستذهب أدراج الرياح، وأن كل مساعيهم الرامية إلى السيطرة على المؤسسات، والأجهزة السيادية، ستفشل بسبب افتقادهم لمقوّمات تلك السيطرة، والتي هي بحاجة لأكثر من الخطابات الشعبوية، التي تعتمد بشكل أساسي على التحريض على العنف والقتل ضد الفلسطينيين.