خبر جولة جديدة من الصراع على سورية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 08:15 ص|07 مايو 2009

ـ القدس العربي 7/5/2009

ثمة دول يستعصي دورها على التنبؤات، وسورية هي أبرز هذه الدول. بين وقت وآخر، يسود اعتقاد ما بفقدان سورية لأهميتها، إما لتبدل خارطة القوة الإقليمية أو العالمية، أو لضعف بنية الدولة السورية وتنازع القوى السياسية الداخلية، أو لبروز منافسين أقوياء في الجوار.

ولكن سورية سرعان ما تفاجئ مراقبيها، لتحتل موقعاً حيوياً في التدافع على المشرق، المشرق كما رسمت خارطته منذ ما بعد الحرب الأولى. دور سورية وأهميته هو صنيعة الإقليم الذي يحيط بها، وهو صنيعة موقعها في هذا الأقليم، كما هو صنيعة وزنها الأثقل، مقارنة بالدول الصغيرة أو قلقة التكوين التي تجاورها. والصراع على سورية هو سمة هذا الموقع الرئيسي. يتجلى طموح سورية على الدوام في محاولة الارتفاع بالدور والتأثير إلى مستوى الموقع الذي تعي حيويته، ولتحقيق هذا الطموح تخوض دمشق صراعاً تلو الآخر، وتعقد تحالفات قد تبدو أحياناً متناقضة وغير مستقرة. ولأن هذه الصراعات والتحالفات تمس مصالح قوى خارجية كبرى، كما تمس مصالح الدولة العبرية، تتحول سورية في النهاية إلى هدف لهذه القوى، هدف لصراعات وتحالفات أكبر.

منذ منتصف التسعينات وحتى عشية الغزو الامريكي للعراق، وجدت سورية في التحالف العربي الثلاثي (مصر، سورية، السعودية) تلبية لطموحات الدور والتأثير. وفر التحالف الثلاثي، الذي لم يكن خلواً من التباينات الهامة بين أطرافه، مظلة للوجود السوري في لبنان وللمقاومة اللبنانية في الجنوب، حاول توفير قيادة للنظام العربي والمحافظة على الحد الأدنى من المصالح العربية في فترة التفرد الامريكي في الساحة الدولية، وحاول منع التوسع الإسرائيلي التطبيعي في المجال العربي في سنوات ما بعد توقيع اتفاق أوسلو. ولكن التحالف انهار بسبب الاختلاف الجوهري بين أطرافه حول السياسة الامريكية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول /سبتمبر، وحول المشروع الامريكي لغزو العراق واحتلاله على وجه الخصوص. فبينما عارضت دمشق المشروع الامريكي، وفتحت الحدود السورية لمقاومته، أخذت الرياض والقاهرة موقف المؤيد للمشروع، بل والمساعدة على تحقيقه. خلال السنوات القليلة التالية، تراجعت المقاومة المصرية للتوسع الإسرائيلي، وتجنبت القاهرة نهائياً، بالرغم من الاختلاف مع السياسات الامريكية في فلسطين والعراق، معارضة واشنطن في أي صورة ملموسة. أما السعودية، التي عانت من تحد إرهابي وشلل في القيادة السياسية، فقد جنحت إلى موقف من العزلة ومحاولة استرضاء الرأي العام الغربي، وتركت الساحة العربية مفتوحة على مصراعيها للإرادة الامريكية. في الوقت نفسه، كانت الخلافات السورية مع الحليفين السابقين تتفاقم، سواء على خلفية من اغتيال الرئيس الحريري، من الدعم السوري لقوى المقاومة الفلسطينية وغض النظر عن نظيرتها العراقية، أو التقدم الحثيث في التحالف السوري الإيراني.

الحقيقة، أن تعزيز العلاقات السورية الإيرانية كان سبباً ونتيجة في الوقت نفسه، كان سبباً في اتساع مسافة الخلاف بين دمشق، من ناحية، والقاهرة والرياض، من ناحية أخرى، ونتيجة لهذا الاختلاف. بتصاعد التهديدات الامريكية لسورية، قررت دمشق اتخاذ قرار بالانسحاب العسكري من لبنان، والوقوف عند خط الدفاع التالي بلا تراجع. وقد أصبح التحالف مع طهران بديلاً جزئياً للمظلة العربية التي انحسرت بانهيار التحالف الثلاثي. وفر التحالف مع إيران بعض الحماية، ولكنه لم يكن مؤهلاً أصلاً لتعزيز دور وتأثير سورية العربيين. ولكن السوريين لم يتضعضعوا أمام العاصفة؛ وسرعان ما أكد انتصار حماس الانتخابي، وصمود حزب الله في حرب 2006، وانهيار المشروع الامريكي في العراق، وصمود قطاع غزة، مصداقية الخيار السوري، ووسع من دائرة الاحترام العربي لدمشق، وإن على المستوى الشعبي. رسمياً، عززت سورية علاقاتها مع دول الصف الثاني العربية، من قطر إلى السودان والجزائر، وطورت خياراً استرتيجياً جديداً لبناء علاقات وثيقة مع تركيا. بدأت العلاقات السورية التركية في الدائرة الاقتصادية، عندما اتفق البلدان على إقامة منطقة تجارة حدودية حرة، تحولت سريعاً إلى واحدة من أكثر مناطق الدولتين حيوية وانتعاشاً. وقد دفعت سلسلة من الاتفاقات الجمركية والتجارية التبادل الاقتصادي والتجاري بين البلدين إلى مستويات غير مسبوقة. ومن الاقتصاد، بدأت دماء جديدة في التدفق في العلاقات السياسية، التي وصلت إلى أن توكل دمشق لتركيا مسؤولية تنظيم ورعاية مفاوضات سورية إسرائيلية غير مباشرة. وربما تعتبر المناورات العسكرية الأمنية المشتركة للقوات الحدودية للدولتين، التي جرت طوال ثلاثة أيام في الأسبوع الماضي، ودفاع رئيس الأركان التركي الصريح عن هذه المناورات، مؤشراً جديداً على المستوى الذي تتحرك إليه العلاقات السورية التركية. ويتوقع أن يقوم الرئيس التركي بزيارة جديدة لدمشق قريباً، في حلقة أخرى من سلسلة الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين.

من وجهة نظر أنقرة، تقدم العلاقات السورية التركية نموذجاً للتعاون مع محيط واسع من دول الجوار، ودليلاً آخر على تعاظم دور تركيا الإقليمي. من وجهة نظر دمشق، تؤكد هذه العلاقات على رغبة سورية في إقامة توازن بين تحالفها مع إيران ومجالها الإقليمي الأوسع، وتشير إلى اتساع دائرة خيارات سورية الاستراتيجية في المنطقة. العلاقات السورية التركية ليست علاقات تكتيكية مؤقتة، وإن كان لسياسة الأبعاد المتعددة التي تتبعها حكومة العدالة والتنمية منذ سبع سنوات أن تصبح أحد ثوابت الدولة التركية، فإن السوريين يبدون وكأنهم عقدوا العزم على الذهاب بعلاقاتهم التركية إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه. في موازاة الخيار التركي، لاحظت دمشق سريعاً إعادة التوكيد على الدور والمصالح الروسية، واستعادت بالتالي الدفء التقليدي في العلاقات مع موسكو. تقوم روسيا الآن بإعادة تأهيل ميناء سوري رئيسي، ليصبح قاعدة تموين ومساندة للأسطول الروسي في المتوسط، وعادت روسيا لتقدم أنظمة سلاح دفاعية متقدمة لسورية؛ كما أصبحت دمشق محطة ضرورية للدبلوماسية الروسية النشطة لإعادة بناء شبكة العلاقات الروسية بالقوى السياسية في المشرق العربي.عقدة العقد هي بالطبع العلاقات السورية مع الولايات المتحدة. وكان تقرير بيكر هاملتون، الذي كاد أن يجرد إدارة بوش الثانية من سياستها الخارجية، قد أوصى بفتح قناة تفاوض جادة مع سورية. وبالرغم من تراجع التهديدات الامريكية لسورية خلال السنوات الأخيرة من رئاسة بوش، فإن إدارته جرت اقدامها متثاقلة في استجابتها لتوصيات بيكر هاملتون. وليس حتى تولت اداة أوباما مقاليد البيت الأبيض أن بدأت واشنطن في إجراء مراجعة جوهرية لعلاقاتها مع دمشق. ليس من الواضح على وجه اليقين ما الذي يريده الامريكيون من سورية؛ ولكن ليس من الصعب توقع أن تكون فلسطين، إيران، لبنان، العراق، المفاوضات السورية الإسرائيلية، والعلاقات السورية الروسية، على رأس الملفات العالقة بين البلدين. خلال الشهور القليلة الأولى من رئاسة أوباما، استقبلت دمشق وفداً امريكياً تلو الآخر، سيما من بين أعضاء لجان مجلسي النواب والشيوخ الامريكيين المتخصصة، الذين عادة ما يمهدون الطريق لوزراة الخارجية ومجلس الأمن القومي. أعلنت واشنطن دعمها لاستئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية، وأشارت في شكل واضح إلى أنها بصدد تغيير مقاربتها للعلاقات مع دمشق. وبالنظر إلى أن الانتخابات النيابية اللبنانية قد تذهب إلى أي من المعسكرين المتدافعين، فإن المكتسبات الامريكية في لبنان ما زالت قلقة وغير آمنة. وليس ثمة شك في أن وزيرة الخارجية الامريكية، وهي تضع الزهور على ضريح الرئيس الحريري في زيارتها الأولى والمفاجئة للعاصمة اللبنانية، كانت تعلم أن الضباط اللبنانيين الأربعة الكبار، المعتقلين منذ أربع سنوات على ذمة ملف اغتيال الحريري، سيفرج عنهم خلال أيام قليلة. القضاة الدوليون الذين أخذوا قرار الإفراج لم تصلهم توصية ما من واشنطن، ولكنهم أدركوا، على الطريقة الإمبريالية التقليدية، أن شيئاً في الأفق لا يوحي بمعارضة امريكية للإفراج عن الضباط، بل وربما أن واشنطن تقر مثل هذا القرار. هذا لا يعني أن الإفراج جرى بفعل صفقة سياسية. الحقيقة، أن التحقيقات لم تأت أصلاً بما يثير شبهة ملموسة في الضباط الأربعة، واستمرار اعتقالهم طوال هذه السنوات هو الذي أسس على أسباب سياسية. ولكن الإفراج عنهم في هذا الوقت بالذات لا يمكن فصله عن الانفراج في العلاقات الامريكية السورية، وإن لم يؤشر بعد إلى طي التهديد التي تستبطنها المحكمة الدولية لسورية. تماماً كما أن أحداً لم يوص مجلس شورى الإخوان المسلمين السوريين بفك الارتباط بجبهة الخلاص المعارضة، التي تورطوا من خلالها في التحالف مع عبد الحليم خدام وتصديق الأوهام العربية واللبنانية التي تصورت دنو الاندفاعة الامريكية نحو إسقاط النظام السوري. كل ما في الأمر أن الإخوان المسلمين السوريين استعادوا في لحظة الحرب الوحشية على غزة وعيهم التاريخي، ورأوا خارطة القوة على حقيقتها. وكما أن الرياض أدركت مؤخراً أن سياسة تركيع دمشق بالقوة ليس وراءها من طائل، وأن من الأفضل تطبيع العلاقات السعودية السورية، حتى إن لم يكن ممكناً العودة إلى تحالف التسعينات. في أحد وجوهها، تبدو التحركات السورية في اتجاه إيران وتركيا، في اتجاه واشنطن وموسكو، وفي اتجاهات العواصم العربية المختلفة، تجلياً لسياسة سورية صلبة للحفاظ على الذات وتعزيز الدور والتأثير. وفي وجهها الآخر، تعكس تحالفات دمشق وتدافعاتها الصراع المستمر للقوى الإقليمية والدولية على كسب سورية إلى جانبها من ميزان القوى. الفارق بين حقبة الصراع التقليدي على سورية في عقدي الخمسينات والستينات من الحرب الباردة، وما تشهده علاقات سورية الخارجية الآن، أن دمشق باتت لاعباً أساسياً وليست هدفاً وحسب.