خبر إرهاصات الدخول في المرحلة الإسرائيلية ..فهمي هويدي

الساعة 06:31 ص|24 مايو 2009

إرهاصات الدخول في المرحلة الإسرائيلية  ..

فهمي هويدي 

الآن، في العام الواحد بعد الستين للنكبة، نكتشف أكثر من أي وقت مضى أن مأزقنا الكبير صار عربيا بأكثر منه فلسطينيا، وأن الموقف العربي أصبح الحلقة الأضعف والعنصر الأخطر في تصفية القضية.

 

 

(1)

 

تلك نكبة أخرى لها تاريخ، عايش السيد أحمد الشقيري السياسي الفلسطيني الذي كان أول رئيس لمنظمة التحرير بعض وقائعها في ثلاثينيات القرن الماضي، وسجلها في مذكراته التي صدرت في بيروت عام 69 تحت عنوان: أربعون عاما في الحياة العربية والدولية.

 

إذ تحدث عن أجواء الثورة التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية عامي 35 و36، حين بدأت أفواج المهاجرين اليهود تتدفق تحت سمع وبصر سلطة الانتداب البريطاني، وحين أدرك الفلسطينيون خطورة هذه الهجرة التي اقترنت بوصول شحنات للسلاح كان المستوطنون يخفونها في أماكن عدة.

 

وقتذاك أعلنوا الإضراب العام للتعبير عن الاحتجاج والغضب. فسارعت وزارة المستعمرات البريطانية إلى إصدار بيان أعلنت فيه أنها تدرس بشكل جاد إجراء تغييرات دستورية لمعالجة مشكلتي الهجرة وبيع أراضى الفلسطينيين، لكنها نكثت بوعدها تحت وطأة الضغوط الصهيونية. وهو ما أجج المشاعر الفلسطينية ودفع القوى الوطنية في 15 أبريل/نيسان عام 1936 إلى إعلان إضراب مفتوح تطور إلى اشتباك بالسلاح بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود. وشكلت القوى الوطنية قيادة عليا برئاسة الحاج أمين الحسيني أعلنت استمرار الإضراب حتى تغير الحكومة البريطانية موقفها من مسألتي هجرة اليهود وبيع الأراضي.

 

ورغم الإجراءات القمعية التي لجأت إليها سلطة الانتداب، فإن المقاومة الفلسطينية اتسع نطاقها، حتى استقطبت أعدادا من المجاهدين انضموا إليها من سوريا والعراق. وبعد ثلاثة أشهر من الشلل الذي أصاب الحياة في فلسطين، والاشتباكات التي أدت إلى سقوط عشرات القتلى على الجانبين، أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها تأليف لجنة ملكية للتحقيق في أسباب الثورة والنظر في مطالب العرب وظلاماتهم. لكن الفلسطينيين الذين خبروا أمثال تلك اللجان رفضوا إنهاء الإضراب قبل أن تستجيب سلطة الانتداب لمطالبهم.

 

حينذاك لجأت بريطانيا إلى باب آخر لفض الإضراب، وكان الضغط العربي سبيلها إلى ذلك. وأوكلت الأمر إلى الأمير «الملك» عبد الله الذي قدم من شرق الأردن وإلى نورى السعيد رئيس وزراء العراق، اللذين تتابع وصولهما إلى فلسطين لهذا الغرض، واجتمعا مع القيادات الوطنية التي كان بعضها رهن الاعتقال. ولكن مهمتهما لم تنجح بسبب تمسك الفلسطينيين بموقفهم.

 

لم ييأس البريطانيون وواصلوا ضغوطهم على دول الجوار العربية كي تستخدم نفوذها لإجهاض الثورة التي كانت تزداد اشتعالا يوما بعد يوم. ومن ثم تجددت المساعي التي انضمت فيها الرياض إلى بغداد وعمان، وأشيع وقتذاك أن بريطانيا قدمت وعودا قاطعة للاستجابة التدريجية للمطالب الفلسطينية، وأن الهدوء مطلوب لكي تقوم اللجنة الملكية الموعودة بمهمتها. وهو ما ضعفت أمامه اللجنة العربية العليا، التي أصدرت بيانا في 11 أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام دعا إلى إنهاء الإضراب استجابة لرسالة وجهت إلى رئيسها الحاج أمين الحسيني من أربعة من القادة العرب هم: الملك عبد العزيز «السعودية» والملك غازي «العراق» والإمام يحيى «اليمن» والأمير عبد الله «الأردن». وذكر البيان أن أولئك القادة دعوا إلى اتخاذ تلك الخطوة حقنا للدماء «واعتمادا على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل».

 

في اليوم التالي مباشرة «12 أكتوبر» توقف إعصار الغضب، وبدأ المجاهدون العرب في العودة إلى بلادهم. ومن ثم نجحت سلطة الانتداب في إجهاض الثورة. ورحب خطاب العرش البريطاني في وقت لاحق بهذا التطور. وأعلن أن اللجنة الملكية ستتوجه إلى فلسطين خلال أيام كي تبحث عن «تسوية عادلة ودائمة» لمختلف المشكلات الصعبة التي تعتمل في فلسطين. كان ذلك في عام 1936، وما زلنا حتى هذه اللحظة ننتظر تلك «التسوية العادلة والدائمة»، التي لم يخل منها بيان سياسى صدر بخصوص الأزمة طوال السبعين عاما الماضية.

 

 (2)

 

إذا شئنا أن نكون أكثر دقة فربما جاز لنا أن نقول إن الدور العربي لم يكن سلبيا دائما في مراحل تطور القضية الفلسطينية، لكنه ظل مؤثرا وحاسما في حالات المد والجزر التي مرت بها القضية. إذ ظلت تلك الحالات دائما صدى وانعكاسا للموقف العربي في نهوضه وتراجعه.

 

وهذا السياق العربي يتعين الانتباه إليه في تقييم محطات الصراع، لأن كثيرين منا أصبحوا يقيِّمون المشهد الفلسطيني بمعزل عن السياق المشار إليه، فنحن لا نستطيع مثلا أن نفصل بين مرحلة المد القومي التي شهدتها مصر والأمة العربية في العهد الناصري وبين الصعود المشهود للمقاومة الفلسطينية في تلك الفترة. حيث لا يجادل أحد في أن ذلك المد كان بمثابة الرافعة السياسية الأساسية للمقاومة. كذلك فإننا لا نستطيع أن نفصل بين منعطف -الهلكة- الذي دخلت فيه القضية الفلسطينية منذ توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 وبين الأجواء السلبية التي خيمت على العالم العربي في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفد في عام 1979. ذلك أنه لولا الشرخ العميق الذي أحدثته الاتفاقية الأخيرة ما كان للانكسار الذي أوقعه اتفاق أوسلو أن يحدث.

 

وللعلم فلست صاحب مصطلح «الهلكة» ولكنه منسوب إلى الدكتور على الجرباوي أستاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت بالضفة الغربية، الذي يتحدث في كتاباته عن ثلاثة مفارق مفصلية في مسار الصراع العربي الإسرائيلي خلال القرن الأخير. الأول هو «النكبة» عام 1948، التي خسر فيها العرب أربعة أخماس فلسطين لتتحول إلى إسرائيل، وتم خلالها طرد ثلثي الفلسطينيين من بلادهم. الثاني هو النكسة عام 1967، التي خسر فيها العرب الخمس الأخير من فلسطين لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح بعدها الفلسطينيون جميعا إما مشردين في شتات الأرض، أو خاضعين للاحتلال الإسرائيلي. الثالث هو «الهلكة» عام 1993 التي تمت بعد انطلاق احتفالية مدريد عام 1991، وبمقتضاها تم التوقيع على اتفاق مبادئ أوسلو الذي أعطى لإسرائيل الموافقة الفلسطينية الرسمية على شرعية الوجود والتمتع بالأمن دون مقابل، سوى اعترافها بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني ومفاوضا رسميا عنه. ودون اعتراف منها بأنها تحتل أرضهم بعد حرب عام 1967.

 

 

(3)

 

في ذكرى النكبة التي حلت قبل أيام «15/5» صرح بنيامين نتنياهو للتلفزيون الإسرائيلي بأنه بعد المحادثات التي أجراها مع الرئيس مبارك في القاهرة ومع العاهل الأردني الملك عبد الله أدرك أنه لأول مرة في تاريخ الصهيونية حدث اتفاق واسع مع العرب حول الخطر الإستراتيجي الذي يهدد الجميع. (في إشارة إلى إيران التي سبق للرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز أن صرح بأنها تمثل خطرا مشتركا يهدد إسرائيل والعرب).

 

في اليوم ذاته نشرت الصحف العربية أن السفير جيفري فيلتمان القائم بأعمال مساعد وزيرة الخارجية الأميركية قال كلاما مشابها في جلسة استماع عقدتها لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. إذ ذكر أن المسؤولين الأميركيين لاحظوا في لقاءاتهم مع زعماء المنطقة العربية أن تركيزهم الأساسي أصبح منصبا على التعبير عن القلق إزاء سياسة إيران في المنطقة، خلافا لما كان عليه الوضع في السنوات السابقة.

 

في هذا الاتجاه كتب المعلق الإسرائيلي آري شافيت مقالا بصحيفة هآرتس «عدد 7/5» تحدث فيه عن «الأنباء الجيدة» في العالم السياسي المحيط بإسرائيل. وكان الخبر الجيد الأول من وجهة نظره أن التحالف الإستراتيجي بين مصر وإسرائيل «لم يكن قويا أبدا كما هو عليه اليوم». وأن النظام المصري أصبح يدرك جيدا أنه إذا تضررت إسرائيل فإن مصر ستتعرض للإصابة. وإذا تعرضت إسرائيل للإصابة فإن ذلك سيؤثر على وضع النظام المصري. في هذا الصدد قال إنه لذلك تحركت مصر وإسرائيل بشكل متناسق في عملية «الرصاص المصهور» (يقصد العدوان على غزة)، ولذلك ستتحرك مصر وإسرائيل بصورة متناسقة أيضا في المعركة السياسية الساعية لكبح إيران والتصدي لها.

 

الخبر الجيد الثاني في رأى الكاتب تعلق بالأردن والسعودية وأغلبية دول الخليج. إذ ادعى أن تلك الممالك «موجودة على حافة الهاوية»، وقادتها يعرفون أنهم يعيشون فوق بركان، لذلك فإن إسرائيل إذا نجحت في أن تلقي لهم جسر الحبال الصحيح، فسوف يغتبطون لأن ذلك سيمكنهم من اجتياز النهر، حيث لا توجد حدود للتعاون الممكن بين عصرنة دبي وأبو ظبى وبين عصرية تل أبيب.

 

في ختام مقاله دعا الكاتب إلى تعزيز وتوسيع الأفق المشترك بين العرب المعتدلين وبين إسرائيل، وقال إن على طاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو «خططا مثيرة للاهتمام في هذا الصدد، تسعى لتغيير وجه الشرق الأوسط».

 

 

(4)

 

قد لا يخلو هذا الكلام من مبالغة، لكنه لا يخلو من صحة أيضا، لأن الفكرة الأساسية فيه معلنة على الملأ ومتداولة بصورة أو أخرى في الأوساط السياسية. وهى التي تنصب على التوافق النسبي الحاصل في الرؤية الإستراتيجية بين إسرائيل ودول «الاعتدال» العربي، التي أصبحت -حتى مع اختلاف الدوافع- تركز على ما سمي بالخطر الإيراني، وتعتبره مقدما وأكثر إلحاحا من الملف الفلسطيني. وهذا تحول غير مسبوق ضرب لأول مرة الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية، كما أدى إلى تراجع أولويتها في سياسات بعض دول المنطقة، الأمر الذي لا ينبغي الاستهانة به، لأنه يعنى في حقيقة الأمر استبعاد ملف القضية من أجندة المرحلة وإطلاق يد إسرائيل في تعزيز الاستيطان وتهويد القدس، ومن ثم إكمال مخطط تغيير الوقائع على الأرض، بما يقطع الطريق تماما على فكرة الدولة الفلسطينية. وهو ما يعني أيضا -للدهشة- أن ثمة اصطفافا عربيا إلى جانب إسرائيل في مواجهة إسرائيل، على العكس تماما مما هو مرجو ومتوقع، وعلى النقيض تماما من موقف الشارع العربي.

 

"

الدور العربي الذي كان رافعة سياسية للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الخمسينيات والستينيات، يُوظف الآن ليكون رافعة إسناد للإسرائيليين في مواجهة التحدي الإيراني لهم وفي تصفية القضية الفلسطينية

"

لا يخلو المشهد من مفارقة مُرَّة وصادمة. فالدور العربي الذي كان رافعة سياسية للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الخمسينيات والستينيات، يُوظف الآن ليكون رافعة إسناد للإسرائيليين في مواجهة التحدي الإيراني لهم وفي تصفية القضية الفلسطينية.

 

هذه الفكرة أثيرت في ندوة حول مستقبل القضية الفلسطينية، عقدها مركز الخليج للدراسات بالشارقة في التاسع من مايو/آيار الحالي. ومن الملاحظات المهمة التي أبداها في صددها الباحث الفلسطيني حلمي موسى أن إسرائيل منذ الخمسينيات عملت على مد جسورها مع دول المحيط (خصوصا تركيا وإيران وإثيوبيا) لكي تواجه دول الطوق وتضغط عليها، وفي المقدمة منها مصر.

 

ولكن التحول الحاصل في الرؤية الإستراتيجية قلَب الوضع تماما. ذلك أن إسرائيل أصبحت أكثر اطمئنانا إلى دول الطوق التي باتت جزءا من محور الاعتدال، وأكثر قلقا من دول المحيط. ذلك أن إيران وضعها معروف، وتركيا لم تعد مضمونة كما كانت في الماضي، وإثيوبيا هي الوحيدة الباقية، ولا تستطيع وحدها أن تخدم المخطط المرسوم.

 

ذلك كله لم يكن يخطر على بال أحد، لكنه صار حاصلا الآن على نحو يوحي بأن دخول المنطقة إلى المرحلة الإسرائيلية إن لم يكن قد تحقق بالفعل، فهو على الأقل قد بدأ، وأن كلام الصحفي الإسرائيلي عن خطط نتنياهو المثيرة للاهتمام التي تسعى لتغيير وجه الشرق الأوسط ليس محض ادعاء.

 

ليس ذلك قدرا بطبيعة الحال، لكنه خطر بات يمشي على الأرض. ولأن النظام العربي لم يعد ممكنا التعويل عليه لدرئه، كما رأيت، فلم يعد أمامنا سوى أن نراهن على مقاومة الجماهير العربية والإسلامية، التي باتت تمثل خط الدفاع الأخير عن كرامة الأمة ومستقبلها. وذلك موضوع يحتاج إلى بحث مستقل.