"المقاومة المسلّحة" في الضفة وإمكانية استخدام أسلوب "حرب المدن" (1 / 2) بقلم: أحمد عبد الرحمن

الساعة 07:00 م|22 فبراير 2023

فلسطين اليوم

بات واضحاً منذ بداية العام المنصرم أن العدو الصهيوني يركّز معظم جهوده الأمنية والاستخبارية والعسكرية على احتواء الحالة الثورية المتصاعدة في مدن الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها، ولا سيما بعد عودة خيار "الهجمات المسلحة" كخيار أساسي يستخدمه الفلسطينيون في الرد على العدوان الذي لم يتوقّف لحظة واحدة.

هذا الخيار الذي تمّ تغييبه قسراً لأكثر من 15 عاماً لأسباب مختلفة لا مجال لشرحها الآن، عاد بقوة، وخصوصاً بعد تشكيل كتائب المقاومة المسلحة على غرار "كتيبة جنين" وأخواتها في نابلس وطولكرم وغيرها من المدن والمخيمات الفلسطينية.

وما زاد رغبة العدو الإسرائيلي في القضاء على تلك المجموعات والكتائب و"اجتثاثها من جذورها بشكل كامل"، هو تحوّلها إلى مصدر إلهام للشباب الفلسطيني، سواء المؤطّر تنظيمياً أو الذي لا ينتمي إلى أي فصيل مقاوم.

النوع الثاني تحديداً نجح في تنفيذ مجموعة من العمليات "الهجومية" النوعية في قلب "المدن" الصهيونية، مثل "تل أبيب" والخضيرة وبئر السبع، إضافة إلى القدس المحتلة والخليل وغيرهما من المناطق الأخرى. تلك العلميات أوقعت أكثر من 30 قتيلاً إسرائيلياً العام الماضي، في إحصائية وُصفت بالأكبر خلال الأعوام السبعة عشر الماضية.

وبالتالي، وجدت "إسرائيل" نفسها أمام واقع صعب وخطر تتدحرج فيه الأمور باتجاه ما يمكن أن نسمّيه "انتفاضة مسلحة" مكتملة الأركان، تذهب بحالة "الأمن" التي عاشتها "دولة الكيان" لسنوات إلى المجهول؛ تلك الحالة التي نجحت بشكل كبير، وبمساعدة أطراف أخرى، في فرضها، سواء في محيط مدن الضفة التي توجد فيها مئات المغتصبات وآلاف المستوطنين أو في المدن المحتلة عام 48، التي أصبحت في مأمن بدرجة كبيرة من "العمليات القتالية" التي ضربتها بشدة مع بداية انتفاضة الأقصى وحتى العام 2006 تقريباً.

الخيارات الإسرائيلية

وضعت الأجهزة الأمنية في "إسرائيل" على طاولة متخذي القرار من المستوى السياسي خيارين لا ثالث لهما للتعاطي مع هذا الواقع المعقّد الذي بدا في لحظة ما غير قابل للاحتواء، وفي طريقه إلى انفجار كبير يخلط الأوراق ويذهب بالأوضاع إلى ما كانت عليه إبان "انتفاضة الأقصى" وما نتج منها من تغيّرات هائلة في تطور عمل المقاومة وإدخال وسائل جديدة ومؤثرة في إطار المواجهة مع الاحتلال.

الخيار الأول الذي قدّمته أجهزة استخبارات العدو، لا سيما جهاز "الشين بيت"، كان القيام بعملية عسكرية واسعة، على غرار عملية "السور الواقي" في نهاية آذار/مارس 2002، التي اجتاح بموجبها "الجيش" الإسرائيلي، في عهد رئيس الوزراء السابق أريئيل شارون، كل المدن الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، وحاصر مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، وقتل واعتقل مئات الفلسطينيين، وهدم عشرات البيوت.

أما الخيار الثاني، فكان القيام بعمليات خاطفة "كر وفر" أو ما يطلقون عليها في أروقة "الجيش" الإسرائيلي "العمليات الجراحية"، بحيث تقوم "القوات الخاصة" الإسرائيلية التي تملك إمكانيات تسليحية مميزة وقدرات قتالية عالية، وبدعم من فرق الجيش والاستخبارات المختلفة، بتنفيذ عمليات هجومية سريعة نسبياً داخل المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، لا سيما الشمالية منها، كجنين ونابلس، بهدف اعتقال أو اغتيال من تعتقد أنهم يقودون العمل المسلح في الضفة، أو الذين يموّلونه مالياً، وصولاً إلى "المحرّضين"، سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين.

ولأنَّ تكلفة الخيار الأول من وجهة نظر قادة كبار في "الجيش" الصهيوني يمكن أن تكون باهظة وتحمل مخاطر جمّة، من قبيل اشتعال كل ساحات الضفة والداخل المحتل ودخول قطاع غزة على خط مواجهة عسكرية كبيرة، إضافة إلى خطر انهيار أجهزة السلطة الفلسطينية التي ما زالت "إسرائيل" بحاجة إليها لأسباب كثيرة، فقد فضّل المستوى السياسي الصهيوني اللجوء إلى الخيار الثاني.

هذا الخيار، من وجهة نظرهم، أقل تكلفة لقوات "الجيش" المنهكة من الأساس، ويحقق ولو بالحد الأدنى الغرض المراد تحقيقه، ويقلّل بشكل أو بآخر خطر تلك الكتائب والمجموعات، ويضعها في موقع الدفاع عن النفس داخل تموضعها الجغرافي في المدن والمخيمات الفلسطينية.

وقد بدأ تنفيذ هذا الخيار بداية نيسان/أبريل من العام الماضي، في عملية أُطلق عليها "كاسر الأمواج"، بمشاركة العديد من وحدات "الجيش" والاستخبارات الإسرائيلية، وبنسق مرتفع في معظم الأوقات، بحيث لم يمر يوم من دون أن تنفذ فيه القوات الخاصة الصهيونية عمليات اقتحام للمدن والمخيمات. وقد رافق ذلك العشرات من عمليات الاعتقال والاغتيال لكوادر المقاومة وهدم بيوت المقاومين والمقاتلين، لا سيما الذين نفذوا عمليات هجومية في قلب المدن المحتلة.

وقد أحاط العديد من المعطيات بهذا التحرك العملياتي والميداني الواسع، الذي تحوّل إلى عمليات ممنهجة تعتمد على جهد استخباري واضح ودعم الكثير من أذرع المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية، إذ امتلك العدو مروحة واسعة من الخيارات، معتمداً في ذلك على إمكانيات نوعية لا تتوفر للطرف المقابل الذي اعتمد على الروح القتالية العالية وبعض الخبرات التي حصل عليها بطريقة أو بأخرى فقط، في ظل واقع ميداني صعب ومعقّد.

أولاً: توصيف قدرات العدو

1 - قوات قتالية خاصة

يملك "الجيش" الإسرائيلي مجموعة من الوحدات "الخاصة" التي تتميّز بقدرات قتالية على أعلى مستوى، وهي مجهزة بأحدث وسائل التكنولوجيا التي تمكّنها من أداء مهامها بحرفية عالية، وبنسبة مخاطرة منخفضة نسبياً، وتحظى بدعم ومتابعة من أعلى المستويات في "الجيش" الإسرائيلي، وتُعتبر الذراع الضاربة لهذا "الجيش"، ويوكل إليها تنفيذ المهام الحسّاسة والصعبة التي تحتاج إلى جنود ومقاتلين على درجة عالية من الاحترافية.

ومن أهم هذه الوحدات وأكثرها نشاطاً في ساحات القتال "وحدة دوفدوفان"، وهي وحدة قتالية خاصّة تعمل في جميع الأراضي المحتلة، مع التركيز على الضفة الغربية بشكل خاص.

هذه الوحدة تكاد تعمل من دون توقف لمنع الأنشطة التي تقوم بها فصائل المقاومة وإحباطها، وهي تحافظ على مستوى عالٍ من النشاط، وتظل على أهبة الاستعداد العملي على مدار الساعة وعلى مدار العام.

يقوم مقاتلو هذه الوحدة بتنفيذ العديد من الأنشطة، مثل الاعتقالات والاغتيالات وجمع المعلومات من خلال وحدات "المستعربين".

2 - سيطرة جوية كاملة

مكّنت القدرات الجوية الهائلة التي يملكها العدو الصهيوني قواته من فرض سيطرتها على أجواء مناطق العمليات بشكل كامل، ما أتاح لها رصد أماكن تحرك المقاومين بشكل مفصّل، ومكّنها من تقديم معلومات شبه كاملة للوحدات التي تقاتل على الأرض، ناهيك بمشاركتها في بعض الأحيان في القتال بواسطة طائرات "ميني درون" انتحارية، كما حدث في مدينة نابلس أثناء عملية اغتيال الشهيد وديع الحوح.

3 - سيطرة على الأرض

رغم أنَّ المدن والمخيمات التي تتم فيها العمليات القتالية تخضع للسلطة الفلسطينية، ورغم أن جميع ساكنيها هم من الفلسطينيين فقط، وأن جزءاً كبيراً من هذه المدن يقع داخل حدود المنطقة "أ" التي تتبع إدارياً وأمنياً، بحسب اتفاق أوسلو، لقوات السلطة التي يزيد عدد المنتسبين إلى أجهزة الأمن فيها على 60 ألف ضابط وجندي، فإنّ سيطرة القوات الإسرائيلية على الأرض تكاد تكون شبه كاملة، وهي تملك حرية الحركة كما تشاء في كل الجغرافيا المحيطة بتلك المدن، وفي جزء كبير داخلها، باستثناء الأماكن التي يوجد فيها المقاومون.

إنّ دخول قوات العدو وخروجها يتم من دون أن يعترضها أحد، وقيامها بمحاصرة البيوت والحواري وارتكاب الجرائم أصبح أمراً معتاداً.

4 - سيطرة على الفضاء الإلكتروني وأنظمة الاتصالات

في هذا المجال، تتفوق "إسرائيل" على معظم دول العالم، وليس على المقاومين في الضفة المحتلة فحسب، فهي تملك منظومات تجسس إلكترونية تعد من الأحدث على مستوى العالم، منها على سبيل المثال لا الحصر قاعدة "أوريم الاستخبارية" السرية، التي تعدّ من أكبر قواعد التجسس والتنصّت وجمع المعلومات على مستوى العالم، وتتبع لوحدة جمع المعلومات المركزية للاستخبارات العسكرية، المعروفة بوحدة رقم "8200". ومن مهامها رصد المكالمات الهاتفية، والاتصالات اللاسلكية، والمراسلات الإلكترونية.

إلى جانب هذه القاعدة، تملك "إسرائيل" أنواعاً مختلفة من طائرات الاستطلاع التي يمكنها جمع المعلومات المرسلة إلكترونياً أو اعتراض المكالمات والرسائل الصادرة عن الأجهزة النقالة، ولا سيما الذكية منها. إضافةً إلى كلّ ذلك، هناك المناطيد العسكرية التي تساهم في جمع المعلومات أيضاً واختراق الهواتف والأجهزة اللوحية المختلفة.

كلّ ما سبق يمنح العدو سيطرة معلوماتية مطلقة على مسرح العمليات تمكنه من معرفة أماكن المقاومين وتحركاتهم والتنبؤ بخطواتهم وكشف مخابئهم وكمائنهم.

ثانياً: توصيف قدرات المقاومين

لا تقارن الظروف التي يقاتل فيها المقاومون الفلسطينيون في الضفة المحتلة، من حيث السيطرة على الجغرافيا والأجواء والإمكانيات القتالية، بتلك المتوفرة للعدو الصهيوني، وهذا ينطبق أيضاً على صعيد عدد المقاتلين الذين لا يتجاوزون في أفضل الأحيان بضع مئات، ما لم يكن أقل من ذلك.

1 - القدرات التسليحية

يفتقد المقاومون في مدن الضفة المحتلة ومخيماتها الحد الأدنى من الإمكانيات العسكرية اللازمة لخوض مواجهة شبه متكافئة مع قوات العدو الصهيوني، ويفتقدون أيضاً، بسبب الظروف المحيطة بهم، التدريبات اللازمة التي يمكن أن تعوّض جزءاً من هذا الخلل في القدرات التسليحية.

وبحسب كل المشاهد المصوّرة التي نراها عبر وسائل الإعلام، فإن معظم تلك الأسلحة هو بنادق هجومية من طراز "M16" إسرائيلية الصنع تم الحصول عليها بطريقة أو بأخرى.

وعلى الرغم من أن هذه البنادق سريعة الإطلاق وخفيفة الوزن، ويصل مداها الفعّال إلى 600-900 متر، فإنها لا تستطيع اختراق الدروع المصفحة للآليات الإسرائيلية، لا سيما إذا كانت المسافة الفاصلة بين المقاتلين وقوات العدو كبيرة نسبياً.

إضافة إلى البنادق، هناك محاولات بدأت تصبح أكثر وضوحاً على مستوى العبوات الناسفة المحلية الصنع، التي ستشكل، في حال احتوائها مواد شديدة الانفجار على غرار "TNT أو C-4"، معضلة كبيرة لقوات الاحتلال.

2 - السيطرة على الأرض

يمكن القول إن سيطرة المقاومين الفلسطينيين على الأرض ليست مكتملة، وأنهم لا يملكون سيطرة واضحة على "مسرح العمليات"، وإن كانوا يقاتلون داخل مدن ومخيمات فلسطينية؛ فافتقادهم الأدوات اللازمة لإحكام هذه السيطرة، مثل وسائل الدفاع الأرضي والجوي، وعدم وجود غرف عمليات محترفة، وصعوبة المناورة بالنيران، والافتقاد لعوامل الدعم الميداني من أجهزة السلطة، وغير ذلك الكثير من العوامل... كل ذلك يحرمهم من ميزة مهمة وأساسية، وهي ميزة "السيطرة والتحكم" في الميدان القتالي، الذي يمنح صاحبه خيارات متعددة لتحقيق النصر وتكبيد عدوه خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.

3 - السيطرة الجوية

باستثناء ما قام به المقاومون منتصف هذا الشهر من إطلاق طائرة "درون" صغيرة حلقت فوق رؤوس القوات الإسرائيلية المتوغلة في مخيم جنين، فإنَّ إمكانيات المقاتلين في مجال السيطرة على سماء المعركة معدومة بشكل كامل، ولا تتوفر لهم أي إمكانيات تقنية في هذا المجال الحاسم الّذي يسيطر عليه عدوهم بشكل كامل، بفضل ما يملك من إمكانيات وقدرات كبيرة وحديثة.

4 - القدرات الإلكترونية

ينطبق على هذا المجال الحساس المهم ما انطبق على سابقه على مستوى السيطرة الجوية، فالمقاومة في الضفة المحتلة لا تملك أي إمكانيات على مستوى "الحرب الإلكترونية"، ولا يبدو أنها يمكن أن تتحصل على ذلك في الفترة المقبلة، فالظروف المحيطة بها وبعملها، والتضييق والحصار والمطاردة، وسيطرة العدو على كل مداخل المدن الفلسطينية ومخارجها، يجعل من شبه المستحيل الحصول على إمكانيات من هذا القبيل، ولا سيّما أن إمكانيات كهذه لا تتوفر بسهولة، والأجهزة والأدوات المطلوبة لمثل هذا العمل ليست موجودة في متناول الجميع.

بناءً على ما تقدَّم من مقارنة للقدرات التسليحية، والإمكانيات القتالية، والسيطرة الجوية والبرية والإلكترونية، بين "الجيش" الإسرائيلي من جهة، والمقاومين والمقاتلين من جهة أخرى، والتي أظهرت تفوقاً هائلاً لمصلحة "جيش" العدو يصعب الحد من تأثيراته أو التقليل من تداعياته، فإن على المقاومين الأبطال اختيار أفضل السبل لمواجهة هذا التفاوت في القدرات والإمكانيات، وتقليل الفجوة الناتجة من هذا التفاوت إلى حدها الأدنى، والعمل على تحويل التهديد الذي تشكّله هذه القوة الكبيرة التي يملكها عدوهم إلى فرصة سانحة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوفه. وفي المقابل، خفض خسائرهم إلى حدها الأدنى.

ورغم أنّ هذا الأمر صعب ومعقّد في ظل اختلال واضح في موازين القوى، فإنه، ومن خلال تغيير جوهري في تكتيكات القتال، لا سيما داخل المدن والمخيمات، يصبح وارداً وممكناً، فتحويل أسلوب القتال المفتوح الذي يعتمد على جرأة المقاتلين وحماستهم، إلى أسلوب "حرب المدن"، سيغيّر كثيراً من شكل المعركة، وسيحقق الكثير من الإنجازات التي افتقدناها خلال العام الماضي.

في الجزء الثاني، سنتحدث بإذن الله باستفاضة عن أسلوب "حرب المدن" وكيفية استغلال كل التفاصيل الصغيرة في ساحة العمليات، وسنحاول إجراء مقاربة عملية بين الجانب النظري لهذا الأسلوب وطبيعة الأرض والجغرافيا في مدن الضفة للحصول على أفضل النتائج الممكنة.