خبر أهلاً بقداسة البابا، ولكن! ..زهير أندراوس

الساعة 07:12 ص|13 مايو 2009

 

 

يقوم قداسة الحبر الأعظم، البابا بينيدكتوس السادس عشر بزيارة إلى الأراضي المقدسة، تشمل أيضاً الدولة العبرية وزيارة إلى مركز (ياد فاشيم) لضحايا المحرقة النازية، كما سيجتمع مع كل من رئيس الوزراء الجديد، بنيامين نتنياهو، ورئيس الدولة العبرية "الثعلب الأبدي" شمعون بيريز.

 

ومن المفارقات العجيبة والغربية أن الزيارة توافق إحياء الشعب العربي الفلسطيني ذكرى النكبة التي حلت به عام 1948، علاوة على ذلك فإن زيارة أعلى ممثل للكنيسة الكاثوليكية في العالم تستثني قطاع غزة الذي تعرض لعدوان بربري وإجرامي من قبل آلة الحرب الإسرائيلية، أدى إلى استشهاد وجرح آلاف المدنيين الفلسطينيين العزل، أكثريتهم الساحقة من الأطفال.

 

والمفارقة أيضاً أن قداسة البابا يقوم بهذه الزيارة في الوقت الذي يُعلن فيه القضاء الإسباني عن أنه سيواصل النظر في الدعوى المقدمة ضد عدد من القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

 

لا نعرف الأسباب الحقيقية التي دفعت قداسته للقيام بهذه الزيارة، وفي مثل هذا التوقيت، ولكن ما نعرفه أنه يضع نفسه وسط حقل ألغام شديدة الانفجار، فكل طرف من أطراف الصراع يريد توظيف هذه الزيارة لمصلحته، ويتوقع من البابا أن يسانده، والطرف الفلسطيني المحاصر المجوع المضطهد على وجه الخصوص.

 

علاوة على ذلك، نقول بكل تأكيد إننا لا نعرف ما هي الأسباب التي منعت قداسة البابا من زيارة قطاع غزة، المحاصر من قبل إسرائيل، لا نعلم لماذا فضل قداسته زيارة مخيم اللاجئين عايدة في الضفة الغربية المحتلة ولم يُكلف نفسه عناء زيارة مخيمات اللاجئين الجديدة التي أقامها الفلسطينيون بعد الحرب الأخيرة التي شنتها الدولة العبرية.

 

قد يقول قائل إن قداسته لا يتدخل في السياسة، ولكن كيف يمكن أن نُفسر لأنفسنا وللعالم برمته أن الحبر الأعظم سيجتمع مع جزار قانا، شمعون بيريز.

 

وحسب المصادر الأجنبية، فإن بيريز نفسه هو الذي أقام الفرن الذري في ديمونا، وهو الذي يريد أن يحتفظ بهذا السلاح الفتاك لدولته فقط مع منع الدول الأخرى من الحصول عليه، وسيجتمع أيضاً مع بنيامين نتنياهو، الذي يقول إن العرب في إسرائيل، ومن ضمنهم المسيحيون العرب، هم قنبلة ديموغرافية موقوتة، وهي المقولة التي تتماشى وتتماهى مع مطلبه من الفلسطينيين بالاعتراف بالدولة العبرية كدولة لليهود فقط.

 

كنا نتمنى من مساعدي ومستشاري قداسته أن يلفتوا انتباهه إلى أن الدولة العبرية ستستغل هذه الزيارة "الدينية" لدعم الدعاية الإسرائيلية الكاذبة في العالم.

 

وفي هذا السياق نقتبس ما قالته مصادر إسرائيلية عالية المستوى بأن وزارة السياحة الإسرائيلية تعتزم استخدام زيارة البابا لدفع الدعاية الإسرائيلية، وسيشدد وزير السياحة ميسيزنكوف، وهو من حزب المأفون الفاشي أفيغدور ليبرمان، أمام الوزراء، أنه خلال الزيارة سيتم بث انطباع يدمج ما بين الحجيج المسيحي للديار المقدسة والسلام كعامل يعزز إسرائيل كبلاد مقدسة.

 

قداسة البابا، حسب البرنامج الذي وضع للزيارة، سيقوم بزيارة إلى الضفة الغربية المحتلة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وسيجتمع مع رئيس سلطة رام الله "المنقوصة" محمود عباس.

 

في الحقيقة لم نفاجأ بأن رئيس السلطة "المنقوصة" لم يطالب الفاتيكان بأن يقوم قداسته بزيارة قطاع غزة للاطلاع على ما فعلته إسرائيل هناك قبل عدة أشهر. عباس لم يطرح هذا الموضوع من وجهة نظرنا المتواضعة، لأنه لا يريد أن يصل قداسة البابا إلى غزة "المسلوبة" من قبل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ولا يريد أن يجتمع الحبر الأعظم مع "الانقلابيين" في غزة المحاصرة.

 

وبهذا العمل يُكرس محمود عباس الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة، بين فتح وبين حماس، بين تيار المقاومة وبين تيار المفاوضات العبثية والانبطاحية مع الدولة العبرية.

 

إن عباس من حيث يدري، يتجاهل الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا من قبل أصدقائه إيهود أولمرت وإيهود باراك وتسيبي ليفني، فما ذنب الأطفال يا فخامة الرئيس؟

 

يتهمنا الإسرائيليون بأننا نستغل الأطفال لتنفيذ الأعمال "الإرهابية" وتأتي أنت وتتجاهلهم بعدم مطالبتك بأن يزور قداسة البابا قطاع غزة، بالفعل إنه لأمر محير للغاية، ومثير للقلق والشكوك، إننا "نحترم" إسرائيل، نعم "نحترم" إسرائيل، لأنها تقوم بترتيب زيارة لكل مسؤول سياسي من جميع أصقاع العالم لمؤسسة (ياد فاشيم) لكي يروا بأم أعينهم ما فعله النازيون باليهود إبان الحرب العالمية الثانية.

 

ونحن نقول إنه من حق البابا أن يتعاطف مع ضحايا النازية ومأساتهم، وأن يزور النصب التذكاري الذي أقيم لإبقاء معاناتهم حية على مر العصور، ولكن من حقنا عليه أن يبدي التعاطف نفسه مع الضحايا الفلسطينيين الذي قُتلوا من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة مستوردة من العالم المسيحي، إذا جاز التعبير.

 

وغني عن القول إن أبناء هذا الشعب يتعرضون منذ واحد وستين عاماً لجرائم بشعة من قبل دولة الاحتلال، وكان آخر الجرائم البشعة تلك التي ترتكبها الاحتلال في قطاع غزة، قبل عدة أشهر.

 

فالذين تعرضوا للحرق بقنابل الفسفور الأبيض الإسرائيلية من أطفال القطاع ومدنييه لا يقلون أهمية عن أولئك الذين حرقتهم أفران الغاز النازية، مع فارق بسيط وهام في الوقت نفسه، أن الذين استخدموا هذه القنابل أمام مرأى العالم ومسمعه، هم الذين تاجروا بالمحارق النازية، وابتزوا العالم بأسره للحصول على التعاطف والمال والسلاح لاحتلال أراضي الغير وإقامة دولتهم على حساب مأساتهم.

 

وبالمقابل تصيبنا حالة من الغثيان عندما لا نعمل على ترتيب زيارة للحبر الأعظم إلى الشهداء الذين ما يزال دمهم يغطي مساحات واسعة من القطاع.. لا نرتب زيارة للحبر الأعظم إلى أحد المستشفيات في غزة ليرى عن كثب الأطفال الجرحى الذي أصيبوا بالفسفور الأبيض المحرم دوليا.

 

هؤلاء الأطفال وهم في عمر الورود، ينتظرون بفارغ الصبر أن يقوم الأشقاء العرب، وفي مقدمتهم جمهورية مصر العربية، باستقبال المصابين لتلقي العلاج، في زمن بات فيه الدواء والعلاج في قطاع غزة سلعة نادرة بسبب الحصار الإجرامي الذي تفرضه إسرائيل على القطاع بالتواطؤ مع دول عربية مصنفة أميركيا وإسرائيلياً بأنها من دول ما يسمى محور الاعتدال، هذه الدول التي حولت التطبيع مع إسرائيل إلى القاعدة وتنازلت عن الاستثناء.

 

نحن نميل إلى الترجيح بأن إسرائيل مارست الضغوط الجمة على قداسة البابا للامتناع عن زيارة غزة، ونحن نميل إلى الترجيح بأن عباس والمحيطين به، وافقوا على هذا الطرح لأسباب سياسية، متناسين عن سبق إصرار وترصد أن محاولاتهم لتقسيم الشعب الفلسطيني سيكون مصيرها الفشل المحتوم، وسيُرسلها شعب الجبارين إلى مكانها الطبيعي حيث يليق بها، أي مزبلة التاريخ.

 

وبطبيعة الحال، حاولت إسرائيل بواسطة جهاز الأمن العام (الشاباك) استغلال 48 عندما طالبت بعدم السماح للمسلمين بالمشاركة في القداس الاحتفالي الذي سيقيمه قداسته في جبل القفزة في الناصرة، بزعم أن المسلمين يشكلون خطراً أمنيا.

 

كما أن جهاز الأمن العام يعترض على تجول قداسة البابا بنديكيتوس السادس عشر في سيارته المكشوفة في مدينة الناصرة بزعم وجود تحذيرات من التعرض له من قبل جهات إسلامية متطرفة، في حين تسعى وزارة السياحة الإسرائيلية إلى استثمار زيارة البابا في تعزيز الدعاية الإسرائيلية وتشجيع الحجيج إلى البلاد المقدسة.

 

ويزعم الشاباك أن لديه معلومات استخبارية بأنه تم توزيع منشورات في القرى العربية في الشمال تدعو إلى التصدي لزيارة البابا، إلا أن هذه الادعاءات لا تجد لها أساسا على الأرض، وباستثناء إعلان مقاطعة الحركة الإسلامية لزيارة البابا على خلفية اتهامها له بالإدلاء بتصريحات مسيئة للإسلام، لم تصدر أي بيانات أو منشورات في أي من البلدات العربية تعزز مزاعم الشاباك.

 

هذه الوقاحة الإسرائيلية التي اجتازت جميع الحدود تندرج في إطار سياسة فرق تسد، التي تبنتها حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ إقامة الدولة العبرية عام 1948 وفشلت فشلاً ذريعا.

 

مضافاً إلى ما ذُكر أعلاه، كنا نتوقع أن يستغل قداسة البابا هذه الزيارة التاريخية لتقديم الاعتذار للمسلمين عن تصريحاته ضد الإسلام وضد الرسول العربي الكريم، ولكن على ما يبدو فإنه لن يُقدم على هذه الخطوة المطلوبة رغم أن السيد المسيح قال سامحوا أعداءكم، وبشر بالتعايش السلمي.

 

ولا غضاضة في هذه العجالة أن نسأل قداسته والفاتيكان أيضا: لقد قدمتم اعتذارا لليهود بأنهم لم يقتلوا السيد المسيح، وهو باعتقادنا المتواضع أول شهيد سقط على أرض فلسطين، لماذا هذا الكيل بمكيالين؟ الاعتذار هو واجب وحق من ممثل الكنيسة الكاثوليكية في العالم برمته لتنقية الأجواء وقطع الطريق على الإمبريالية العالمية والصهيونية لتوظيف هذه التصريحات ضد الإسلام لتقسيم العرب إلى عربين.

 

ولكن نحن على قناعة تامة بأن قداسته، لا يمكنه أن يتخلص من الموقف الأوروبي الرسمي، الذي يدعم وبكل قوة الدولة العبرية، ويُقدم لها المساعدات، وفي المقابل يُقدم الفتات للشعب الفلسطيني، ويلقون علينا محاضرات في مواضيع حقوق الإنسان، فهل الإنسان العربي والمسلم والفلسطيني هو غير الإنسان اليهودي الصهيوني وغير الصهيوني؟

 

ومن العام إلى الخاص، قبيل زيارة البابا إلى الأرض المقدسة نشب خلاف عميق بين مدينتي حيفا والناصرة، حيث طالب مسيحيو حيفا العرب بأن يتم استقبال البابا في المدينة، بينما أصرت الناصرة على أن يكون الاستقبال في مدينة يسوع الناصري عليه السلام.

 

في الحقيقة، المسألة لا تستحق أن نكتب عنها ولو كلمة واحدة، ولكن علينا من منطلق وطنيتنا أن نوجه السؤال إلى "القيادة" المسيحية في مناطق الـ48: أهذا ما يُشغل بالكم؟ لماذا لم تقوموا بتحضير وثيقة عن العنصرية الإسرائيلية ضد عرب الداخل؟ لماذا لا تطلبون من قداسته العمل على إعادة سكان قريتي إقرت وبرعم المسيحيتين إلى بلدتيهما، وهم الذين طُردوا منهما من قبل العصابات الصهيونية في النكبة الفلسطينية.

 

لماذا لم تتفقوا على قول الحقيقة لقداسته، إن المحكمة العليا الإسرائيلية، أعلى هيئة قضائية في الدولة العبرية أصدرت قرارا عام 1950 يُلزم الدولة العبرية بإعادة المهجرين في وطنهم، أي سكان إقرت وبرعم، وأن الدولة العبرية لم تقم بتنفيذ القرار؟

 

لماذا لا تقولون له إن هذه الدولة المارقة بامتياز لم تنفذ حتى الآن أكثر من ستين قراراً صادراً عن هيئة الأمم ومجلس الأمن الدولي، ولا تحترم حتى أعلى هيئة قضائية في بلادها، فكيف ستحترم قرارات ما يسمى الشرعية الدولية؟

 

لماذا يا سادتي لا تقولون لقداسته الحقيقة الناصعة، إن الدولة العبرية لا تريد أن يبقى فيها لا مسلم ولا مسيحي، وأنها تقترب بخطى حثيثة من نظام العزل العنصري (الأبرتايد) الذي كان سائدا في جنوب أفريقيا؟

 

لا، لن نسمح لكائن من كان أن يعمل على توتير الأجواء بين أبناء الشعب العربي الفلسطيني، إن كان عربياً أو أعجمياً، سنصد كل المتواطئين مع سياسات حكومة إسرائيل العنصرية، وسنصد المخططات الرهيبة التي تحاك في عدد من العواصم العربية للقضاء على ما تبقى من فلسطين.

 

لا، يا سادتي، لن نسمح لكم بصلبنا، ولقداسة البابا نقول: أهلاً بك في الأرض المقدسة، ولكن عليك أن تعلم أن الأرض المقدسة، أرض السلام والمحبة، باتت أرض القتل والعنف والدمار اللذين تمارسهما الدولة العبرية ضد الفلسطينيين في جانبي ما يُسمى الخط الأخضر، هذه الدولة التي تقومون، يا قداسة الحبر الأعظم، أنتم الأوروبيون، بدعمها وبتبرير جرائمها، ضمن سياسة مؤامرة الصمت التي تنتهجونها.