نهاية العصر الذهبي للأمن في “إسرائيل”

الساعة 08:31 ص|21 يناير 2023

فلسطين اليوم

نهاية العصر الذهبي للأمن في “إسرائيل”.. بقلم كل من:
اللواء د. يعقوب بانجو / رئيس قسم التكنولوجيا واللوجستيات في جيش العدو

العقيد نير يناي/ رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في شعبة الاستراتيجية في جيش العدو

الرائد يوناتان نيبو/ رئيس الفرع الدولي في دائرة التخطيط الاستراتيجي في جيش العدو

المقال يعبر عن رأي كاتبيه فقط...
كانت “إسرائيل” تعيش في عصر أمنى ذهبي وانتهى، مزاياها الاستراتيجية الجديدة هي بنية تحتية لنقطة توازن متجددة، لكن لا تلغي الفهم بأننا في واقع جديد مليء بالتحديات، ويجب على صناع القرار أن يتصرفوا اليوم وأن يقرروا، في ظل ظروف عدم اليقين، ماهي البيئة الاستراتيجية التي يجب الاستعداد لها؟

“ليس الأقوى أو الأذكى من ينجو، بل الأكثر استجابة للتغييرات ” (تشارلز داروين)

تواجه “إسرائيل” حقبة أمنية جديدة نتجت عن تغيير شديد وجذري في خصائص النظام الجيوستراتيجي السابق، العصر الجديد مليء بالتحديات وينطوي على مخاطر أكثر خطورة من تلك التي عرفناها في العقود الأربعة الماضية، في قلب التغيير تآكل أو تراجع عميق لثلاثة “امتيازات” استراتيجية ميزت العقود الماضية، وبفضلها عشنا “العصر الأمني الذهبي” وهي: امتياز التهديد المحدود، وامتياز الهيمنة الأمريكية ودعمها القوي لإسرائيل، وامتياز روح الشعب المشتركة.

صحيح أن معظم أبعاد التغيير معروفة وأن هناك اتجاهات حالية مستمرة، إلا أن نضج الاتجاهات ووضوح الروابط أو العلاقة بينها يخلق التغيير النوعي، إن هذه الروابط أو العلاقة هي التي ستحدد المشكلة الاستراتيجية الحالية التي تتلخص في اجتماع التهديد الخارجي المتفاقم والمستمر من “إيران الكبرى”  إضافة إلى وجود قوة عظمى وأخرى إقليمية حازمة بدعم روسي، يأتي ذلك مع ضعف التماسك الإسرائيلي وتزعزع أو اختلال قوة ودعم الركيزة الأمريكية، وفي ظل هذه الظروف، فإن القدرة على التعامل مع التهديد الخارجي ستتطلب أثمانا باهظة، وستكون لأجيال، وأثقل من قدرة تحمل إسرائيل ووضعها الاستراتيجي.

بالتوازي مع هذه الاتجاهات، جددت أو طورت إسرائيل نفسها في نقاط قوة مهمة، وهي على الرغم من أنها لا تقلل بشكل كبير من حجم الخطر، إلا أن لديها القدرة على أن تكون قوة موازنة: وهي تعاون إقليمي يتعزز، وأهمية دولية متنامية في مجالات الأمن والطاقة، ونقاط القوة هذه، إلى جانب الأمن والتكنولوجيا والاقتصاد الحالي، تضع إسرائيل كقوة إقليمية، لكن الاستفادة العسكرية من التعاون الإقليمي في هذه المرحلة ما زال احتمالا.

من وجهة نظرنا، هذا الوضع الأمني الجديد سوف ينضج وسيصل إلى قوته الكاملة فقط خلال عقد من الزمان. ولاجتياز الاختبار الاستراتيجي طويل المدى بنجاح كبير، يجب أولاً التعرف على التغيير والاستعداد له في الوقت المناسب، وفي ضوء الوقت اللازم للتحضير لبناء القوة، ولتجنيد الشركاء وتحديد السياسة وتنفيذها يجب على صناع القرار أن يتصرفوا من اليوم، ويقرروا في ظل ظروف عدم اليقين البيئة الاستراتيجية التي يجب أن يجهزوا إسرائيل والجيش الإسرائيلي لها.

في هذا المقال سنقوم بسرد الامتيازات التي تلاشت والمزايا الاستراتيجية الجديدة، وسنحاول الوقوف على المشكلة الاستراتيجية الحالية، هذه هي الطريقة التي سنحاول بها وضع الخطوط العريضة للبيئة التي يجب الاستعداد لها:

تلاشي الامتيازات وفقدانها

منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين، منحت ظروف إستراتيجية غير عادية إسرائيل مزايا أو امتيازات غير عادية، وأدت إلى عصر أمني ذهبي، على الأقل من الناحية المحلية، هذا العصر الذهبي لم يتجلّ فقط في الأمن، فقد انعكس الانخفاض في التهديد الأمني، إلى جانب العمق الاستراتيجي الذي قدمته الولايات المتحدة، وفي انخفاض الاستثمار في الأمن بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، ومناخ اقتصادي أكثر ملاءمة للاستثمار والتنمية، وساهم هذا الوضع في النمو والازدهار، ووضع إسرائيل في الصف الأول للدول الغربية (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) (OECD)، ومع ذلك فإن هذه الامتيازات تتلاشى اليوم: فقوة الدعم الاستراتيجي آخذة في التراجع وكذلك التضامن الوطني والقوة الداخلية، هذه الاتجاهات تجعل من الصعب علينا التعامل مع قوة إقليمية حازمة ودولة قوية مثل إيران، وهذا يعني أنه من المتوقع أن تكون هناك فترة طويلة، عدة عقود من التهديد العميق على قوة إسرائيل وازدهارها، بل وحتى تهديدًا وجوديًا في حال امتلكت إيران السلاح النووي.

وإليكم الامتيازات الثلاثة ونهايتها:

الأول: امتياز التهديد المحدود ونهايته

عند إنشائها، واجهت إسرائيل خطر غزو الجيوش العربية القريبة والبعيدة، بما في ذلك القوات المرسلة (القوات التي كانت ترسلها الدول العربية البعيدة للقتال إلى جانب مصر والأردن وسوريا والعراق)، أدى توقيع اتفاقية السلام مع مصر (1979) إلى تقليل هذا الخطر، لا سيما في ضوء مركزية مصر في الحرب العربية ضد إسرائيل، أدى انهيار الكتلة السوفيتية التي دعمت الدول العربية سياسياً وعسكرياً واستنزاف الجيش العراقي في حرب الخليج الأولى (1991) واتفاقية السلام مع الأردن (1994) إلى تقليص مخاطر غزو الجيوش العربية لإسرائيل وأبعدت سيناريوهات الحرب، ناهيك عن السيناريو “الجبهة الشرقية” الخطير.

ابتداءً من عام 1991، تعاملت إسرائيل بشكل أساسي مع المنظمات الإرهابية في الدائرة الأولى وفي معركة على جبهة واحدة، مثل حزب الله في الحزام الأمني في جنوب لبنان والمنظمات الإرهابية الفلسطينية، بل إن حرب الخليج الثانية (2003) عززت من تفوق إسرائيل في الميزان العسكري، لأن القوات الأمريكية كانت متمركزة على نطاق واسع في الشرق الأوسط، ويتجلى التعبير عن ذلك في الاستثمار في الأمن فيما يتعلق بالناتج المحلي، إذا كان الاستثمار في الدفاع في الماضي تراوح بين 10٪ -30٪ من الناتج المحلي الإجمالي (1967-1993)، فإن العصر الذهبي للأمن سمح لإسرائيل بتخفيض الاستثمار إلى 5٪ اليوم، أي من رقمين إلى رقم واحد.

في عام 1971، قال موشيه ديان كوزير للجيش الإسرائيلي: إنه لا ينبغي رفع شعارين: شعار الأمن وشعار الإصلاحات الاجتماعية، من منطلق نيته الاستثمار في الأمن، في العقود الثلاثة الماضية، يبدو أن إسرائيل نجحت في رفع الشعار الثاني وأخذ العبء الأمني النسبي في التراجع، على مر السنين، انضمت إيران كدولة جديدة إلى دائرة التهديدات، ويعزى التهديد في المقام الأول إلى برنامجها النووي، إلى جانب توجيهها للإرهاب وتمويله.

مقارنة بخطر تسلحها بالنووي، كان الاهتمام بالتهديد العسكري المباشر من إيران طفيفًا بسبب الاحتمال الضئيل لوقوع حرب مباشرة معها (تفضل إيران حربًا بالوكالة)، وبسبب محدودية التهديد المباشر بالنظر إلى القدرات التي يمتلكها وكلاء إيران في الدائرة الأولى، هكذا على سبيل المثال كتب في خطة “جدعون” متعددة السنوات (2015-2018): في أعقاب تراجع وضع وقوة التهديد من قبل دولة ونمو المنظمات التي تخلق تهديدات بخصائص جديدة، استمرار منظمة حزب الله في مراكمة قوته وزيادة تهديدات الصواريخ والقذائف الصاروخية، بالإضافة إلى كل ذلك لوحظ الدور السلبي لإيران كعامل قوة مؤثر يدير حربًا ضد إسرائيل، وتعزيز التهديد شبه التقليدي وتراجع التهديد التقليدي.

خطة تنوفاه (2019 إلى الوقت الحاضر) حافظت بالفعل على هذا الاستنتاج في إطار مفهوم “التشغيل من أجل النصر”، والذي يتمحور حول جيوش مدعومة من إيران تعتمد على الصواريخ والقذائف الصاروخية، البعض رأى في التهديد تشكيل “طوق ناري إيراني”، بالتأكيد إلى الحد الذي سينجح فيه مشروع الدقة الصاروخية لديهم، وبناءً على ذلك، تطلب من الجيش الإسرائيلي الاستعداد لمعارك محدودة معظمها على جبهة واحدة، يتمتع فيها بالتفوق في جميع أبعاد القتال مع محاولته تقليص تكاليفها.

وفي مقال اللواء تامير يدعي واللواء عيران أورتال، يمكن العثور على وصف مشابه: ظروف محسنة بشكل كبير لصالح إسرائيل، التي وجدت نفسها في مواجهة منظمات كانت أقل شأناً منها عسكريًا، دون تهديد فوري بالحرب على جبهة ثانية وثالثة، أيضًا، المزج بين هذا النوع من التهديدات وقوة الجيش الإسرائيلي مكّنا نمطًا من “وفرة المعارك”، على مر السنين، كانت هناك تغييرات في الافتراضات، ويبدو أن الاحتكاك المباشر مع إيران في الأبعاد المختلفة – الحركية، والسايبر والطيف ازداد – بل إن إيران زادت من عدوانها وبدأت تهاجم السعودية والعراق ودول الخليج من أراضيها وحتى الهجوم مباشرة ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه طورت إيران قدراتها المستقلة، بالإضافة إلى تحسينات في صواريخ الارض ارض وقامت ببناء نظام دفاع جوي ونظام طائرات بدون طيار واسع ومدمر، والتي تستخدم أوكرانيا اليوم كمختبر لفحص قدراته ومفاهيم أو طرق تشغيله، لذلك، ازداد بشكل كبير سواءً احتمالية المواجهة المباشرة أوثمن الخطأ من عدم الاستعداد له.

إلى جانب التهديد المباشر من إيران، ازداد بعد آخر للتهديد – وهو تعزيز التعاون العملياتي بين إيران و”قواتها بالوكالة”، والترويج لفكرة تعدد الجبهات، استغلت إيران عدم الاستقرار في العالم العربي لبناء “جيوش وميليشيات مسلحة” في المنطقة وتقويتها – في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وتعمل إيران على إقامة روابط وعلاقات بين وكلائها إضافة إلى العلاقات المستقلة مع بعضها البعض.

يضاف إلى ذلك خطر أمني داخلي وهو اندلاع أعمال شغب في المدن المختلطة، وانتفاضة في الضفة الغربية أثناء اندلاع حرب، فخلال عملية “حارس الأسوار” (2021)، حصل الجيش الإسرائيلي على لمحة عن مثل هذا المخطط القتالي متعدد الساحات، والذي أوضح قليلا خطر توحد الساحات، والخطر الذي ينطوي عليه – من القدس والضفة الغربية إلى قطاع غزة، وفلسطينيي الداخل، والطائرات بدون طيار من دولة من الدائرة الثانية، وإطلاق صواريخ من لبنان وتحديات على الحدود.

إيران خصم ثقيل الوزن حتى بدون “وكلاء أو مليشيات تابعة”، من المناسب هنا ذكر بعض خصائصها الرئيسية:

1. الفكر الثوري الشيعي كمحرك مركزي لنظام الحكم.

2. وعي تاريخي عميق بمكانتها الإقليمية كإمبراطورية سابقة وكقوة إقليمية في الوقت الحاضر.

3. القدرة على استخدام الجغرافيا والكنوز الطبيعية والقدرة الإنتاجية المحلية لدرجة أنها تأخذ عمق استراتيجي.

4. دبلوماسية عسكرية وسياسية متطورة بالرغممن العقوبات المفروضة عليها مع الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) والشرق كواحد (روسيا والصين).

5. التكنولوجيا العسكرية والمدنية متقدمة نسبيًا مقارنة بالغرب، وبالتأكيد في القضايا العسكرية.

6. تنوع الأجهزة الأمنية مع التركيز على الجيش والحرس الثوري.

7. القدرة العسكرية الفعلية لإلحاق أضرار جسيمة ببلدان المنطقة والبنى التحتية الوطنية مع التركيز على البنى التحتية النفطية، وهي أضرار لها عواقب استراتيجية على المستوى الدولي.

التهديد الذي تمثله إيران يعمل على ثلاث طبقات:

الطبقة الاستراتيجية: وهي احتمال إطالة القتال وصعوبة آلية إنهائه بسبب إمكانية الدعم السياسي لإيران من روسيا والصين؛ واعتبارات تآكل الردع الإقليمي في اليوم التالي؛ ومسألة الثقة في الجيش الإسرائيلي وقدرته على توفير الأمن في أي سيناريو وأمور أخرى، يختلف هذا الخيار جوهريًا عن المفهوم الأمني الإسرائيلي، الذي يسعى إلى إنهاء سريع للحرب بناءً على نقلها إلى أراضي العدو وهزيمته عسكريا.

الطبقة الجغرافية: حرب على مسافات طويلة تمتد لأكثر من 1500 كيلومتر، حيث يتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من الجهد لجلب قوة الجيش الإسرائيلي متعددة الأبعاد إلى ساحة المعركة، سواء كانت حركية أو غير حركية، وربطها مباشرة بالنتائج الاستراتيجية المرغوبة مع الحد من توسع المعركة.

الطبقة التشغيلية: سيتجسد القتال من جانب إيران ووكلائها في نطاق ونوعية النيران المتنوعة (الصواريخ والطائرات بدون طيار)، وهجمات السايبر والهجمات الطيفية على المجال الإسرائيلي وفي جهد دفاعي يتميز بقوة الدفاع الجوي في المدى أو المجال الذي بين إسرائيل وإيران، واستخدام القوات الخاصة، والدفاع البري القوي، وتوزيع مراكز الثقل وحتى تحصينها (تحت الأرض) وأكثر من ذلك.

سيشكل استمرار المعركة تحديًا لاستمرار العمل العسكري والمدني على جميع الجوانب، إلى جانب احتمال وقوع إصابات ودمار كبير، من ناحية سيناريو التهديد المرجعي والإنجازات المطلوبة من الجيش الإسرائيلي في الحرب، الحديث هنا لا يدور عن هدف من نفس النوع، ولكن عن تغيير عميق في المعركة على المستوى الاستراتيجي وعلى المستوى التشغيلي.

يضاف إلى كل ذلك امتيازان فرعيان (بلغة أخرى – مزايا استراتيجية)، واللذان يؤثران على البيئة الاستراتيجية ويتغذيان منها: وهما: المشروع النووي الإيراني الذي لم ينضج بعد إلى سلاح نووي عسكري، وقوة الاحتكاك المنخفضة في المعركة التي بين الحروب والأمن الجاري، إيران ليست دولة نووية بعد، وهذه ميزة استراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي، ومع ذلك فإن المشروع النووي الإيراني قائم ويوجد في حالة متقدمة جدًا، وهذا الاقتراب والتمركز مهم أيضًا حتى في ظل سيناريو عودة القوى العظمى إلى “الاتفاق النووي” وفي ضوء انتهاء القيود في نهاية العقد، وعليه فإن إسرائيل مطالبة بالاستمرار في الحفاظ على قدرة مهاجمة وإحباط البرنامج النووي غير الاستعداد للمعركة متعددة الجبهات.

امتياز فرعي آخر ينتمي إلى مجال التهديد العسكري، والذي يبدو أيضًا أنه آخذ في التراجع وهو حدة الاحتكاك المنخفضة في الأمن الجاري والمعركة التي بين الحروب، وإمكانية تقليل الاستثمار في هذه المجالات، في السنوات الأخيرة، تحولت المعركة بين الحروب من حوار ذاتي إلى حوار عام – هجمات على الحدود، وهجمات سايبر، وهجمات في الخارج، وإطلاق طائرات بدون طيار تجاه إسرائيل وأكثر من ذلك، هذا الواقع المتمثل في تطور الأمن الجاري ووصوله إلى الدائرة الثالثة “إيران” حتى لو كان بأحجام منخفضة ومتغيرة، يتطلب إعدادًا مناسبًا، فعندما يصبح النظام المنافس أقوى استراتيجيًا وعسكريًا، فقد يحاول توسيع درجات الحرية لنفسه في معركة بين الحروب “ثنائية” أو متبادلة، لذلك يجب أن تؤخذ في الاعتبار معركة مستمرة ومتعددة الأبعاد بين إسرائيل و “إيران الكبرى” كجزء من الواقع الاستراتيجي والعملي في السنوات القادمة.

الثاني: امتياز الدعم والهيمنة الأمريكية وتراجعه

“إن التزامنا بإسرائيل هو التزام طويل الأمد وقوي” (الجنرال لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي)

هناك عدة جوانب للدعم والمساندة الأمريكية: جانب مباشر، سياسي وأمني، وجانب غير مباشر لتشكيل البيئة الإستراتيجية في الشرق الأوسط، هناك العديد من النبوءات حول اتجاهات ومستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن في القضية الأمنية، يمكن القول بتقدير متحفظ نسبيًا أن المنظومة الأمنية والجيش الإسرائيلي لا يتمتعان بالدعم المطلوب الذي كانا يتمتعان به في الماضي، هذه المكانة تعتمد على الهيمنة الأمريكية في العالم بشكل عام، وأهمية الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة، ودعم الجمهور الأمريكي والنظام السياسي لإسرائيل، ومن المتوقع أن تواجه هذه العناصر الثلاثة تحديات كبيرة في المستقبل المنظور.

إن تراجع أو ضعف الامتياز يعود إلى ثلاث عمليات متوازية:

أولاً: تضرر القوة النسبية للولايات المتحدة في العالم، حيث انتقلنا من عالم أحادي القطبية والهيمنة الأمريكية التي كانت موجودة لفترة قصيرة في التسعينيات، إلى عالم يوجد فيه تهديد حقيقي على الهيمنة الأمريكية، إما بسبب قوة منافسة تسعى للهيمنة (مثل الصين)، أو بسبب تزعزع الدولة من الداخل أو حتى على المستوى الدولي، الأمر الذي سيؤدي إلى تآكل القوة النسبية للولايات المتحدة، في ظل هذه الظروف، سيكون من الصعب على أي إدارة أمريكية في المستقبل، مهما كان موقفها إيجابيًا تجاه إسرائيل، أن تحول كميات كبيرة من المساعدات كما في السنوات الأخيرة، دون أن تكون مرتبطة بشكل مباشر بمواجهة تآكل أو تراجع الهيمنة الأمريكية.

ثانيًا: بعد عقدين من الزمن احتفظت فيهما الولايات المتحدة بمئات الآلاف من الجنود بشكل دائم في الشرق الأوسط حيث كانت تخوض حربين كجزء من حرب عالمية ضد الإرهاب، أصبح الشرق الأوسط يحتل مكانًا محدودًا في تفكيرها الاستراتيجي والعسكري، إلى جانب استمرار أهمية أوروبا، لا سيما في ضوء الحرب في أوكرانيا، منطقة المحيطين الهندي والهادئ أصبحت تحتل الأسبقية في أولويات وتفكير الولايات المتحدة الاستراتيجي، من ناحية أخرى، فإن التهديدات الإرهابية من المنطقة آخذة في التناقص في ترتيب الأولويات هذا، كما أن اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط يقل (ولكن لم ينته بعد) بسبب استقلالها في مجال الطاقة.

ثالثًا: الدعم لإسرائيل في الرأي العام الأمريكي وفي النظام السياسي الأمريكي يواجه تحديًا متزايدًا، بينما لا تزال إسرائيل تحصل على مستويات عالية جدًا من الدعم والتأييد بين الجمهور، إلا أن هناك انخفاضًا ملحوظًا في التأييد بين جيل الشباب على وجه التحديد، في العديد من القضايا وهناك تراجع في دعم الحزبين لإسرائيل، هذا التراجع ملحوظ من جانب اليسار، على خلفية صعود السياسيين التقدميين الذين يعارضون إسرائيل ولم يعودوا يرون فيها حليف يحمل نفس القيم، وعلى الجانب اليمين على خلفية الاتجاهات المتزايدة للانفصالية ومعارضة أي نوع من المساعدات الخارجية، عندما تدمج كل هذا مع حقيقة أن إسرائيل لم يعد يُنظر إليها على أنها دولة تحتاج إلى مساعدة لحماية وجودها، ولكن كقوة تكنولوجية وإقليمية (Startup Nation)، فإن الخطر من أن السخاء الأمريكي الذي كان موجودًا خلال الـــ30-40 سنة الماضية سوف يتضاءل أكثر، في الواقع، إن مذكرة التفاهم الحالية بشأن المساعدة الأمنية بين إسرائيل والولايات المتحدة تنذر بالفعل بهذا الاتجاه، لأنه في نهايتها (2028) لن يكون من الممكن تحويل أموال المساعدات إلى عملة الشيكل لدعم الصناعات الأمنية الإسرائيلية، هذا ما لم تعتبر الولايات المتحدة إسرائيل وقدراتها مكونًا أساسيًا في استراتيجيتها العالمية.

إلى جانب هذه العمليات، يجب القول إنه على الرغم من أنه يلاحظ هناك مسافة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة من حيث القيم المشتركة ومن حيث أهمية الشرق الأوسط في النظرة العالمية، إلا أنه من ناحية أخرى يلاحظ أيضاً أن هناك توسعا في مصالح الدولتين في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بأهمية التكنولوجيا في المنافسة بين القوى العظمى ودور “إسرائيل” في الاستقرار في الشرق الأوسط وفقًا لنظرة الولايات المتحدة.
الثالث: امتياز الروح المشتركة والقدرة على التعبئة الداخلية وتراجعها

“تظهر نتائج هذه الدراسة أن هناك طلبًا متزايدًا من الفئات المدنية والاجتماعية المهمشة لاتخاذ قرار بموجبه يتم إلغاء نموذج الخدمة الإلزامية تدريجيًا ويقترب هذا الطلب من المركز السياسي والاجتماعي المهيمن، “دكتور أساف ملحي “.

من الأساسيات المهمة في قدرة إسرائيل على تنفيذ استراتيجيتها في العقود الأولى من وجودها تماسك المجتمع الإسرائيلي وقوته واستعداده لتحمل العبء الضروري لصالح الاستجابة الأمنية، بما في ذلك الاستعداد للخدمة في الجيش، وارتفاع تكاليف الأمن والاستعداد لمنح المنظومة الأمنية وزناً ثقيلاً في صنع القرار في شأن قضايا الأمن القومي، التحدي المتمثل في الحفاظ على هذا النوع من الاتجاه بمرور الوقت هو عنصر اساسي وموجود في كل مجتمع ثري، ومع ذلك، يبدو الآن أن التحديات زادت على إسرائيل والتي ستجعل من الصعب عليها الحفاظ على تماسكها أو وحدتها، وعلى عنصر القوة الناشئ عن طبيعة العلاقة بين المجتمع الإسرائيلي وجيشه ومنها: التغيير الديموغرافي الذي يؤدي بدوره إلى تغيير في الروح والقيم (“الاسباط الأربع”)؛ تآكل التماسك بين المجتمع والدولة؛ صعوبة الحفاظ على نموذج الجيش الشعبي، بدائل التوظيف الجيدة اجتماعيًا واقتصاديًا مقارنة بالخدمة في الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية؛ وتراجع المكانة العامة للجيش الإسرائيلي والمنظومة في النظامين السياسي والعام؛ وتغيرات في البيئة التكنولوجية والإعلامية تتحدى القدرة القيادية لدى القادة الكبار، كل هذا يغير المجتمع الإسرائيلي من مجتمع ذي تيار رئيسي قوي ومتضامن لديه مستويات عالية من التعبئة إلى مجتمع أكثر استقطابًا مع تقلص أو تراجع أساس الإجماع والروح المشتركة، وتراجع في الاستعداد لتحمل العبء الأمني، هذه التغييرات، التي تضر من بين أمور أخرى بعمل المؤسسات السياسية، إلى جانب انخفاض الرغبة في تحمل تكاليف الأمن العالية التي أصبحت تحديًا لقدرة اتخاذ القرارات وقوة التحمل والحصانة المجتمعية.

تم التعبير بشكل ملموس عن هذا في سلسلة من الأحداث في السنوات الأخيرة، حيث تم اختبار تحدي تماسك الجيش والقدرة القيادية لدى مستوى القيادة العليا في سلسلة من الحوادث، كان فيها الجيش وكبار القادة في وسط ضغط وانتقاد عميقين، مع مزاعم عن انفصال بينهم وبين الجنود في الميدان، وقد وصف الباحثون هذه الأحداث بأنها ضوء تحذير للاضطراب في العلاقات بين الجيش والمجتمع – في إسرائيل، تحدٍ ملموس آخر نشأ من تداعيات الأزمة السياسية في إسرائيل في السنوات الأخيرة على استقرار الحكومة وبشكل غير مباشر أيضًا على عمليات تجهيز وبناء قوة الجيش الإسرائيلي وكذلك على صورة إسرائيل في الخارج، وبينما لا يستطيع الجيش الإسرائيلي التعامل مع هذه الأحداث بشكل مباشر، إلا انها أثرت بشكل أساسي على استعداداته في السنوات الأخيرة،، ومن المظاهر الأخرى الملحوظة التحدي المتمثل في تحقيق أهداف التجنيد، الذي يتطلب حلولاً إبداعية والتي بعضها في حالة توتر مع بعضها البعض، ومع ذلك، فإن التغيير الأكثر جوهرية يحدث على وجه التحديد في الدعوات لتحديث الميثاق الاجتماعي الذي ينعكس في نموذج ” جيش الشعب “، والذي يثير التساؤل حول رغبة المجتمع الإسرائيلي في الحفاظ على نموذج التجنيد الحالي، وهو النموذج الذي سمح أن يتفوق الجيش الإسرائيلي في مجالات تكنولوجية معينة بتكلفة أقل من الجيوش الأخرى.

في حين أن التنبؤ بالاتجاهات الاجتماعية هو عمل معقد يعتمد على العديد من المتغيرات، يجب مراعاة ثلاثة افتراضات عمل في التخطيط المستقبلي:

أولاً: بينما يعيش المجتمع الإسرائيلي تحت تهديد حاد ومتزايد على الجبهة الداخلية إلى جانب خطر حرب متعددة الجبهات طويلة الأمد إلا أنه لا يوجد اليوم شعور يومي بتهديد أمني خطير في إسرائيل، هذا الوضع يقلل من الاستعداد لتعبئة وطنية واسعة لمصلحة الدولة وللاحتياجات الأمنية ويخلق توتراً حاداً بين توقعات الجمهور والطريقة التي ستتطور فيها حرب مستقبلية، وبين ما هو متوقع في مثل هذه الحرب.

ثانيًا: يواجه التحدي المتمثل في تطوير نموذج القوة البشرية في الجيش الإسرائيلي بيئة سياسية واجتماعية معقدة للغاية، يقودها دعوة عامة وسياسية للانتقال إلى نموذج جيش محترف، بطريقة ستضر ببعض المزايا الأساسية في الجيش الإسرائيلي، مع التركيز، على جودة العنصر البشري، جزء من التغيير المطلوب لصالح الجيش الإسرائيلي يتضمن التوازن بين المزايا الاجتماعية والعسكرية التي جلبها نموذج “جيش الشعب”، وبين الصعوبة المتزايدة للحفاظ عليه وتوقع إيجاد نموذج آخر.

ثالثًا: من المتوقع أن تواجه مكانة الجيش الإسرائيلي أمام الجمهور والنظام السياسي تحديات أكثر من أي وقت مضى، فتوقع الشفافية والكفاءة والأداء المهني منه لن يؤدي بالضرورة إلى جدية في التعامل بشكل منهجي مع مشاكل الجيش وتحدياته، أو تركيز النقد على الجوانب البناءة.

العلاقة بين فقدان الامتيازات والمشكلة الاستراتيجية الحالية.

“التحدي الأخير والأكثر تعقيدًا هو التحدي الذي بداخلنا – الصدع العميق الذي يتطور داخل المجتمع الإسرائيلي حول صورة الدولة وشكلها من المعلومات الاستخبارية يمكن القول إن هذه الأشياء هي نقطة لتشجيع دول محور الشر “(رونين بار، رئيس الشاباك)

من المتوقع أن تؤدي العلاقة بين المخاطر إلى إعادة تعريف مشكلة الأمن الاستراتيجي لعقود قادمة:

العلاقة الأولى :أول علاقة أو رابط موجود بين جوانب القوة والتماسك الداخليين واستعداد الأعداء لمحاربة إسرائيل، أن الشعور المتزايد لدى الأعداء بأن إسرائيل هي “بيت عنكبوت” في ظل نقص أو ضعف التماسك والقوة، يمكن أن يخلق الجرأة لديهم ويشجعهم على الاستمرار في استراتيجية الاستنزاف، من منطلق الافتراض بأن قوة إسرائيل ليست سوى صورة خارجية تخفي داخلها مجتمع مرفه غير مستعد للقتال.

العلاقة الثانية: رابط أو علاقة ثانية موجودة بين تآكل الدعم الأمريكي وقدرة إسرائيل على التعامل مع تغير الامتياز الأول – التحضير لصراع متعدد الجوانب مع “إيران الكبرى، من المتوقع أن يدار التحدي الإيراني كمنافسة إستراتيجية وأن يستمر لسنوات عديدة، إن القدرة على الصمود في هذه المنافسة، مع الحفاظ على التفوق والردع طوال الوقت، ومنع التسلح النووي العسكري والفوز بالحرب – تتطلب مساعدة ودعم أميركيين مستمرين ومهمين، هذا بالتأكيد على افتراض أننا نريد أو نرغب في الحفاظ على ضبط للموارد في استثمارات الدولة في الأمن من أجل تمكين النمو الاجتماعي والقدرة على الصمود، لقد سبق ذكر أهمية الدعم الأمريكي، لكننا سنؤكد أن الحديث يدور عن مساعدة من بناء القوة إلى الدعم أثناء القتال ومنع توسع المعركة وإنهائها بشروط إسرائيل وإعادة ترميم القوة بعدها.

العلاقة الثالثة: موجودة بين المكون الإسرائيلي الداخلي والدعم الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بالقيم المشتركة والقوة الاقتصادية لإسرائيل (من الممكن أن يؤدي خفض الدعم الأمريكي أيضًا إلى الإضرار بثقة المستثمرين في إسرائيل)، عادة ما يتسم المجتمع الأكثر استقطابًا أيضًا بظهور أصوات أكثر تطرفاً، وهذه تؤدي إلى خلق عداء لدى جهات في الولايات المتحدة، التي مرت بنفسها بعملية مماثلة، وبالتالي تسريع الخلافات او النفور بينها.

تعتمد قدرة مجتمع ما على التعامل مع التحديات الخارجية على: مصادر القوة الداخلية والخارجية، التماسك الداخلي والتضامن والثقة العامة، والعمل الفعال للسلطات شرط أساسي للنجاح، هذا صحيح أيضًا عندما يتعلق الأمر بالدعم الخارجي، من ناحية الموارد والتكنولوجيا والسياسة بشكل خاص، فالمجتمع الإسرائيلي، الذي كان يعتمد على أغلبية ذات روح مشتركة، والتي حافظت على “جيش الشعب” ولديها ثقة كبيرة في مؤسسات الدولة آخذ في التغير، والدعم الأمريكي القوي آخذ في التآكل، في مثل هذه الحالة، تكون المواجهة الاستراتيجية مع “إيران الكبرى” أكثر تحدياً.

المزايا الاستراتيجية الآخذة في الازدياد..

إلى جانب تلك الامتيازات الآخذة في التلاشي، جلبت السنوات القليلة الماضية لإسرائيل سلسلة من المزايا الاستراتيجية الجديدة، لا يزال من الصعب معرفة كيف ستستمر في مرافقة إسرائيل، لكن سيكون من الصحيح اعتبارها أساسًا مهمًا للتغيير المطلوب للتعامل مع التحديات الأمنية.

المستوى الإقليمي: التعاون والأهمية والهيكلية

بعد عملية بطيئة استمرت عقودًا بلغت ذروتها في اتفاقات إبراهام (2020)، غيرت عدد من دول المنطقة موقفها تجاه إسرائيل، فعلت دول الخليج ذلك بسبب إدراكها قوة وخطورة التهديد الإيراني، والتغيير المحتمل في الموقف الاستراتيجي والعملي الأمريكي، وخوفًا من عدم قدرتها على مواجهة التحدي بمفردها، يؤدي التعاون المتزايد مع هذه الدول إلى مزايا إستراتيجية مهمة لإسرائيل منها: القوة الاقتصادية والتجارية، وتحسين الوضع السياسي وبالطبع إمكانية شراء المعدات الدفاعية، ونتيجة لذلك يتم الحفاظ على التفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، كما أن التعاون العسكري نفسه يرتفع درجة بفضل انتقال الجيش الإسرائيلي إلى مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية (Centcom)، وتشير المنشورات الأخيرة إلى إمكانية تشكيل هياكل أمنية، مثل الشراكة في الدفاع الجوي الإقليمي، وأيضًا إلى اجتماعات مسؤولين كبار.

هذا النوع من التعاون العسكري والأمني يوسع من العمق الاستراتيجي لإسرائيل، وتطوير هذه الميزة له وزن أكبر من المساهمة العسكرية المباشرة من قبل المنظومة الأمنية، إنه يخدم استراتيجية محتملة لردع إيران، وتقليص حدود نفوذها وحرية عملها، وربما حتى تحديها من مناطق أخرى، كل هذه توجهات عمل لم تكن ممكنة في العهد الأمني السابق، عندما ركزت إسرائيل جهودها الأمنية على حماية الحدود والاستعداد للحرب، يمكن أن يكون التعاون الإقليمي مصدراً بديلاً للقوة وتعويضاً جزئياً للردع الناجم عن الوجود الأمريكي، ومع ذلك، لن يتمكن في أي وقت من أن يحل مكان حاجة إسرائيل للدفاع عن نفسها في سيناريوهات الحرب، كما أن هذه عملية لا تزال في مهدها، ومن المتوقع أن يستغرق نضجها وقتًا طويلاً، وهي عرضة لمخاطر عديدة تتراوح بين استقرار الأنظمة نفسها بسبب التوترات الداخلية الشديدة والكراهية العامة في هذه الدول لإسرائيل وصولا إلى قضايا فعلية تتعلق بسياساتها في مواجهة التهديد الإيراني.

السياق العالمي: أهمية إسرائيل الامنية ومن ناحية الطاقة لأوروبا..

خلقت الحرب الروسية في أوكرانيا أزمة متعددة الأبعاد (اقتصادية، وسياسية، وأمنية بالطبع) أدت إلى تغيير مفاهيمي شامل، الدولة المركزية التي يتجسد فيها التغيير هي ألمانيا، التي يسعى قادتها لإحداث تغيير جوهري في المفهوم القومي الأمني ومراكمة القوة العسكرية على نطاق عالمي بدعم واسع من الطيف السياسي.

في حين أن الحرب في أوكرانيا هي مأساة إنسانية وتهديد عميق للنظام الدولي، وكذلك للمصالح الإسرائيلية، فإن التغيير الذي يحدث في أوروبا هو فرصة، يُنظر إلى إسرائيل على أنها لاعب ذو قيمة وأهمية للمصالح الأوروبية الجوهرية، وهو الأمر الذي سيجعل من الممكن توسيع الدعم الغربي وحتى تخفيف النفور الأوروبي من القوة العسكرية والاستعداد للدفاع عن النفس، كذلك، تنشأ فرصة بسبب الاستثمارات الأمنية الأوروبية والتعاون العسكري الذي سيساعد إسرائيل في الحفاظ على تفوقها النوعي وبث قوتها، والتعبير البارز عن ذلك هو الدور غير المباشر الذي قد تلعبه إسرائيل في إطار الدفاع الجوي في أوروبا، إذا تم تنفيذ صفقة Arrow 3 المخطط لها مع ألمانيا.

يضاف إلى الميزة الإقليمية والعالمية أيضا عنصر الطاقة: اكتشافات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط منحت إسرائيل أهمية اقتصادية وأمنية، تعزز الأزمة الحالية في أوروبا من حيث الطاقة الأهمية الإسرائيلية وتعمل كرافعة لتحسن في الأمن القومي، لقد تولد عن هذه الرافعة بالفعل تعاونًا مكثفًا مع دول في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط (مصر واليونان وقبرص) وخلق صلة مع دول أخرى في المنطقة، بما في ذلك دمج إسرائيل في منتدى الغاز.

قوة إسرائيل التكنولوجية وجدواها في منافسة القوى العظمى.

التكنولوجيا هي أحد مجالات المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين (وبين الدول بشكل عام)، ومن المتفق عليه على نطاق واسع أن إسرائيل يُنظر إليها على أنها لاعب مهم يمكنها أن تزيد من وزنها في مجال الابتكارات والتكنولوجيا، تتجلى هذه الميزة بالفعل في تصور أهمية إسرائيل في نظر الولايات المتحدة، كما تم التعبير عنه في “إعلان القدس” (2022) والحوار الاستراتيجي الذي تطور نتيجة لذلك.

في ضوء كل هذا، يمكن القول إن إسرائيل تنمو وترتقي في العقد الماضي إلى مكانة قوة إقليمية ذات أهمية عالمية متزايدة: القوة الاقتصادية، وأصول الطاقة، والقوة التكنولوجية، والقوة السياسية (بما في ذلك في الساحة الإقليمية) والقوة العسكرية المتجسدة في الردع القوي، وحرية العمل والقدرات، والتكنولوجيا، والاستخبارات، كل مصادر القوة هذه هي توازن استراتيجي ونقطة انطلاق مريحة للتغير في مواجهة التحديات، على سبيل المثال: مقابل تحدي تآكل أو تراجع عنصر القيم المشتركة مع الولايات المتحدة، يتزايد الإحساس بأهمية إسرائيل في الشرق الأوسط وفي مجالات التكنولوجيا، ومقابل تغير الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط وتشكيل “إيران الكبرى”، هناك تشكيل لهيكل إقليمي تحت مظلة أمريكية، ومقابل دعم الصين المحتمل لإيران، تقف أهمية دول الخليج بالنسبة للصين، وبالتالي تسمح علاقات إسرائيل مع هذه الدول بتوازن إضافي، وأحجام الصادرات الدفاعية إلى أوروبا (وآسيا) تقف مقابل تآكل محتمل للتفوق النوعي في ضوء الاتجاهات.

الأسئلة التي تواجه الاستراتيجية الأمنية الحالية..

في ضوء العلاقة بين الامتيازات المتضائلة والمزايا الجديدة، نضع أسئلة يجب على صانعي القرار الوقوف عليها عند تخطيط السياسة وصياغة الخطة متعددة السنوات المقبلة

• تركيز التهديد المرجعي؛ هل يصح توجيه بناء القوة إلى حرب متعددة الساحات، ملائمة في الغاية والجهد من جانب نظام منافس يشمل إيران نفسها، أو بالأحرى إلى حرب في ساحة رئيسية واحدة في نفس الوقت مع تحديات متفرقة من ساحات أخرى؟

• هل يجب أن تكون المعركة المستمرة ضمن المخططات المرجعية لبناء القوة أم أن استخدام القوة يجب أن يكون على أساس الأدوات التي سيتم بناؤها للحرب؟ كما ذكرنا، يجب الحفاظ على القدرة على وقف التسلح النووي لإيران بكل الوسائل.

• كيف يجب تحديد الإنجاز المطلوب لهذه المخططات؟ هل من الصحيح الحفاظ على تعريفات التصنيف الاستراتيجي والتزامن التشغيلي؟

• بأي نهج استراتيجي يجب أن تتم المواجهة مع إيران: احتواء أم صد أم وقف التوتر أو منافسة استراتيجية أم معركة حاسمة (الضغط من أجل تغيير النظام)؟

• سؤال المفهوم الذاتي: هل إسرائيل قوة إقليمية؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف يجب العمل على تعزيز هذه المكانة وكيف سيتجسد ذلك؟

• مسألة العمق الاستراتيجي والاعتماد على الذات. إلى أي مدى يجب الاعتماد على الدعم الأمريكي في الروتين (بناء القوة) وفي الحرب (الإمدادات، المساعدة الدفاعية، دعم مجلس الأمن)؟ هل يمكن البناء على الشراكات الإقليمية في الروتين والطوارئ لصالح العمق الاستراتيجي في الدفاع؟

• طول التنفس. هل يجب أن يستعد الجيش الإسرائيلي لحرب طويلة، حتى لو كان لا يزال يسعى لمعركة قصيرة، وكيف يجب أن يستعد الاقتصاد لذلك؟

• بؤرة بناء القوة. ما هي النسبة المطلوبة بين الدفاع والهجوم؛ بين تركيز سلاح صواريخ الأرض أرض وسلاح الجو في الدائرة الأولى وبين تركيز سلاح الجو في الدائرة الثالثة “إيران ” وبناء قدرات نارية واستخباراتية للسلاح البري.

• كيف نحافظ على التفريق بين ساحات الحرب. هل من خلال الردع ونقل الرسائل في سيناريو التصعيد أم من الممكن إضعاف الروابط بين الساحات مسبقا خلال الروتين؟

• كيف يتم الحفاظ على الدعم الأمريكي مع مرور الوقت وما هو العنصر او المكون العسكري المرتبط بذلك؟

• مسألة نموذج الخدمة. هل يجب أن نجتهد في الحفاظ على نموذج “جيش الشعب”، أو توسيعه إلى نموذج الخدمة الوطنية للجميع، أو تغييره إلى جيش محترف (كامل أو جزئي)؟

الخاتمة

مرت إسرائيل منذ بداية أيامها بوضعين استراتيجيين أمنيين: الأول: فترة التهديد بغزو الجيوش العربية المدعومة من قوة عظمى (الاتحاد السوفيتي) وبناء المجتمع الإسرائيلي، والثاني: فترة المواجهة المحدودة، وتهديد نمط الحياة والشعور بالأمن من قبل المنظمات الإرهابية التي تدعمها إيران في بناء قوتها، ولنتذكر أنه خلال هذه الفترة واجهت إسرائيل أيضا تنامي تهديدات السلاح التقليدي (العراق وليبيا وإيران وسوريا) ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع، التهديد المحدود، باستثناء فترة الانتفاضة الثانية نضج تدريجياً إلى معركة بالنيران على المدن الإسرائيلية، في محاولة لخلق إنجازات في مجال الوعي وتجنب الخسارة، واستفادت إسرائيل من الدعم الأمريكي والقوة الداخلية، وهذا هو العصر الأمني الذهبي الذي تمكنت فيه إسرائيل من النمو اقتصادياً والصمود أمام التحديات الأمنية.

اليوم، تقف إسرائيل على أبواب وضع ثالث، نشأ من خلال تغيير ثلاثي في النظام الاستراتيجي:

أولاً: تطور إيران من عنصر دعم بناء القوة للمنظمات الإرهابية إلى دعم استخدام القوة، إما من خلال المستشارين، والمشاركة في القدرات العسكرية التكميلية، أو في الاستخدام المباشر للقوة، ويضاف إلى ذلك الخطر المتزايد لحرب متعددة الساحات من الدائرة الثالثة إلى الدائرة الأولى (وحتى الداخلية)، ثانيًا: تحرر إيران من منطقة العزلة التي ميزتها وأصبحت لاعباً ذا عمق استراتيجي لدولة عظمى (بدعم من روسيا)، ثالثًا: على الرغم من إضافة رصيد جديد من التعاون الإقليمي إلى الجيش الإسرائيلي الذي لا تزال إمكاناته الكاملة غير معروفة، إلا أن ركائز دعم وقوة الولايات المتحدة وعمق القوة الاقتصادية والاجتماعية الإسرائيلية يتم تحديها باعتبارها امتيازات تمنح القوة.

وما هي مخاطر الوضع الجديدة؟ يمكن العثور على صياغة واحدة ممكنة في كلمات الدكتور دان شيبتان: “تدرك الجهات الأمنية الاختلاف بين الخصائص المتوقعة لحرب إقليمية وبين أي حرب أخرى منذ إنشاء الدولة، هذا ليس تهديدًا على وجود الدولة ذاته، ولكن في ظل الظروف اللازمة لدولة متطورة في القرن الحالي، فهو تهديد لقصة نجاح إسرائيل”، هذه صياغة معتدلة لـطريقة عمل استراتيجي محتملة للأمن.

من وجهة نظرنا، من الصواب صياغة طريقة أو اسلوب العمل الاستراتيجي الخطير على النحو التالي: تحد وطني شامل، ناتج عن الجمع بين التهديد وعبء الضغط الخارجي – (المواجهة الاستراتيجية وحتى الحرب مع “إيران الكبرى”) – وبين الضعف الداخلي الناتج عن تآكل التماسك والتعبئة الوطنية وضعف الدعم الاستراتيجي الخارجي، الخطر يكمن في إلحاق الضرر بالنمو الداخلي لإسرائيل وطرد او ابعاد اسرائيل عن مكانتها الإقليمية، وتضييق حريتها في العمل والتهديد بإلحاق ضرر جسيم بها، وربما مستقبلا إعادة الفكرة الإقليمية بعدم قبول وجودها، معنى التغيير هو فترة طويلة (عقود) في ظل ظروف التهديد العميق على قوة إسرائيل وازدهارها، والذي قد يرتفع إلى مستوى التهديد الوجودي في حال تسلح إيران بالنووي.

بأي شكل من الأشكال، يجب استيعاب أن إسرائيل كانت في عصر أمنى ذهبي وأن هذا العصر قد انتهى، المزايا الاستراتيجية الجديدة التي ذكرناها هي في الواقع البنية التحتية لنقطة توازن متجددة، لكن لا تلغي الفهم بأننا في واقع استراتيجي جديد وأكثر تحديًا، في رأينا: الوضع الجديد سينضج ويصل إلى كامل قوته فقط في وقت لاحق من هذا العقد، من ناحية أخرى، بينما يكشف المستقبل عن وجهه ببطء، يجب على صناع القرار أن يتصرفوا اليوم ويقرروا، في ظل ظروف من عدم اليقين ماهي البيئة الاستراتيجية التي ينبغي أن تكون إسرائيل مستعدة لها، نأمل أن تساعد الأسئلة صناع القرار وأن تكون صياغة طرق العمل الاستراتيجية الأمنية للوضع الجديد هذا بمثابة إشارات تحذيرية لصناع القرار، وعلى الصعيد الشخصي نأمل جميعًا ألا تتحقق هذه المخاطر.

كلمات دلالية