خبر ذكرى النكبة وحق العودة ..علي عقلة عرسان

الساعة 02:35 م|15 مايو 2009

 

قبل واحد وستين عاماً، وفي صباح ربيعي جميل، وصلت خمس شاحنات كبيرة إلى باحة مدرسة قريتنا وأنزلت حمولتها من الأطفال والشيوخ والنساء.. تجمَّعنا نحن تلاميذ المدرسة حول الجمع الذي اختلطت فيه الأشياء الصغيرة بالناس والبكاء واللَّغط.. وفهمنا أنهم فلسطينيون فروا من إرهاب الصهاينة الذي يلاحقهم بالموت، وقالوا لمدير المدرسة وللناس الذين تكاثروا حولهم " ثلاثة أيام أو أسبوع على الأكثر ونعود إلى ديارنا".. وتوافد أهل القرية الذين كانوا يتابعون ما يجري في فلسطين حسب قدرتهم على المتابع، كل يدعو أسرة أو أشخاصاً إلى بيته: " تفضلوا.. البيوت بيوتكم، نحن أخوة.. غمة وتزول إن شاء الله.". لم يبق في ساحة المدرسة أحد من الذين أنزلتهم الشحنات، ولكن المشهد بتفاصيله بقي في ذاكرتنا نحن الصغار. بقيت والوجوه الوافدة في القرية نراها في حواريها وأزقتها، في أفراحها وأتراحها.. وبعد أسبوعين تقريباً من وصولهم انضم إلى صفوفنا في المدرسة من هم في سننا من الأطفال الذين أصبحوا يعرفون باللاجئين. 

نشأت مخيمات في أطراف المدن انتقل إليها بعض الذين جاؤوا إلى قريتنا.. كان أقاربهم وأهل قريتهم هناك وفضلوا أن يكونوا معاً.. ولكن عدداً منهم بقي بيننا.. نشأنا معاً وتعلمنا معاً وعشنا المعاناة. ومع الزمن تحولت الخيام التي أقيمت في أطراف المدن إلى بيوت صغيرة من اللبن المسقوف بألواح من التوتياء أو بأعواد القصب والبطانيات. وحين أصبحنا طلاباً في الثانوية العامة رأينا بعض بيوت اللبن الصغيرة تتحول إلى بيوت صغيرة أيضاً ولكن من الطوب المعشّق بالإسمنت، بعضها مسقوف بألواح من الصاج وبعضها بعوارض من الخشب وعيدان القصب ونبات اللبلاب الذي يُبسَط فوقه الطين ليشكل طبقة تحمي نسبياً من حر القيظ ومن المطر في فصل الشتاء، ونادراً ما كنت تجد بيتاً سقفه من الحديد والإسمنت.

لم يعد اللاجئون بعد أسابيع وشهور وسنوات إلى فلسطين، وفي عيون صغارهم وكبارهم كنا نقرأ النكبة والخيبة ممزوجتين بالدمع والعتب والغضب: " لقد كذب علينا حكام العرب.. ها نحن بعد سنوات وسنوات من دون عودة ولا أمل بعودة، نتلطَّى في أطراف المدن ونبحث عن بقايا أنفسنا. بيوتنا وحقولنا وبياراتنا.. وطننا كله وأحلامنا سرقها اليهود، والعرب الذين وعدونا بالعودة يشبعوننا كلاماً ولكنهم تخلوا عنا كما تخلى العالم عنا.. ليس لنا إلا الله وأنفسنا.. العين لا تقاوم المخرز، ولكن على عيوننا نحن أن تتحول إلى مخارز.. الحق يحتاج إلى القوة.

العدو الصهيوني يقوى ويجتاح ويحتل أرضاً جديدة ويرسل لاجئين جدداً، إنه يقتل ويتوسع في الاستيطان ويدنس المقدسات ويكسب العالم بأكاذيب ينشرها بوسائل إعلام يمولها أو يسيطر عليها، وعبر سياسات يرسمها، وتحالفات يقيمها، وقوة يكونها.. والعرب نائمون. وحين صحا العرب على صوت فلسطيني يقول بالمقاومة ويصيح في أرجاء وطنهم "إن ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة".. فتحوا عيونهم قليلاً واستعذبوا الصوت ولكنهم أغمضوا الجفون واستغرقوا في النوم من جديد.. كميات المنوم التي أخذوها أو أجبروا على تجرعها كانت أكبر من حجم الصحوة، فتخدرت عقولهم وشلت أرادتهم لسنوات كان العدو الصهيوني خلالها يزداد قوة وغطرسة توسعاً.

اكتشفوا الهوة التي تفصلهم عن القوة والقرار المستقل وعن العصر ذاته فتثبطت هممهم، واختاروا "السلام الاستراتيجي خياراً وحيدا"، وكفوا عن امتلاك القوة أو التفكير بامتلاكها، ووضعوا أنفسهم في دائرة الاختبار اليومي.. عليهم أن يثبتوا لإسرائيل وحلفائها أنهم جادون في اختيار السلام خياراً استراتيجياً وحيداً، وأنهم لا يراوغون.. وكلما تلقوا صفعة وسال دمهم من دون حساب وفكروا بشراء دبابة أو بتجديد ما بلي من سلاحهم، قامت عليهم الدنيا واتهموا بأنهم غير جادين في اختيار السلام خياراً استراتيجياً وحيداً.. بينما العدو الصهيوني يطور أسلحة من كل الأنواع، ويراكم أسلحة ذرية وكيمياوية وبيولوجية وينتج من ذلك ما يشاء، ويشن الحرب العدوانية عليهم وقتما يشاء، ولا يسألونه لماذا.. إنهم في بحبوحة النوم والتلاوم والخصام.

طلبة المدارس والجامعات وغيرهم من اللاجئين الذين كنا وإياهم معاً وكبرنا وإياهم وكبرت همومنا معاً.. اختاروا السلاح يوماً ليذكروا العرب والعالم بقضيتهم.. بالمخيمات والشقاء والغربة والقهر والمعاناة والحق المنسي.. تحركوا باتجاه دوائر الأمل والحلم.. العودة حق، وتقرير المصير حق، والحياة حق، والموت من أجل الكرامة والوطن والعدل والحرية حق.. فلتكن مقاومة ولتكن منظمة..

ومع السنوات أصبح للفلسطينيين بدل المقاومة سلطة لا تقبل المقاومة، وفي أروقة السلطة قتال على المناصب والمكاسب، ومن يرضى عنه الأميركي والصهيوني يصبح وزيراً ورئيساً أو يؤتى به مسؤولاً، ومن تزوره النخوة الوطنية يُقتل حتى لو كان رئيساً. زالت الهموم عن بعض القيادات والزعامات، وتحولت هموم الشعب الذي ينتظر العودة ويتمسك بالذكريات ومفاتيح البيوت وتراوده الأحلام والآمال العريضة بوطن وبيت وأسرة وآمن جوع وخوف في وطنه فلسطين.. تحولت إلى غم دائم ويأس مقيم.. فمن يختر المقاومة يختر التقل والملاحقة. المخيمات أصبحت حواضر في أطراف المدن، وعدد اللاجئين في ازدياد، والفساد والإفساد في تضخم قتَّال.. وحق العودة صار مطلباً من دونه خرط القتاد، يرافق الغول والعنقاء والخل الوفي لتصبح مستحيلات العرب أربعة. وأخذ التآمر على ذلك الحق يتسع ويتجذر ويشارك فيه عرب وفلسطينيون، يبيعون ويشترون في سوق السياسة بضاعة ليست لهم، وتنتفخ أوداج بعضهم غضباً عند الكلام عن حق العودة ذاك وعن المقاومة والتحرير رفض الاعتارف بالعدو ورفض تطبيع العلاقات معه.. ومر على المخيمات التي أقيمت في أطراف القرى والمدن منذ واحد وستين عاماً وقتٌ عصيبٌ وشدائد لا تنسى، ودفع الناس ثمناً باظاً في حالات كثيرة.. ومرت غيوم تخلط الشك باليقين.. وأصبحت بعض الأماكن والعقول والمنابر مسكونة بأقوال التطبيع والتوطين والتعويض.

كانت الفصائل ومازالت.. وجاءت السلطة وما زالت.. واستمر قتل الفلسطينيين وما زال.. وأضيف إلى ذلك كله اعتراف بالعدو الصهيوني المحتل، وتنازل مستمر له عن حقوق ليس من حق أحد التنازل عنها.. ودخل حق العودة ذاته دوائر التجاذب والتنازل والتآمر.. وارتفعت أصوات بإغراءات: "من كان له من الفلسطينيين خيمة أو بيت من طين أو طوب أو تنك فليبق فيه وليأخذ تعويضاً يرفع به قدر داره من لبن وتنك إلى إسمنت وحديد.. التوطين والتعويض بديل عن حق العودة وتقرير المصير.. ودولة "إسرائيل" تصبح دولة اليهود النقية، وترحَّل أفواجاً فلسطينية جديدة من أرض فلسطين التاريخية إلى أطراف مدن وقرى في أرجاء العالم كله.. لكي.. لكي.. "يسود السلام".!! وما أدراك ما السلام.. تفتيت عظام. ومشت من أرض العرب وفود وجاءت إلى أرض العرب وفود.. " يحيا حق العودة.. يسقط حق العودة..".. والعودة هي حياة فلسطين وجوهر قضية شعب فلسطين.. ولكن هناك من يحفر للشعب الفلسطيني وقضيته أخدوداً بعد أخدود، ويجعل أبناءه الأوفياء الخلّص لنار الأخاديد وقوداً.    

تعب عرب من عرب، وفلسطينيون تعبوا من فلسطينيين.. والسلطة تعبت من المقاومة، والمقاومة تعبت من السلطة.. الشعب الفلسطيني وحده لم يتعب، بقيت ذاكرته محشوة بالوقائع، وبقيت البيوت والبيارات والقرى والمقدسات وجثامين الشهداء رايات ترفع في مسيراته وغذاء يومياً لوجدانه، وذخيرة لذاكرته، ودوافع لإرادته.. وبقي استعداده للنضال وتقديم التضحيات لا يُحد.. وطرق التشرد التي كانت طرق دم ودموع أخذت تضيء بمشاعل الشهداء طرق عودة منتظرة، يحدو حداتُها الشعب وتنير آمالُها شعاب القلب.. " العودة حق، وحق العودة مطلب شعب.. وما تطلبه الشعوب لا يموت.. ولا بد من أن يتحقق ولو بعد حين".

وتبين لكل ذي بصر وبصيرة أن النكبة هي نكبة الأمة العربية ببعض حكامها وأنظمتها وقياداتها وتنظيماتها التي ترى في المقاومة إرهاباً، وفي من يدعمها ويقف إلى جانبها عدواً، وترى في العدو الصهيوني المحتل حليفاً تقف معه ضد من يناصر الحق الفلسطيني ومقاومة الشعب المشرد عن وطنه منذ واحد وستين عاماً، وترى في المطالب الوطنية والقومية المشروعة تطرفاً وتعصباً يرقيان إلى درجة الشوفينية الكريهة التي بدأ يسحبها أعداؤنا ومناصروهم من أبناء أمتنا على العروبة الإسلام.

قامت "المخيمات" من رقادها، وفي كل مكان وصله فلسطيني يعيش حالة الشتات.. أصبحت تُحيا ذكرى النكبة ويُطلب حق العودة.. خيَّم الفلسطيني الذي لم تبق له في الوطن إلا شجرة زيتون تحت تلك الشجرة يسقيها دمعه ويذود عنها ليل نهار بدمه.. أصبح ظلها ظله على الأرض وبقاؤها بقاؤه فيها.. وفي كل عاصمة، وأمام سفارات ومقرات أمم ورئاسات.. مشت جموع فلسطينية وعربية وإنسانية تتعلق بالعدل والحرية.. ترفع علم فلسطين وتردد شعارات شعبها: " ذكرى النكبة اليوم والعودة غداً". قام الفلسطيني المشرد في أربعة أركان الأرض من رماده يتجدد، يحي ذكرى النكبة ويتمسك بحق العودة، بعزم قوي ومعرفة واسعة، وعلم يتسع، وقوة وإرادة وأمل.. وقام من قام من الناس معه وقام من قام منهم ضده.. وامتلأت سجون الاحتلال بالمناضلين وبقي في ساحة النضال الفلسطينية والعربية صوت يدوي بقوة: "العودة حق، والحق عودة.. وفلسطين عربية لا تُنسى ولا تموت، وعاصمتها القدس مهوى القلوب وربيع الأنفس المؤمنة.. كانت عربية وستبقى".

في مقرات الرئاسات العربية وليس في وطن الشعب العربي، انتشر تحد وشيء من بلبلة وذهول، لخصته أسئلة استنكارية وردت عليه ممارسات قمعيّة:" كيف نتقدم نحو تصفية هذا الحق وهم يتقدمون نحو تجذيره.. ألسنا الرئاسات والقيادات والزعامات وأهل الحل والربط والأمر والنهي وصناع القرار.."؟! ازدادت البلبلة وازداد الذهول واشتد التحدي.. فلجأ من لجأ من الحكام إلى العصي والبنادق والسجون، ولجأ من لجأ من أصحاب القضية إلى الاعتصام بحبل الله والتمسك بالحق والاعتماد على النفس.. واهتزت مقامات وترنحت، واحتمت رئاسات عربية بأعداء الأمة لتقي نفسها من غضب الجماهير ولتبقى في الحكم على الرغم من مسوِّغات السقوط.  أصبح عرب من العرب أتباعاً لأعدائهم، وحلفاء لقاتلي شعبهم ومحتلي أرضهم ومدنسي مقدساتهم، وأصبح من يقف مع حق الأمة ومقاومتها ويتمسك بالعدل والحرية والعودة والهوية.. أصبح عدواً مشتركاً لهم وللعدو المحتل الذي أذلهم!؟. طويت صفحة اغتصاب فلسطين، وطويت المذابح التي ارتكبت بحق الأبرياء.. من دير ياسين إلى غزة، وطوي قتل الناس في بيوتهم وتدمير المدارس على رؤوس التلاميذ.. طويت صفحة الدم البريء والمعاناة الطويلة والتشرد المستمر، وطوي موضوع احتلال الأرض وتهديد العواصم.. طوي كل شيء يخص إسرائيل والصهيونية من صفحات كثير من أنظمة العرب وأروقة قصورهم وثنايا ذاكرتهم.. "وأصبح أعداء الأمس حلفاء اليوم"، وأراد أولئك تنظيف الذاكرة العربية من " إدران القضية الفلسطينية"؟!.. ولكن.. ولكن.. ولكن.. بقي في الوجدان الشعبي الفلسطيني والذاكرة العربية العامة مخزون لا ينفد ولا يمكن أن يُمحى، وبقيت وقائع وحقائق لا تزول.. "إسرائيل هي العدو، ومشروعها يهدد الأمة العربية في الصميم، وبقاؤها يعني انعدام الأمن والسلام والتقدم الازدهار، لا يمكن التعايش مع الكيان الصهيوني، وفلسطين لأهلها، هي وطن الفلسطينيين التاريخي الذي لا بديل له ولا غنى عنه.. ومن يعترف بإسرائيل ويتحالف معها ويعمل في خدمة مشروعها، سياسياً وثقافياً واقتصادياً وأمنياً، ويريد استبدال الصراع معها بعداء لغيرها أو بفتنة طائفية "سنية شيعية"، حسب الوصفة الصهيونية، تحرق الأخضر واليابس وتذبح الأمتين العربية والإسلامية معاً وتترك الاحتلال قوياً وهيمناً.. من يفعل ذلك: يعادي العروبة والإسلام، العدل والحرية والشعب والسلام، الحاضر والمستقبل، الثقافة والحضارة، والرؤية السليمة السوية للأمور والقضايا المصيرية.. إنه يعادي الحق العربي الصريح، ويضرب حق العودة الفلسطيني في الصميم، ويزري بالشهادة والشهداء.. وينقضّ على مستقبل الأمة العربية كلها بوحشية صهيونية معروفة وموصوفة، ويذبح مقاومتها من الوريد إلى الوريد..

من يفعل ذلك هو عدو الأمة العربية والعدل والحرية بامتياز.".

ومن يشكك بقدرة الأمة على المواجهة وصلاحها للبقاء الفعَّال بحيوية واقتدار، هو من أعدائها العاملين بين جلدها وعظمها.. سواء أعمل في مجال السياسة أم في مجال الثقافة والاقتصاد. والرد على المشككين بحقوق الأمة العربية ومستقبلها وثقافتها ودورها الحضاري وقدرتها على التحرير وانتزاع حق العودة، واستعادة الأرض المحتلة والمكانة المهتزة.. يكون بإيمان أرسخ، ونضال أقوى، وعلم أعمق، وإنتاج إبداعي جاد ومتميز في كل المجالات.. يعزز مكانتها النضالية والثقافية والحضارية.. ويعري أهداف من يحاولون فصل الثقافة عن القضايا الوطنية والقومية وعن الانتماء والهوية والقيم، ومن يرون الثقافة خيوط عنكبوت تطفو على بعد أشبار من سطح الأرض ولا تنتمي لأرض البشر وقضايا الشعوب.. أولئك يعملون لمصلحة من يوظفهم.. فلنتركهم وأنصارهم يشترون بعريهم جوائز ومراكز ويتعفرون بعارهم التاريخي.. فلنتركهم في غيهم يعمهون ولنعمل في الذكرى الواحدة والستين للنكبة على تعزيز إرادة الشعب العربي وانتمائه ونضاله ووعيه بذاته وبحقوقه، وعلى رأسها حق العودة، ولنعزز المقاومة لكي نكون جديرين بالحرية، ومالكين القدرة والإرادة والوعي لكي نصنع التحرير، وننتزع حقوقنا، ونحمي كرامتنا، ونغسل عار النكبة، ونقيم السلام والعدل على أسس متينة في أرض الرسالات.

دمشق في 15/5/2009