خبر عن مصر المكان والمكانة ..فهمي هويدي

الساعة 09:15 ص|26 مايو 2009

ـ الشرق القطرية 26/5/2009

حين يختار الرئيس باراك أوباما القاهرة لكي يوجه منها رسالة إلى العالم العربى والإسلامي، فإن أحد الأسئلة التي ينبغي أن نفكر في الإجابة عليها هو ما إذا كان قد قصد المكان أم المكانة؟

(?)

ما دعاني إلى طرح السؤال أنه منذ أعلن النبأ في واشنطن فإن صداه في مصر كان مبالغاً فيه، حتى ذهب سيل التحليلات التي نشرت في الصحف القومية بوجه أخص إلى أن القرار بمثابة شهادة جدارة للوضع القائم في مصر ووسام رصع جبينها. و لم يفت الذين كتبوا ذلك الكلام أن يشددوا على أن اختيار الرئيس الأمريكي يرد على المتشككين و يقطع ألسنة المتقولين الذين يتحدثون عن تراجع مكانة مصر و دورها في محيطها العربي و الإسلامي. و لم تكن تلك هي المبالغة الوحيدة، لأنني أحد الذين يزعمون أن الآمال المعلقة على الإدارة الأمريكية الجديدة لا تخلو بدورها من مبالغة. و قد قصدت استخدام مصطلح الإدارة الأمريكية، لأن السياسة هناك ليست محكومة بنوايا الرئيس و رغباته الشخصية، و لكنها تمر بقنوات مؤسسية كثيرة تؤثر على قرار الرئيس و موقفه، بحيث قد تجعل من السياسة شيئا آخر مختلفا ما يردده السياسي الجالس على مقعد الرئيس. و هذا شق في المسألة تصدى له عدد غير قليل من المعلقين الذين دعوا إلى عدم التسرع و الاستباق في الحكم على سياسة الرجل، و من ثم التعامل مع مقولاته بخليط من الترقب و الحذر، انتظارا للمرحلة التي تترجم فيه رسائله المطمئنة و المريحة إلى أفعال و مواقف تتبناها إدارته و حكومته. و حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط و بالعلاقة مع الإسلام و المسلمين بوجه أخص، فإن الحذر يصبح أوجب، لأن لأي رئيس أمريكى كوابح و حدودا في التعامل معها لا يستطيع أن يتجاوزها، حتى لو أراد.

لست في صدد تقييم موقف الإدارة الأمريكية الجديدة، ، و لكني معني بمحاولة الإجابة على السؤال الذي طرحته في البداية، المتعلق بالمكان و المكانة في مصر الراهنة. و هو ما يدعوني إلى استطراد بسيط يسلط الضوء على خلفيات زيارة الـ?? ساعة التي سيقوم بها الرئيس أوباما إلى مصر في الرابع من شهر يونيو القادم- ذلك أن الباحث لا تفوته ملاحظة أن الرئيس الأمريكي كان قد خاطب العالم العربي و الإسلامي بشكل مباشر مرتين على الأقل خلال المئة يوم الأولى من ولايته. إحداها أثناء زيارته لتركيا في الخامس من شهر أبريل الماضي و الثانية جاءت في ثنايا الرسالة التي وجهها إلى الشعب الإيراني بمناسبة عيد النوروز في شهر مارس. و قبل ذلك و جه إشارة إيجابية في أكثر من خطاب له ذكر فيها أن الولايات المتحدة ليست في حرب أو اشتباك مع الإسلام، بل إنه لم يستخدم مصطلح الحرب ضد الإرهاب، الذي لم يكن يخلو منه بيان سياسي صادر عن الإدارة السابقة.

إذا صح أنه سيوجه من القاهرة في زيارته المرتقبة رسالة إلى العالم العربي و الإسلامي للمرة الثالثة، فإن ذلك يحتاج إلى تفسير. و قد ألقيت سؤالا في هذه النقطة على الصحفي الأمريكي البارز سيمور هيرش، محرر مجلة «نيو يوركر» ذائع الصيت، حين التقيت به في دبي قبل أيام. في رده قال إنه ليست لديه إجابة محددة، لكنه لا يستبعد أحد احتمالين، أحدهما أن يكون لدى الرئيس أوباما ما يقوله بخصوص الصراع العربى الإسرائيلي، خصوصا أن زيارته للقاهرة تأتي بعد لقائه فى واشنطن مع ممثلين للأطراف الثلاثة: ممثلي "المعتدلين" العرب و الإسرائيليين و الفلسطينيين. الاحتمال الثاني أن يكون أوباما قد أدخل تعديلا على برنامج زيارته الخارجية بناء على نصيحة بعض الجهات المعنية في واشنطن، لكي يوجه لفتة خاصة إلى مصر، التي ترعى حوار الفصائل الفلسطينية في حين تحتفظ بعلاقات إيجابية مع إسرائيل، خصوصا أن القاهرة كانت قد توقعت من البداية أن تكون هي و ليست أنقرة المنصة التي يوجه منها الرئيس الأمريكي الجديد أول خطاباته إلى العالم الاسلامي.

(?)

موضوع مكانة مصر أثير في الاجتماع الأخير لمنتدى الإعلام العربي الذي عقد في دبي قبل عشرة أيام. إذ خصصت جلسة للفضائيات المصرية طرح فيها السؤال التالي: هل يمكن أن يستعيد الإعلام المصري مجده؟ - دعك من أن الإعلام اختزل في الفضائيات دون غيرها، الأمر الذي استدعى استضافة أربعة من مسؤولي و نجوم القنوات المصرية، لأن السؤال تمت صياغته بصورة افترضت أن الإعلام المصري لم يعد مؤثرا في الفضاء العربي. و هذا الافتراض لم يختلف عليه أحد سواء من المتحدثين على المنصة، أو من نخبة المثقفين المشاركين في الجلسة.

المتحدثون أثاروا ثلاث نقاط. الأولى أن لديهم هامشا واسعا في الحركة، و الثانية أنهم يدركون أنهم يؤدون مهمتهم في حدود الظروف المتاحة، مدركين أنهم يعيشون في بلد له أوضاعه الخاصة التي تختلف عن النماذج السائدة في أوروبا مثلا. و الثالثة أنهم يدركون أن هناك طفرة إعلامية في العالم العربي، و أن مسألة الريادة المصرية في الإعلام لم تستمر، بعدما طور الإعلام العربي من إمكانياته و أصبح الجميع يتنافسون على جذب المشاهد العربي.

كلام ممثلي القنوات الفضائية المصرية كان صادقا و معقولا. أما صدى الكلام لدى جمهور الحاضرين فقد كان مثيرا للانتباه. ذلك أن الأغلبية الساحقة من المتحدثين ركزوا على أن الفضائيات المصرية تعاني من الانكفاء و التركيز على الداخل. حتى قال أحد المعقلين إنها ليست فضائيات بالمعنى المعروف، و لكنها قنوات محلية عاجزة عن مخاطبة المشاهد العربي. آخرون تحدثوا عن انخفاض سقف الحرية في القنوات المصرية، الأمر الذي جعلها متخلفة عن قنوات عربية أخرى منافسة. و خلال المناقشة سمعت اثنين من المثقفين العرب يقول أحدهما للآخر إن مصر حين تقود الدعوة إلى مراقبة مكاتب الفضائيات العربية و تستصدر لذلك قرارا من وزراء الإعلام العرب، فإن ذلك يغلق الباب أمام احتمال استعادة الإعلام المصري لمجده. فرد الآخر قائلا إنه إذا كانت وزارة الإعلام المصرية تتبنى هذا الموقف إزاء القنوات العربية، فلابد أن تكون قبضتها الرقابية على القنوات المحلية أشد و أكثر صرامة. في هذه الأثناء وقف أحد المثقفين قائلا إنه ليس من العدل أن يوجه كل اللوم و العتاب للقنوات الفضائية، لأن الإعلام في مصر إذا كان منكفئا إو مقيد الحركة، فإن ذلك يعد مرآة للسياسة، و لذلك فليس من الإنصاف أن يوجه الاتهام للإعلام المصري بالضعف، لأن الضعف الحقيقي يكمن في تراجع السياسة المسيطرة.

(?)

هذا التشخيص له شواهد أخرى تؤيده. لأن غياب التأثير المصري عن ساحة الإعلام له نظيره في عالم السياسة. ذلك أن الذي يتاح لهم أن يترددوا في العواصم العربية في المشرق و المغرب -و أنا أحدهم- يواجهون حيثما ذهبوا بالسؤال: أين مصر و متى تعود؟ و كانت السودان أحدث محطة سمعت فيها السؤال، حتى قال لي أحد مثقفيهم إن الرؤساء و الملوك العرب حين وقعوا في أنشاص عام ???? بيانهم الخاص بشأن فلسطين، فإن الملك فاروق وُصِف في البيان بأنه «صاحب بلاد النوبة و السودان و كردفان و دارفور.» و علق على ذلك قائلا إن مصر الراهنة نفضت يدها من كل ذلك و أدارت ظهرها لحدودها الجنوبية تماماً، حتى أصبح بعض الناس فيها لا يعرفون الفرق بين دارفور و كارفور (المتجر الكبير). و قال لي مثقف تونسي ذات مرة إن مصر في السابق كانت ترسل إلى تونس نخبة من أساتذة الجامعات المرموقين، و لكنها أصبحت الآن توفد إليها ضباط المباحث، و رجال أمن الدولة. و في لبنان -كما في أوساط الفصائل الفلسطينية- يتحدثون عن غياب مصر الشقيقة الكبرى، و ظهور وجه آخر لمصر لم تعد فيه فوق الصراعات و التحالفات، و لكنها أصبحت طرفا في تلك الصراعات و التحالفات، الأمر الذي نال من هيبتها و مرجعيتها. واستوقفني في حوار مع بعض ممثلي الفصائل قول أحدهم إنهم يجيئون إلى القاهرة امتثالًا «لقهر الجغرافيا». و كان المصطلح جديداً على مسامعي، حيث أدركت أن المقصود به هو الضرورة الجغرافية الملحة التي جعلت غزة ملاصقة للحدود المصرية، و من ثم أصبحت المنفذ الوحيد للفلسطينيين إلى العالم الخارجي، الذي لا يمر بإسرائيل.

الشواهد كثيرة على تغير المكانة و اختلافها في العقود الثلاثة الأخيرة، عما كانت عليه قبل ذلك. حتى شاع في الكتابات السياسية وصف تلك العقود بأنها مرحلة «الجزر»، في مقابل سابقاتها التي اعتبرت سنوات المد القومي.

لا غرابة و الأمر كذلك، أن يتحدث الباحثون في الشؤون الإستراتيجية والسياسية عن ثلاثة مشروعات تتحرك في المنطقة هي: التركي والإيراني و الإسرائيلي. و لا يكاد المرء يجد إشارة إلى تحرك للدور المصري إلا في حدود ما تنشره صحفنا القومية لأسباب مفهومة. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة فإننا لا نكاد نجد دورا لمصر الراهنة إلا في حدود رعاية حوارات الساحة الفلسطينية التي فرضتها الضرورة الجغرافية. و لا يفوتنا هنا أن نلاحظ أن بلدا مثل قطر ( لا وجه للمقارنة مع تركيا بالمناسبة ) أصبح يتحرك على مساحة في العالم العربي أوسع بكثير، حتى أثبت وجودا في لبنان و فلسطين و اليمن و في العلاقات بين تشاد و السودان.

(?)

تسلط كتابات الدكتور جمال حمدان عالم الجغرافيا السياسية الأشهر أضواء مهمة على الدور المصري في صعوده و تراجعه. و يظل كتابه عن عبقرية المكان في «شخصية مصر» مرجعا مهما في ذلك، رغم صدور أجزائه الثلاثة قبل نحو ?? عاما. و قد وقعت في ثنايا الجزء الثاني من مؤلفه على بعض الخلاصات التي تتصل بجوهر الموضوع الذي نحن بصدده. و لم أستطع أن أقاوم الرغبة في التذكير بها في ختام المقال. من ذلك قوله ما يلي:

* كقاعدة عامة أساسية، تتناسب قوة مصر السياسية تناسبا عكسيا مع درجة عزلتها و انغلاقها داخل حدودها و تقلص ظلها الخارجي، و طرديا مع مدى انطلاقها خارج حدودها. فكلما كانت مصر ضعيفة عاجزة، تضاءل حجمها السياسي و خف وزنها، كلما انطوت وتقوقعت داخل حدودها و تقلص ظلها الخارجي. و على العكس ، كلما كانت قوية فوارة و زاد ثقلها، فاضت قدرتها خارج حدودها و امتد نفوذها و تمدد وجودها عبرها (ص ???).

* كما كانت عزلة مصر السياسية تعني عزلتها عن العرب بالتحديد، فإن تلك العزلة كانت دائما نتيجة لارتباطها بالغرب بالتحديد. فسواء في ظل خضوعها للاستعمار المباشر كما في مصر الملكية، أو في ظل تعاونها معه كما في السبعينات مؤخرا، فإن عزلة مصر العربية كانت من نتاج ارتباطها بالغرب عموما و استعماره أو إمبرياليته خصوصا. و على العكس كان الاستقلال السياسي الحقيقي يرادف كسر العزلة السياسية و فك العزلة عن العرب بالدقة. (ص ???)

* أثبتت تجربة القرن الأخير على الأقل أن الاستعمار الغربي أو الإمبريالية العالمية لا مانع لديها بالضرورة من الاعتراف بزعامة مصر الإقليمية أو العربية في حد ذاتها، إذا ما هي اعترفت بالتبعية لها أو بالتحالف معها. فما دامت زعامة مصر الإقليمية تضمن لها أن تنقاد المنطقة برمتها خلفها بالتبعية لها، فلا بأس في الاعتراف لها بتلك الزعامة بل و تثبيتها فيها (ص ???)

إنك إذا طالعت هذه الخلاصات مرة ثانية فستجد فيها إجابة على كثير من الأسئلة المثارة حول مكان مصر و مكانتها. كما ستجد فيها تفسيراً لعوامل المد و الجزر في الحالة المصرية، قد تريحك من ناحية و تعذبك من ناحية أخرى.