خبر العودة إلى مناخ التصعيد مع إيران .. د. بشير موسى نافع

الساعة 08:42 ص|21 مايو 2009

د. بشير موسى نافع

21/05/2009

بعد لقاءين عقدهما رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد مع الرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني، أكد نتنياهو على الاتفاق العربي - الإسرائيلي حول تقدير التهديد الذي تمثله إيران. ولا يحتاج الأمر كبير اجتهاد لادراك أن 'العرب' المقصودين في تصريح نتنياهو ليس كل العرب، بل دولاً مثل مصر والأردن، وربما السعودية أيضاً، التي يجمعها مصطلح دول 'معسكر الاعتدال' الغريب. والمدهش، أن نتنياهو لم يعرج على درجة التفاهم التي تطورت في زيارتيه لمصر والأردن على صعيد عملية السلام واستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين والسوريين. في اليوم نفسه، كان مساعد وزيرة الخارجية الامريكية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان يشير خلال جلسة استماع أمام لجنة للكونغرس إلى التغير الملحوظ في مناخ المنطقة العربية السياسي، وإلى أن الصراع العربي - الإسرائيلي يتراجع في لغة قادة المنطقة، ليحل محله القلق من التهديد الإيراني. وفيلتمان، مرة أخرى، لا يقصد كل الدول العربية، بل على الأرجح المعسكر ذاته الذي قصده نتنياهو في تصريحه. في اليوم التالي، كان معهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن ينشر تقريراً عسكرياً تفصيلياً، أعده اثنان من كبار الباحثين الامريكيين، يدرس احتمالات ضربة إسرائيلية جوية للمنشآت النووية الإيرانية، وعواقبها، متوقعاً أن تتم مثل هذه الضربة قبل نهاية العام الحالي.

المؤكد أن نجاح إيران في تطوير سلاح نووي لا يشكل في حد ذاته تهديداً للدولة العبرية أو المصالح الامريكية في المنطقة. قيام إيران ولو بمجرد التلويح باستخدام السلاح النووي ضد الدولة العبرية، أو ضد أهداف امريكية أو نفطية في الخليج، سيوفر المسوغ لتوجيه ضربة استباقية هائلة لإيران، تدفع الحياة الإيرانية عشرات السنين إلى الوراء. السلاح النووي الإيراني، إن اتجهت إيران لتطويره، يقصد به الردع أولاً، وتعظيم الدور السياسي ثانياً. الخطر الحقيقي الذي سيمثله تطوير إيران لسلاح نووي يتعلق في الأثر الذي سيتركه على بيئة التسلح في الإقليم ككل. إن امتلكت إيران سلاحاً نووياً فلن تسطيع قوة ولا معاهدة ولا عقوبات منع تركيا من التوجه نحو التسلح النووي، وسيجد الرئيس المصري، أي رئيس مصري، من الصعوبة تجاهل ضغوطات الرأي العام والمؤسستين العسكرية والأمنية المصرية لامتلاك المقدرة النووية؛ ولا يستبعد أن تسير السعودية وسورية والجزائر في الاتجاه نفسه. خلال سنوات، وربما ليس أكثر من عقد أوعقدين، من امتلاك إيران السلاح النووي، ستكون عدة دول إقليمية أخرى قد اتبعت خطاها، وستصبح الدولة العبرية محاطة بغابة نووية حقيقية، يجردها من حافة التسلح الاستراتيجي التي تمتلكها، ويفتح الباب لضغوط دولية دفاعية وسياسية لإعادة بناء خارطة الإقليم. غابة نووية وسط هذا المحيط من النفط والغاز، وعلى جانبي أكثر الممرات حساسية واستراتيجية في العالم، لن يبعث على اطمئنان القوى العسكرية والاقتصادية الكبرى في العالم. هذا، باختصار، ما تمثله إيران من تهديد للدولة العبرية والتصور الامريكي للعالم والمصالح؛ وهذا ما يجعل البرنامج النووي الإيراني مسألة يصعب تجاهلها.

إدارة الرئيس أوباما، التي تعيد تموضعها يومياً تقريباً للتوكيد على أن المصالح الامريكية لا تتغير من إدارة إلى أخرى، سبق أن أكدت على عزمها فتح مفاوضات مباشرة مع إيران، لحل المشاكل العالقة بين البلدين، سيما البرنامج النووي. المتوقع أن تبدأ هذه المفاوضات بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية القادمة، بغض النظر عن المرشح الفائز في الانتخابات. الامريكيون يعرفون الآن أن الملف النووي يتعلق بالمؤسسة الإيرانية الحاكمة أكثر مما يتعلق بشخص الرئيس. وفي التمهيد لهذه المفاوضات، تبنى الرئيس أوباما لغة جديدة في التخاطب مع إيران والإيرانيين، بدون أن يوحي بتنازلات جوهرية؛ وقد أعلن مقربون من البيت الأبيض بوضوح أن واشنطن تخلت عن سياسة إطاحة النظام الإيراني، التي يعتقد أن كافة الإدارات الامريكية السابقة منذ 1979 قد تبنتها. الإشارات الامريكية الإيجابية أثارت قلقاً واضحاً في العواصم العربية الحليفة لواشنطن، ومن هنا عادت لغة التصعيد مع إيران إلى مواقف هذه الدول. ما يثير قلق هذه الدول أن تفاهماً امريكيا إيرانياً لن يتم إلا بتضحية واشنطن بمصالح عربية ملموسة، سواء في العراق والخليج والجزيرة العربية، أو على مستوى الدور الإيراني الإقليمي. وبالرغم من التطمينات الامريكية، التي قدمها دنيس روس، المسؤول الخاص للملف الإيراني في الخارجية الامريكية، ووزير الدفاع الامريكي، فإن قلق أصدقاء واشنطن العرب هو قلق مبرر. التفاهم الامريكي الإيراني لا يمكن أن ينجز بدون تنازلات وتقدمات من الطرفين. سيطلب من إيران التوقف عن تخصيب اليورانيوم والتخلي نهائياً عن أية توجهات لتطوير سلاح نووي؛ كما سيطلب منها تغيير سياستها في العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان لتتواءم مع الأهداف الامريكية. فما الذي يمكن لواشنطن أن تقدمه في المقابل، سوى استرضاء الطموحات الإقليمية الإيرانية.

بيد أن احتمالات التفاهم الإيراني الامريكي لا تزال ضئيلة. حجم المطالب الامريكية كبير؛ بالاضافة الى أن من الصعب أن يطمئن الإيرانيون للوعود الامريكية، فإن الاستجابة لما تطلبه واشنطن (وهي مطالب تخص الدولة العبرية في جلها، أكثر مما تخص المصالح الامريكية المباشرة)، قد تؤدي إلى المس بشرعية نظام الجمهورية الإسلامية، بمسوغات وجود النظام والجمهورية، وبرؤية قاعدة النظام الشعبية له ولدوره. بعد سنوات من إصرار طهران، المبرر والمنطقي والمشروع، على أن تطوير برنامج نووي لأهداف سلمية هو حق يكفله القانون الدولي ومعاهدات منع انتشار الأسلحة النووية، سيصعب على إيران التخلي عن تخصيب اليورانيوم. وبالنظر إلى أن إيران باتت قاب قوسين أو أدنى من امتلاك تقنية السلاح النووي، فسترتفع أصوات نافذة في طهران تدعو إلى قطع نصف الميل الأخير، وتحصين البلاد والنظام مرة وإلى الأبد، بدون الركون إلى وعود واشنطن التي لا يمكن ضمانها مع الإدارات الامريكية المتغيرة. وإن أخفق التفاوض في التوصل إلى التوقف عن تخصيب اليورانيوم، ووضع الطموحات النووية الإيرانية في عهدة قوى وجهات أجنبية، فإن من الخطل استبعاد توجيه ضربة إسرائيلية، امريكية، أو إسرائيلية امريكية، للمنشآت النووية في إيران، ربما بعد أن تكون إدارة أوباما قد سوغت مثل هذا النهج أمام الرأي العام الامريكي والعالمي، بوضع المسؤولية عن إفشال المسار التفاوضي على كاهل الإيرانيين.

ما دامت احتمالات الصفقة الإيرانية الامريكية لا تزال ضئيلة، وما دام التسلح النووي الإيراني لن يشكل تهديداً مباشراً للدول العربية؛ بل أنه سيفتح الباب أمامها لتطوير برامجها التسلحية الخاصة، ودفع القلق والاهتمام العالميين إلى محاولة التوصل إلى تسوية سياسية وتسليحية للصراع العربي الإسرائيلي، فمن الصعب فهم واستيعاب التوافق العربي الإسرائيلي على الموقف من إيران. أحد الاحتمالات خلف هذا المناخ التصعيدي قد يكون التمهيد لأن تسلك بعض الدول العربية، مصر والسعودية على وجه الخصوص، النهج النووي. فالتضخيم من التهديد الإيراني، والتضخيم من الشعور العربي الخطر، سيكون مسوغاً يصعب تجاهله لقرار عربي بإطلاق برنامج تسلح نووي في حال اقتراب إيران من امتلاك السلاح النووي. ما قد يعزز حظوظ هذا الاحتمال أن مصر (إلى جانب تركيا) أعلنت عزمها على إقامة محطات نووية لتوليد الطاقة، منذ تصاعد الجدل حول الملف النووي الإيراني، في إشارة ربما إلى أنها لن تقف مكتوفة اليدين أمام انتشار السلاح النووي في الجوار. هذا هو احتمال حسن النية، بالطبع. ولكن ثمة احتمالاً آخر لهذا التصعيد، يتلخص في أن الدول العربية 'المعتدلة' تعني بالتأكيد ما تقول عندما تعرب عن مخاوفها من البرنامج النووي الإيراني، وأن التصريحات الإسرائيلية والامريكية تشير بالفعل إلى واقع ملموس عندما تشير إلى توافق في الرؤى العربية والإسرائيلية للخطر الإيراني. بمعنى أن عدداً من الدول العربية قد وصل أخيراً إلى قبول الدولة العبرية جزءاً لا يتجزأ من الإقليم المشرقي العربي الإسلامي، وليس قبولها التعاهدي وحسب، ولكن قبولها العضوي كذلك. وعندما يصبح التسلح الإيراني خطراً على هذه الدول، كما هو خطر على الدولة العبرية، فليس من المستغرب أن تحاول هذه الدول إيجاد موقف مشترك مع الدولة العبرية من هذا الخطر.

هناك، بالطبع، من يستبعد هذا الاحتمال، ليس بدوافع أخلاقية وتاريخية، أو لحسن ظن ما في تقدير سلوك الأنظمة العربية السياسي، ولكن من باب الحسابات البراغماتية البحتة. فالدول العربية هي أيضاً كيانات تسعى إلى البقاء وتجنب عدم الاستقرار والقلاقل في جوارها؛ وتدرك هذه الانظمة أن ضربة إسرائيلية أو امريكية للمنشآت النووية الإيرانية ستكون خطوة باهظة التكاليف، سواء على مستوى مخاطر الإشعاع النووي، الخسائر الكبيرة في الأرواح في إيران ومنطقة الخليج، الاحتمالات المتعددة للرد الإيراني، أو حتى الغضب الشعبي من تأييد أنظمة عربية ما لضرب دولة مسلمة جارة، بغض النظر عن وجهات النظر العربية المختلفة تجاه هذه الدولة وسياساتها. إن كان هذا التحليل صائباً، فإن التصعيد العربي ضد إيران ليس أكثر من تصعيد محدود، يستهدف الضغط على القيادة الإيرانية، وليس التشجيع على الحرب. الحقيقة، أن شكوكاً كثيرة تحيط بوجهة النظر هذه، فالدول العربية التي تدق طبول الحرب ضد إيران، لم تنظر إلى العواقب الخطيرة لتحالفها مع الولايات المتحدة ضد العراق، وقد ساندت الغزو الامريكي، سياسياً وبتقديم تسهيلات لوجستية كبيرة، وهي كانت تدرك المخاطر والعواقب التي يمكن أن تنجم عن الاحتلال الأجنبي المسلح لدولة عربية. ثمة غياب فادح لعقل هذه الأنظمة السياسية، وغياب أكبر لتصورها لمصالحها ومصالح العرب الكبرى.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث