خبر التصاعد الموسمي في أوهام التسوية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 09:44 ص|14 مايو 2009

ـ القدس العربي 14/5/2009

باتت حظوظ تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، سيما في مساره الفلسطيني، أقرب إلى الطقس الإنكليزي منه إلى مشروع سياسي جاد، بقواعد وأسس واضحة، ومسار محدد. مواسم التسوية، وهي مواسم قصيرة عموماً، تراوح بين تصريحات فلسطينية وعربية متشائمة، وحركة واسعة في الدوائر العربية والفلسطينية، توحي بأن التسوية على الأبواب، وأن السلم بات قاب قوسين أو أدنى، ناهيك عن نيل الحقوق الوطنية الفلسطينية. خلال الفترة التالية لتوقيع اتفاق أوسلو، لم يسيطر طقس التفاؤل على القيادة الفلسطينية الوطنية وحسب، وقد أغرق الفلسطينيون على الطريقة الساداتية بوعود الرفاه (وسنغافورة الشرق الأوسط)، ولكن أغلب العرب أيضاً، حكاماً ومثقفين وكتاباً وأكاديميين، سارع إلى الحصول على تذاكر سفر بلا رجعة على قطار التسوية العتيدة. في منتصف التسعينات، تغير مناخ العرب والفلسطينيين السياسي، وكأن قيامة جديدة من الفرح والتحرر من أعباء الصراع الثقيلة قد حلت بالمشرق. لم تلبث التسوية أن تعثرت، بالطبع، ولكن مواسم التفاؤل، والرغبة العربية المستبطنة بالتخلص من فلسطين، عادت مرة وراء الأخرى، من اتفاق واي ريفر، مباحثات كامب ديفيد حول ما سمي بالاتفاق النهائي، وعود بوش القاطعة بعد غزو العراق واحتلاله، وصولاً إلى إطلاق مسار أنابوليس.

مرة، وبعد شهور من المفاوضات وعشرات، والبعض يقول مئات، من الجلسات بين المفاوضين الفلسطينيين ووزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، خرج السيد أحمد قريع، رئيس الوفد الفلسطيني، ليؤكد على أن ليس ثمة تقدم قد تحقق، وأن اتفاقاً على شيء ملموس لم يقع. ما الذي كان يفعله أبو العلاء وطاقمه من المفاوضين المحنكين، الفصحاء، طوال تلك الجلسات مع ليفني؟ لا أحد يعرف. ولكن خبو الآمال التي جاء بها مسار أنابوليس، سيما بعد اشتباكات غزة المؤلمة والانقسام بين الضفة والقطاع، لم يكن بالضرورة نهاية للتفاؤل العربي والفلسطيني. فبالرغم من التزام إدارة بوش العلني بحل الدولتين، لم يكن هناك من مسؤول أو حاكم عربي إلا وكان ينتظر انقشاع ظل بوش الثقيل عن البيت الأبيض والعالم. الرئيس القادم، بارك أوباما، لم يعلن التزامه بحل الدولتين وحسب، بل ونقل عنه أيضاً تأييده القوي للمبادرة العربية. وعد أوباما بتغيير امريكا وسياساتها وصورتها في العالم، ووعد بالمساهمة في جعل العالم أكثر سلماً وعدلاً واستقراراً. كانت سياسة شمس مشرقة جديدة هي التي حملها انتخاب السيناتور الأسود رئيساً، ولم يكن غريباً أن ينشر تسلمه مقاليد الإدارة الامريكية تفاؤلاً واسعاً، بين العرب وفي العالم ككل. وحتى بعد أن جاءت الانتخابات الإسرائيلية ببنيامين نتنياهو، ظل التفاؤل العربي الفلسطيني في مكانه. إن أحداً لا يمكنه التقليل من دلالات انتخاب أوباما واللغة وبعض القرارات التي اتخذها منذ بدء ولايته. بالنظر إلى مساحة الثابت الكبيرة في السياسة الخارجية الامريكية، بالنظر إلى حقيقة أن المصالح الامريكية في العالم لا تتغير من رئيس إلى آخر، وإلى جسم المؤسسة الامريكية الهائل، الذي يجعل الهامش المتاح للإدارات المختلفة ضيقاً نسبياً، فإن أوباما أظهر بالتأكيد عزماً على أن لا يكون جورج بوش، وعلى أن يترك بصمة مختلفة على أسلوب ومادة الحكم في امريكا، وعلى علاقات هذه الدولة العظمى (غير المسبوقة في قدراتها وإمكاناتها) بالعالم من حولها. ليس من الممكن بالطبع التيقن مما يقوله أوباما للأنظمة العربية؛ ولكن من الممكن استنكاه البعض من توجهاته. أوباما، كما أكد أركان إدارته المرة بعد الأخرى، وكما يؤكد كبار مسؤولي حلفائه الأوروبيين، ملتزم بتسوية تقوم على حل الدولتين، وهو بالتأكيد يرى في المبادرة العربية عنصراً إيجابياً في عملية التفاوض وفي التوصل إلى تسوية نهائية على السواء، وهو إضافة إلى ذلك لا يرحب بالموقف الذي أعلنته حكومة نتنياهو من رفض حل الدولتين، والذهاب نحو حل اقتصادي وحكم ذاتي موسع في الضفة الغربية. ولكن من الضروري، في الآن نفسه، وضع عناصر أخرى في الحساب، مثل ترسخ تقاليد سياسية امريكية منذ بداية ولاية كلينتون تقول بضرورة تجنب الضغط على الدولة العبرية وترك العملية التفاوضية لإرادة وقناعة أطرافها؛ ومثل الرغبة الامريكية القوية في تعديل بنود جوهرية في المبادرة العربية، أو غض النظر عن هذه البنود، أو إعادة تفسيرها، ومثل الموقع المتدني الذي يمكن أن تحتله مسألة التفاوض في مسارها الفلسطيني-الإسرائيلي على جدول أعمال إدارة مثقلة بالملف الاقتصادي، وبالغرق في المسألة الأفغانية- الباكستانية، وبالعلاقات مع روسيا والصين، سيما أن هناك بصيص أمل بتحقيق إنجاز على المسار السوري - الإسرائيلي، خلال فترة أقصر وبجهد أقل.

بيد أن تحفظاً أو شكاً لم يعد بإمكانه خدش التفاؤل العربي - الفلسطيني. الرئيس الفلسطيني، الذي لم يعد من الواضح إلى أية أسس قانونية تستند رئاسته المديدة، ينتقل بين عمان والقاهرة، مؤكداً على أن في جعبته والعرب تصوراً كاملاً للتسوية سيقدم للرئيس أوباما. ومجلس الجامعة العربية يجتمع وسط شائعات تفيد بأن الدول العربية ستعمل على تعديل مبادرتها العتيدة، بناء على طلب امريكي تقدم به الرئيس أوباما للملك عبد الله الثاني. وزراء الخارجية العرب أكدوا، بالطبع، أن تعديل المبادرة لم يبحث، ولن يحدث؛ ولكن أحداً من المسؤولين العرب لم ينف الجزء الأساسي من الشائعات: أن هناك طلباً امريكياً لمثل هذا التعديل. نتنياهو، سيلتقي خلال أيام بالرئيس الامريكي؛ وكما أبلغ الأوروبيون وزير خارجيته ليبرمان، فمن المتوقع أن يستمع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى ما يفيد بتصميم واشنطن على مواصلة عملية التفاوض على أساس حل الدولتين. وبالنظر إلى الموقف الأورو - امريكي الإجماعي تقريباً على تصور حل الدولتين، ورغبة قطاع واسع في دوائر السياسة الإسرائيلية في العودة إلى القبول بحل الدولتين وتجنب التوتر، الصريح أو المكتوم، مع الحلفاء الأوروبيين والامريكيين، فلا يمكن استبعاد خضوع نتنياهو في النهاية. ولكن التوصل إلى تسوية على أساس من حل الدولتين ليس إلا وهماً. لا نوايا أوباما، ولا رغبة الأوروبيين الجامحة في 'إنقاذ الدولة العبرية من نفسها'، كما قال بلير، ولا تفاؤل العرب واستعداداتهم الدائمة للتجاوب مع المطالب الامريكية، يمكن أن تدفع بـ 'عملية التفاوض' إلى تسوية على أساس حل الدولتين. اللهم، إلا إن كان المقصود بالدولة الفلسطينية دولة في الأردن، كما يقول أنصار نتنياهو من أمثال موشي إرنس. الوقائع على الأرض، لا النوايا وأجواء التفاؤل، هي التي تحكم الموقف. والوقائع واضحة لمن يريد رؤيتها:

-1الانقسامان العربي والفلسطيني لم يزالا على حالهما، وقد يستمران كذلك لفترة طويلة قادمة.

2- بالرغم من خسارة الدولة العبرية للحرب على لبنان والحرب على غزة، إلا أن الحربين وفرتا للدولة العبرية أمن توازن الرعب، على الأقل على المدى المنظور. لا حزب الله، ولا حماس، يمكن أن يعودا إلى التهديد المسلح للأمن الإسرائيلي خلال المرحلة الحالية.

3- جهود حكومة عباس/ فياض وأجهزتهما الأمنية قامت بالدور نفسه في الضفة الغربية، وبكفاءة أكبر بكثير من كفاءة الجيش الإسرائيلي، سواء بتفكيك تنظيمات قوى المقاومة، اعتقال واغتيال وتسليم عناصرها، الاستيلاء على معداتها، وتقويض الحاضنة الاجتماعية لها.

4- بالرغم من الاحتجاجات الفلسطينية والعربية الصاخبة أحياناً، فإن عجلة الاستيطان في الضفة الغربية قد تصاعدت منذ توصل عباس وقريع إلى اتفاق أوسلو، وتصاعدت بوتيرة أعلى بكثير خلال الأعوام القليلة الماضية. ثمة جدار اقتطع مساحات كبيرة من الضفة الغربية، يفصل بين الكثافة السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية والكثافة اليهودية في الدولة العبرية. ولكن هناك عشرات الجدران الأخرى، من أسوار وطرق سريعة وأنفاق، تفصل بين أغلب مدن الضفة الغربية وبعضها البعض، جدران تمثلها المستعمرات اليهودية المتسعة باستمرار في الضفة، وطرقها الخاصة التي تربطها بجسم الدولة العبرية الرئيسي. كما هو في المثلث، والجليل الاعلى، التداخل السكاني في الضفة الغربية أصبح أكثر استعصاء على فصل الشعبين. لا الحل الذي يتحدث عنه السيد خالد مشعل، أي الدولة الفلسطينية في كل المناطق المحتلة منذ 1967، في هدنة طويلة مع الدولة العبرية، ولا التصور الغامض للدولة الفلسطينية الذي يدافع عنه الرئيس عباس، يمكن تحقيقه. الوقائع على الأرض، وموازين القوى على المدى المنظور، تجعل من التفاؤل العربي - الفلسطيني الحالي ليس أكثر من موسم آخر لسيطرة الوهم على سياسيين متواضعين، لا يظهر سجلهم منذ أوسلو إلا تراكماً متصاعداً من الفشل والعجز. الخيار الحقيقي المتبقي هو الانتقال الاستراتيجي إلى حل الدولة الواحدة، وخوض نضال فلسطيني شامل لإجبار الدولة العبرية والعالم على التفاوض على صيغة ما من الدولة الواحدة. الانتقال إلى الدولة الواحدة لا يتعلق بسهولة أو صعوبة تحقيق الهدف؛ بل أن تحقق الدولة الواحدة يتطلب نضالاً أصعب وأكثر مرارة من النضال الفلسطيني الحالي. ما يرجح تصور الدولة الواحدة أنه الحل الوحيد ذو المعنى الملموس، في مقابل الأوهام التي تخوض الحركة الوطنية الفلسطينية غمارها منذ مطلع التسعينات. هدف الدولة الواحدة كفيل بتوحيد الجسم الوطني الفلسطيني كله، في المهجر، في الضفة والقطاع وفي داخل الخط الأخضر، الذي لا يعني هدف الدولتين إلا جزءاً منه، بينما يهدد أجزاء أخرى؛ وهو هدف كفيل بتغيير إيجابي للمناخ العالمي المحيط بالنضال الفلسطيني، بل ولمناخ الدعم العربي والإسلامي.

خلال شهور، وربما سنوات قليلة، سينتهي موسم التفاؤل العربي - الفلسطيني الجديد بالتسوية. ولكن، بدون مبادرة استراتيجية فعالة، ستدخل الساحة العربية إلى مرحلة أخرى من الصراع الداخلي، تبادل اللوم والاتهامات، وإبداء الاستعداد لتقديم تنازلات جديدة، بانتظار موسم آخر من التفاؤل، والأوهام.