خبر بين « نكبتي » غزة.. خيمة عمرها 61 عاما!

الساعة 01:23 م|16 مايو 2009

فلسطين اليوم: غزة

بين تاريخين يحملان بصمة الوجع ذاتها وأنفاس حكاية اللجوء المر كان الحاج "علي عبد القادر أبو جلهوم" (76 عاما) بحاجة إلى صمت طويل يتكفل بإنعاش ذاكرة حزن عمرها ستة عقود.. على عتبات خيمة كان قماشها المتواضع يطير في كل الاتجاهات اتكأ "أبو العز" على أريكة بالية وبعد أن مد رجليه معلنا عن تعب بالغ أخذ يروي لـ"إسلام أون لاين" قصة نكبتيه اللتين يفصل بينهما 61 عاما.

في الأولى كان طفلا صغيرا تنساب دموعه بخوف ويصيح بمن حوله بحثا عن الأمان، وفي الثانية تولى مهمة إنقاذ من سكنه الرعب فاحتضن بكاء الأولاد والأحفاد.

وبصوت تخرج نبراته ببطء مدروس يقول أبو العز: "نقف اليوم أمام تاريخ يعيد نفسه، ولكن بمشاهد أكثر دموية ورعبا"، ويشير إلى الخيام المنتشرة على أرض حي السلاطين شمال قطاع غزة، ثم ما يلبث أن يتنهد بعمق قبل أن يضيف: "الخيمة هي نفس الخيمة.. في 48 انتكبنا وهجّرنا من بيوتنا وأرضنا وها نحن نعود لذات الحكاية.. عمر هذه الخيمة ليس أياما وشهورا بل عقودا وعقودا".

الخيمة من جديد

وبعد الحرب الشرسة على قطاع غزة، والتي شنتها إسرائيل فيما بين 27 ديسمبر و18 يناير الماضيين، وأسفرت عن استشهاد نحو 1420 فلسطينيا، وجرح أكثر من 5450 آخرين، استيقظ الفلسطينيون ليجدوا أنفسهم أمام نكبة جديدة دمرت أكثر من 16 ألف منزل وشردت 35 ألف أسرة تاركة سكانها بلا مأوى لتصبح الخيمة هي مقرهم الدائم بكل ما تحتويه من ألم وقسوة.

يطرق الحاج علي (أبو العز) أبواب ذاكرته المثقلة بتواريخ الوجع.. يسترجع شريط الأحداث الطويل ليقف عند عام 1948: "انهالت على قريتي هربيا (الواقعة جنوب فلسطين وإلى الشمال من مدينة غزة).. كان وقتي عمرها 15 عاما.. طاردتنا قذائف الموت ولم يرحم الاحتلال صغيرا أو كبيرا.. هدموا البيوت على ساكنيها.. نسفوا المساجد ولم يبق شيء على حاله".

"ولما زادت حدة الضربات على القرية سارع الأهالي للخروج علهم يجدون الأمان في قرية أخرى أو مكان قريب، لكن الموت كان في انتظارنا أينما اتجهنا".

وفي نكبة 48 فقد علي أمه وأباه: "قصفتهما الدبابات.. رحلا دون أن أتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليهما.. تركنا القرية وقد سكنها الخراب".

حزن يعيد نفسه

وبعد أن مر الصغير وقتها بعشرات القرى والمدن المدمرة وصل إلى غزة ليستقر المقام به هو وعائلته ومن تبقى حيا من أقاربه في خيمات احتضنت حزنهم وألمهم الكبير لسنوات.

 

اليوم وبعد ستة عقود مضت يقسم الحاج "أبو العز" أنه يشتم رائحة الرصاص الذي خنق أنفاسه يوم كان طفلا لا حول له ولا قوة، غير أنه يستدرك وبصوت ترتفع نبراته تدريجيا: "نعم رأينا الموت في كل مكان في نكبة 48 وشاهدنا بيوتا تهدم على ساكنيها ونيرانا تلاحقنا في كل زاوية وركن، لكن أبدا لم أشهد حربا كهذه (حرب إسرائيل الأخيرة على قطاع غزة).. ولم أر وحشية وشراسة تستهدف الأطفال والشيوخ والشجر والبشر".

يغمض عيونه لبرهة من الزمن وكأنه يحاول أن يقارن بين صورتين دامعتين، وفيما هو غارق بتفكيره انسلت الحروف الحزينة من بين شفتيه: "الحرب الأخيرة ليست نكبة.. إنها نكبات.. جرفوا الأرض واقتلعوا الزرع.. نسفوا البيوت وأحالوها إلى كومات.. كانت إسرائيل تهاجمنا بشراسة لا أدري كيف أصفها.. أصيب جنودها بهستيريا وجنون.. جاءوا وفي نيتهم إبادتنا جميعا".

وكأن زمن الحزن يعيد التفاصيل ذاتها.. يسأل الحاج أبو العز عن أولاده الستة وأحفاده الذين تفرقوا في الخيام المنتشرة على طول شمال القطاع يضحك ساخرا: "تماما كما كان يفعل جدي وعمي قبل 61 عاما".

الفخر الشديد

وبالرغم من ألمه وحزنه على خراب حل بغزة ونكب أهلها من جديد بحسب تعبيره، إلا أن الحاج أبو "العز" يشعر بالفخر الشديد بـ"المقاومة"، وبحروف ترفع قبعات الإجلال لهم قال: "نعم استخدموا الفسفور الأبيض وكل الأسلحة المحرمة وأعادوا مشاهد الموت من جديد، لكن المقاومة لقنتهم درسا كبيرا".

"في 48 كانت المقاومة متواضعة، ومن أعطانا السلاح ضحك علينا، فلم يكن سوى شكلا.. اليوم صار لنا خط دفاع، وهناك جنود تنتشر في كل مكان.. جنود على الميدان تقاوم وجنود تحمل الأقلام والكاميرات وجنود تسعف وتعالج".

يرسم على شفتيه ابتسامة صادقة، وهو يعد زوجته وأحفاده ببناء بيت جديد وإعادة إعمار ما دمره الاحتلال، ويختم روايته بحكمة يرددها كل مساء على مسامع من قد يتسلل إلى قلبه اليأس: "خيمة صمود خير من ألف قصر مهزوم".

وأمام النكبة الجديدة لم يكن أمام أهالي غزة سوى اللجوء إلى مخيمات انتشرت في القطاع، ويبلغ عدد المخيمات الواقع معظمها شمال المدينة سبعة (مخيم الكرامة، العزة، الريان، الثبات، شجرة الزيتون، الصمود، مشروع عامر).

ولا توجد إحصائية نهائية لعدد الأسر التي تقطن هذه المخيمات بسبب إقامة العائلات فيها بصورة متقطعة، حيث يبيت بعضها لدى أقاربهم في ساعات الليل ويترددون ما بين الخيام وأماكن إقامة أخرى في ساعات النهار.

إلا أن أسرا كثيرة وقفت عاجزة عن تدبير صغائر أمورها؛ فصارت الخيمة موطنها الدائم في الليل والنهار، تكابد بداخلها في صمت كل ما يباغتها من وجع وآلام.