خبر وليد سيف يكتب: فلسطين.. الذاكرة التي تحرس الحلم! ..وليد سيف

الساعة 12:07 م|05 مايو 2009

وليد سيف يكتب: فلسطين.. الذاكرة التي تحرس الحلم!

وليد سيف

حقٌّ يأبى النسيان.. هذا ما نعرفُه نحن كما نعرفُ أنفسَنا وآباءَنا وأبناءَنا.. ولكنَّ العجَبَ ألا يُدركَه العدوُ الإسرائيليُ بعدَ كلِّ هذه العقودِ من الاغتصابِ والاحتلالِ والصراعِ والمقاوَمة!

 

ألم يأْنِِ له أنْ يعلمَ أننا لن نكُفَّ مهما يَزِدْ من وتيرة بَطشِه واستكبارِه، ومهما يَطُلِ الزمنُ وتَتَوالَ الأجيالُ! ألا يرى أنه على الرغم من جُدُرِهِ المُشيَّدةِ بالدباباتِ، قد بلعَ منجلاً علقَ في حلقِه، فلا هو يستطيعُ أن يستكمِلَ بلعَه، ولا هو يستطيعُ أن يسحبَه! ألا يرى أن جُلَّ ما يجري في الساحة العالميّةِ من مظاهرِ العنفِ والتوتُّرِ والصراعاتِ التي تهدّدُ الأمنَ الدوليَّ والإقليمي، تقعُ في المنطقة العربيةِ والعالمِ الإسلامي، وأن لها صلةً ما بالقضية الفلسطينيّة والمواقفِ الدوليةِ منها؟

 

وإلامَ يبقى قادراً على تضليل الرأي العامِ العالمي إذ يصرِفُ المسؤولية عن نفْسِهِ في خَلْقِ هذه الظروفِ، لِيَنْسبَها إلى الطرف الآخرِ الذي يأبى الخضوعَ والنسيان؟ ألا يرى أن استمرارَ هذه الأوضاعِ وتفاقمَها لا بد أن يُقنِعَ شعوب العالم -ولا سيّما الشعوب الغربية- أخيراً بأن المشروعَ الصهيونيَّ والدولةَ العبريّةَ هما أخطرُ ما يُهدّدُ الأمنَ الدوليَّ، وأن كلفَتَهما ترجحُ جدوى الوظائفِ الإستراتيجيةِ التي يتوخاها الغربُ الإمبرياليُّ منها؟! فإذا أدركَ العدوُّ الإسرائيلي هذا أخيراً، فما عساهُ يفعل؟

 

ذلكم هو السؤالُ الوجوديُّ الذي يتهرّبُ العدوُّ الإسرائيليُّ من مواجهتِه. ولكن، حتامَ؟

 

إذا كانت "إسرائيل" تُراهِنُ على دَيمومة الضماناتِ التي توفِرُها لها القوى الدولية الراهنةُ، وعجز النظامِ العربيِ الرسمي الذي أسقَطَ خياراتِ الحربِ والمواجهةِ العسكرية، فإن هذا من قصرِ النظر بالمعيار التاريخي، إذ إن أحوالَ الدولِ وعلاقاتِ القوّةِ ليست حقائقَ مؤبَّدَةً. وللشعوبِ والأممِ عاداتُها، إلا إذا صدّقنا ما يحاول دعاةُ "الواقعية السياسية" الجديدة أن يُلقوه في رَوْعِنا من أن الشعوبَ مجرّدُ قطيعٍ من الغوغاء الذين يجمعُهم طبلٌ وتفرِّقُهم عصا.

 

فما بالُ حركاتِ العنفِ والاحتجاجِ والتمرّدِ والرفضِ التي أقامت الدنيا ولم تقعدْها؟ وما بالُ إيرانَ التي تحوّلتْ من شرطيٍّ أميركيٍّ متحالِفٍ مع إسرائيل أيامَ الشاه، إلى لاعبٍ رئيسيّ في الصراع؟ وما بالُ تركيا التي خرجت من بزتها العسكرية الفاشيّة تتحوَّلُ من قاعدةٍ مساندةٍ لإسرائيل إلى دعمِ المقاومة الفلسطينية؟ وما بالُ الإمبراطورية الأميركية -ومعها أوروبا- تُقِرُّ أخيراً أنها لا تستطيعُ القضاءَ على حركات العنف والإرهاب بالوسائل العسكرية وحدَها فَتَشِي بإمكانيةِ التفاهم مع "طالبان" في أفغانستان وباكستان، كما تفاهمت من قبلُ مع المحاكم الإسلامية في الصومال تفاهماً أفضى بها وبرئيسها إلى الحكم وسُدّةِ الرئاسة، بعد أن كانت معدودةً في الحركات الإرهابية ذاتِ الصلةِ بالقاعدة!!

 

وما بالُ هذه الشهاداتِ الجديدةِ التي تعرضُها أجهزةُ الاستخبارات الأميركية أمامَ الكونغرس حولَ براءة البرنامج النووي الإيراني من الأغراض العسكرية؟! وما بالُ الإدارة الأميركية قد دَعَتْ إيرانَ للمشاركة في مؤتمرٍ حولَ أفغانستان؟ وما بالُ هذه الوفودِ والشخصيات الأميركية الرسميةِ تتوالى على زيارة سوريا، بينما تثوبُ الدولُ العربيةُ المتخاصمةُ إلى المصالحة التي طالما دَعَوْنا إليها؟ وأخيراً ما بالُ بعضِ الدوائر الأوروبية قد بدأت تتحدث مع "حزب الله" باعتباره جزءاً من النسيج الوطني اللبناني، وتُبدي استعدادَها للتواصل مع "حماس"؟

 

أليس في هذا المشهد السياسيّ الإقليمي والدوليّ المتغيرِ دليلاً واضحاً على أن أحوالَ الدول وعلاقاتِ القوة ليست حقائقَ مؤبَّدةً لتكونَ ضماناتٍ ثابتةً لدولةِ الاغتصابِ والإحلال والاحتلالِ في مواجهة حَقٍّ يأبى النسيانَ، وشعبٍ فلسطيني لا يَكُفُّ، ومحيطٍ شعبيٍ عربيٍ إسلاميٍّ تتنامى مَراراتُه ثم تتفجّرُ في وجه نظام عالميٍّ ظالم؟ أليس في هذا المشهد المتغيّر ما يدلُّ على أن تكاليفَ التوسُّّع الإمبراطوري تصلُ في لحظة تاريخية ما إلى أن تزيدَ على مردودِه وأرباحِه؟! وهل يمكنُ تجاهلُ الأزمة الاقتصادية العالميّةِ الراهنةِ ودورِ تداعياتها السياسيةِ في المشهد السياسي الدولي والإقليمي المتغيّر؟!

 

لا نحسب أن رِهانَ الغاصِبِ كان على قوّة الدبابة في المقام الأول، فهذه رهينة الظرفي المتغير. وإنما كان الرهانُ الإستراتيجيُّ الأهمُّ على اقتلاع الذاكرة وإطفاءِ الحُلُم وتغييبِ الهوية وتقويض الروح واغتيالِ المعاني وتبديلِ الروايةِ التاريخيَّةِ وتزييفِ الوعي. فهذه هي الأصولُ التي ما دامت حيّةً ضاربةً في الأرض، فلا بُدَّ أن تؤتِيَ أُكُلَها وتطرَحَ ثِمارَها في آخر المطاف، وإن تأخَّرَ الموسم.

 

وها هي الذاكرةُ الفلسطينيةُ -بعد ستةِ عقود ونيّفٍ- قد أثبتت صمودَها لاختبار الزمن، وهي الآن لا تُحيلُ إلى الماضي إلا بقدر ما ترفدُ حركةَ الحاضر وتحرسُ الهويّةَ وتصوغُ الحُلُمَ وتُضمِرُ المستقبل. الذاكرةُ الفلسطينيّة هي الفضاءُ الذي يلتقي فيه الأشتاتُ وتلتئمُ الأشلاءُ وتجتمع الأجيال، ويعودُ فيه الشهداءُ لعِناقِ أحبابهم.

 

بعدَ ستين عاماً ونيّف، ما تزال الذاكرة الفلسطينية عامرةً بالسنديان العتيق، والزعتر الجبلي، وشقائقِ النعمان، والسلاسلِ الحجريّة، وأجنحة السنونو، وأغصانِ الزيتون، ومواسم البرتقال، والمحاريث القديمةِ وجباهِ الصخر، ودخانِ القُرى، ورائحةِ التراب عقبَ المطرِ الأوّل، والأغاني الرعويّة المنبثقةِ من عمق الزمان وأغوار الروح، والقمرِ الذي يدرج كل ليلة على بيادر الحصاد ويسترقُ النظرَ من النوافذ الوطيئة، وضحكات النصراويات اللواتي ينزلن إلى مرج ابن عامر ليقطفنَ الثمرَ والقلوبَ والنجوم!

 

بل نذهبُ إلى القول إن الفلسطيني لم يتشبّثْ بذاكرتِه تشبُّثَهُ بروحِه فحسب، وإنما ارتفع بأشيائها إلى مستوى الرموز الوجوديّة، وأضفى عليها لوناً من القداسة الحائمة بين الأرض والسماء، حتى خشينا أن يتاخمَ حدودَ النرجسيّة الوطنيّة وتضخم الأنا الجَمعيّة! وهو الذي افترض الآخرون أن النكبةَ والتشريدَ والجوعَ والشقاءَ واللجوءَ تلزِمُه الخضوعَ والتخاشعَ والتصاغُرَ، والمشيَ بحذاء الحائط والاكتفاءَ بطلب السِتر.. وربما بعضَ العطف والإشفاق!

 

وإنها لَتبدو مُفارَقَةً لأول وَهْلَةٍ.. أن يتعاظَمَ المنكوبُ بنكبتِه، ويَتيهَ المُشَرَّدُ بهويتِه، ويستعليَ بحائط كرامتِه، على ما أصابه من المِحن والمآسي والنكبات.. حتى حارتْ مشاعرُ الناس فيه.. فثمةَ من تستفزُّه الصورةُ ويراها ضرباً من "النمردة" لا تتناسب مع ما يُتوقعُ من تخاجل المنفي الطريد الشريد.. وثمةَ من يتطلعُ إليها تطلُّعَهُ إلى أُنموذج السبق والتفوّق والحيوية والصمودِ في وجه المِحَن، و.. نعم، ثمّةَ أخيراً مَن يوشكُ أن يحسدَ الفلسطينيَّ على دمهِ النازفِ وجنازاتِ شهدائه، بقدر ما تفضح هذه نقائضَها: الخنوعَ والقعودَ والتخاذل!

 

مفارقات.. نعم  ولكنها ما تلبثُ أن تنقشعَ حين يستبطنها الوعي. لم تنخذلْ روحُ الفلسطيني المخلوعِ من وطنه، لأنه حَمَلَهُ في وعْيهِ ووجدانِه وذاكرتِه وحُلُمِه، ولم يُسلِّم يوماً أنه الفردوسُ المفقودُ إلى الأبد. لاجئ في المنافي! ولكنَّ الأرضَ لاجئة في جراحهِ كما قال محمود درويش ذاتَ شهادة!

 

في ضواحي الطفولة البعيدة، حين تَفَتَّحَ وَعْيُنا الأوّلُ بُعَيْدَ النكبة، كان أول ما نخطّه بالطبشور على السبّورةِ والحائطِ والإسفلت: فلسطين.

 

وحين يُطلب منا في درس الإنشاء أن نكتب في موضوع حرٍّ نختاره، فالخيارُ فلسطين وحلمُ التحرير والعودة. فقد استقرّ في وجداننا أن قضيتنا شرطُ وجودنا. وفي غمرة ذلك كلَه، كدنا ننسى أن الضفة الغربيّةَ التي نعيش فيها جزءٌ من فلسطين.. حتى كأن اسمَ فلسطين مختصٌ بالشطر السليب منها ذلك الحين. فكيف يمكن للوعي أن يقلبَ عاداتِه، حين يُطلبُ منه تحت وطأة الاحتلال الثاني وتداعياته أن يختصَ الشطرَ المحتل عامَ 1967 باسم فلسطين، وينسِبَ إليه وحدَه صفةَ "المُحتل" دون سائر الوطن! هنا يكمن التحدّي العظيمُ..

 

كان مرجعُنا شِرعةَ الحق والعدل وشرعيةَ الثورة والمقاومة حتى التحريرِ الشامل، ثم غلبت عليهما شرعة الإمبراطورية الغاشمة التي تتقنعُ باسم الشرعية الدوليّة. وليدُر الجدالُ بعد ذلك بين "واقعيّة" أكثرُ ما يعيبُها أنها صناعةُ القوّة المتغلّبة، وأن الذي يملك القدرةَ على تعريفها هو الإمبراطورية التي احتكرت لنفسها تقديرَ الأقدار وتمصيرَ الأمصار.

 

ومع ذلك فهي تتركها بلا تعريف واضحٍ نحتكم إليه.. فليدُر الجدال بين هذه "الواقعيّة" وشرعيةِ الحق الذي يمتلك أصحابُه المعانيَ والدماءَ المستعدّةَ للاشتعال، دون الدبابة والمدفع.. وليدُر الجدالُ بين الظرفي المرحلي المحكومِ بعلاقات القوّة السائدة، والإستراتيجي التاريخي المحكومِ بتغيّر الشروط والظروف في مستقبلٍ مفتوحٍ قد لا نرى الآن ضِفافَه! وليدُر الجدالُ بين من يرى السياسةَ فَنَّ الممكن، ومن يراها فضلاً عن ذلك، فَنَّ العمل لخلق شروطِ الإمكان!

 

ليدُر الجدالُ بين طَهورية الحق وأوحالِ الواقع.. بين اكتمال الوطنِ ونقصانِ الدولة..

 

فلْيَدُرْ كلُّ هذا الجدالِ، فإنه إذا انتظم في فضاء الإخلاص، وانضبط في حيّز الجماعة الوطنية، واحتكم إلى الشعب، يمكن أن يكون تدافعاً وطنياً فذاً بين طرفين متشارطَين لا متفاصِلين.. ولكن دَعُونا نجتمع على كلمةٍ سواءٍ.. وهي أن الدولةَ التي يمكن أن تُولدَ بين فَرْثٍ ودَمٍ، ليست اسماً مُرادِفاً لمعنى الوطن، ولا هي حدود مقاسِه. فالوطنُ الفلسطيني لا يقبلُ القسمةَ، والواقع المتعَيِّنُ الذي تنتجُه معادلاتُ القوّةِ ليس مُرادفاً لمعنى الحق.. الوطنُ هو الحَقُّ، والدولةُ المحتمَلةُ في هذا الظرف، هي الواقع.

 

وهو لا يغني من الحق، والحق يُعرِّفُ نقيضَه الباطلَ، مثلما تُعَرِّفُ الضحيةُ جلادَها. فإذا حالت القوَّةُ الطاغيةُ -على فترةٍ من الزمان- دون تطابق الحق مع الواقع، فإن الأولَ يبقى ماثلاً في الضمير والوجدان والذاكرة والحُلُم واللغة، وينتصبُ جداراً منيعاً ضد اقتحام الروح التي لن تَكُف عن حُلُم الانبعاث من جديد في جسمها القديمِ الممتدِّ من رأس الناقورة إلى رفح، ومن النهر إلى البحر.

 

ولذا، فإن التفاوتَ القسيَّ بين مُنْجَز الواقع الظرفي ومَطلبِ الحق التاريخي، لا يُلزِمُنا أن ننسى، ولا أن نسامحَ! كما لا يُلزِمُنا أن نفتحَ فضاءَ الروح والوجدان والضمير لجلادِنا أبداًَ.. ولا أن نعيدَ تعريفَه أو نُبَرئ ذِمَّتَه الأخلاقية بأثَرٍ رجعيٍّ أو نُسَمِّيَهُ بغير أسمائِهِ المُنْكَرَة. فهذا هو خطُ الدفاع الأخير، ومجالُ المقاومةِ المستمِرَّةِ إذا سكتت البنادق!

 

إنه صراعُ المعاني والرموزِ والرواياتِ المتعارضةِ.. وهو ما نملكُ القدرةَ على الفوز فيه.. فالوطنُ الذي يملؤه عَدُوُّنا، لا يملأُ غيرَنا! وكتابُ الوطن الذي يستعصي على الترجمة، لا يستطيعُ قراءَتَه وفهمَ مفرداتِه غيرُ الذين كتبوهُ بِقَدْر ما كتبهم..

 

فقط انظروا الفرقَ بين مِخيالِنا ومِخيالِهم..

مِخيالُنا يَسْتَمِدُّ مكوناتِه من رموز الوطن وتجلّيات الأرض وبَوْحِها الخالد.. أما المِخيالُ الإسرائيلي فيستَمِدُّ من مفارَقات وجودِه وفضائِه الاجتماعي المدني المجلوبِ والمُستَعارِ من مدينةٍ بعيدةٍ قَتَلَتْه فيها ثم أحيَته عندنا لتقتلَنا به.

 

فهو يدينُها بقدر ما يَدين لها.. لم يفارقْها ساخطاً لاعناً إلاّ ليُعيدَ إنتاجَها في أرضنا، والسَوْطُ الذي جلَدَتْه به هو السوطُ الذي أعارته إياهُ ليجلدَنا به، يُحَمِّلُها آثارَ جراحه، ثم يتباهى بأنه امتدادٌ لها ولِقِيَمِها الحضارية في محيطٍ مغاير.

 

وكما يستمِدُّ من الدولة البعيدة التي خرج منها، يستمدُّ من دولتِه الجديدة ونطاقِها المدني ومُلابسات نظامها وحيرتِها الأخلاقية وغُربتِها عن الأرض التي رُفِعَت عليها.. ولكنه أبداً لا يستمد من كتاب الأرض.. وهو وإن كان قادراً على صنع الدبابّة، عاجزٌ عن صنع مَوّالٍ بلديٍّ واحدٍ يختزل ذاكرةَ الأرضِ وأسرارَها.

 

وبين المدينة البعيدة التي هيأت له أسبابَ الخروجِ منها والدخولِ في لحمنا، والمدينةِ الجديدة التي حاصر نفسَه فيها وراءَ جُدُرٍ مُشيَّدةٍ، لا يجِدُ ما يُعَتِّقُ به وجودَه إلاّ كتابَ الأساطيرِ القديمة.. وهيهات!!

 

في مِخيالِنا تُنتِج الأرضُ أساطيرَها.. وفي مِخيالِهم تُحاول الأسطورةُ عبثاً أن تنتج الأرضَ.. فأي فرق!

 

وأيُّ شهادةٍ أحسنُ من شهادةِ الجلادِ في ضحيّته! ففي لحظة بَوْحٍ نادرةٍ اعترف الجنرالُ الغارقُ في متاهةِ دمائنا (شارون) أنه يحسدُ الفلسطينيَّ على حضور الأرضِ الطاغي في أدبِه وشعره.

 

نعم.. لن تجدَ بين الإسرائيليين من يشبهُ ذلك الشيخَ الفلسطينيَّ الذي يسنِدُ ظَهرَهُ وروحَه إلى سلسلةٍ حجريّةٍ في الفضاء الريفي المفتوح، ثم يُرسلُ نَظَرَهُ في المكان، ويُشيرُ بيده مستدعياً منه وإليه صورَ طفولته البعيدةِ وصِباهُ الأولِ وذاكرةَ آبائه وأجداده، فيخيّل إليك أن الحجرَ والشجرَ ينطقانِ بصوتِه المتهدّجِ العميق. ولن تجدَ بين الإسرائيليين مثلَ تلك العجوزِ التي تحتضِنُ جِذعَ شجرةِ الزيتون احتضانَها لأَبٍ لا يَكُفُّ عن الحضور من عالَم الأمواتِ ليتفقدَ أرضَه وزرعَه، واحتضانَها لحفيدٍ لا يملكُ تَرَفَ البقاءِ طويلاً في ضاحية الطفولة..

 

كلُّ هذه لا تحملُ أيَّ دلالاتٍ وجدانيةٍ ومعانٍ رمزيّةٍ في مِخيال الإسرائيلي الحائر بين غربٍ ينتمي إليه ولا يُقيم فيه، وشرقٍ يُقيم فيه بقوّة الجَبْر ولا ينتمي إليه، فلا تَوافقَ ولا تَكامُلَ بين مُحتَوى الوعيِ وذاكرةِ المكان، أو بين الجغرافيا والتاريخ: أزمةٌ وجوديّةٌ لا حلّ لها، وهويّةٌ جَمْعيّة لا تكتملُ أبداً.

 

ولقد يفسّر هذا لماذا أردفَ العدوُّ اغتصابَه للوطن الفلسطيني بانتحالِ بعضِ عناصرِ التراثِ الشعبي الفلسطيني ورمزياتِهِ. وإذا كان الوطنُ مِزاجَ الجغرافيا والتاريخ والإنسان، فيمكن القولُ إن إسرائيلَهم في جوهرها دولةٌ لا وطن. أما فلسطينُنا فوطنٌ حيلَ بينه وبين دولتِه. دولتُهم لم ينتجْها وطنٌ، وليس في وسعها أن تُنتِجَ وطناً.

 

أما الوطنُ فهو الشرطُ الدائمُ للوجود والهويةِ المكتملة، ما دام ماثلاً في الوعيِ والوجدانِ والضمير، بوصفِه حقاً يأبى النسيانَ. والأوطانُ الباقيةُ لا بدّ أن تترجم عن نفسها أخيراً بالدولة. الوطن -بعبارة أخرى- يضمرُ الدولةَ، أما الدولةُ المجلوبةُ فلا تضمرُ وطناً!

 

في ضوء هذه المعاني، فإن إسرائيل وإن كانت دولةً قويّةً بالمعايير العسكريّة والدعم الخارجي، فإنها تبقى بالمعايير الوطنيةِ والتاريخية والحضارية والثقافية، هويّةً هشّةً ناقصةً، وواقعاً طارئاً غيرَ مفروغٍ منه، ووجوداً قلِقاً غيرَ مأمونٍ ولا آمن. ولربّما يفسّر لنا هذا لماذا يتسلّطُ هاجسُ الأمن على العقل الإسرائيلي، على الرغم من التفوق العسكريِّ والترسانة النوويّةِ الضخمة. وفي تقديرنا أن هاجسَ الأمن هذا ليس فقط ذريعةً سياسيةً تتوسلُّها إسرائيل، بل هو أيضاً نِتاجُ ذلك القلقِ الوجوديِّ العميقِ الذي تحدثنا عنه.

 

نعم.. إننا ننتصر في معركةِ المعاني والرموز.. في معركة الذاكرةِ والحُلُم، ولذلك لن ننسى.. ولن نسامحَ.. وليس في وُسع أي تسويةٍ سياسيةٍ منقوصةٍ أن تلزمَنا ذلك.

 

وهنا، عَوْدٌ إلى بَدْء..

 

فمعركةُ المعاني تُحيلُ من جديد إلى الفضاء العربي الذي تنتظمُ فيه قضيتُنا الفلسطينية.. كان شعارُنا بعدَ "النكسة" أن المقاومة الفلسطينيّة رأسُ الحَربة العربيّة التي لا تكتملُ إلاّ بعمقها العربي. وإذا كان المشروعُ الصهيوني ينتظمُ في المشروع الاستعماري للهيمنة على الأمة العربية وتقويضِ مشروع نُهوضِها، فإن ذلك يفرض بالضرورة شكلَ النقيض ومَداه: أن يَتَشارَطَ هدفُ التحرير الفلسطيني وهدف النهوض العربي.

 

صحيحٌ أننا أخفقنا في ترجمة هذه العلاقة الشرطيةِ من الطرفين، وأن هذا الإخفاقَ قد أسهم فيما أفضينا إليه من المفارقة بين الحق والواقع. ولكن ذلك لا ينبغي له أن يُسقِط المبادئ ولا أن يصادَرَ على المستقبل. فالصراعُ من أجل النهوض العربي يبقى قائماً، ونحن جزءٌ منه. وهو يضمرُ بقاءَ الحُلُم الفلسطيني غيرِ المنقوص. والشرطُ في ذلك أن نبقى على صمودنا في معركة المعاني، فلا نُطابِقُ بين مفهوم الدولةِ ومعنى الوطنِ في الظرف القائم، ولا بين مفهوم الواقعِ ومفهومِ الحق.. وعليه، لا ننسى ولا نُسامِحُ ولا نُبَدِّلُ الأسماءَ والصفاتِ، ولا نُغيّرُ روايةَ النكبة والظلمِ التاريخي الذي وقع علينا.. أبداً!

 

وإذا كانت الشروطُ الظرفيةُ لم تُفْضِ بالأمة العربية إلى عبور رأسِ الجسر الفلسطيني صوبَ البحر الفلسطيني، فإن شطراً من مقاومتِنا القادمةِ أن نمنعَ عدوَّنا من اتخاذِنا رأسَ جسر له نحوَ العُمْقِ الشعبي العربي، في ظِلّ أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة. فنحن سَدَنَةُ الذاكرة، ينسى الآخرون بنسيانِنا ويذكرون بذاكرتِنا.. ويُعَرِّفون العدوَّ بتعريفاتِنا..

 

بخلافِ الهوياتِ القُطْرِيَّةِ العربية الأخرى، لم تنشأْ هويتُنا الوطنيةُ الفلسطينيةُ نقيضاً للهوية العربيةِ أو بديلاً عنها، وإنما نشأتْ وتعزّزتْ على خلفِيَّةِ الصراعِ مع النقيضِ الصهيوني. وهم يَسْعَوْنَ الآن إلى تجريدها من هذه الخلفيةِ ومن هذا السياق، في إطار مشروعِهم الذي يرمي إلى إعادةِ تعريف المنطقة، من وطنٍ عربي يتعرّفُ بهويِته القوميةِ الحضاريةِ ولا يستطيعُ المشروعُ الصهيونيُّ أن يَنْتَظِمَ فيه، إلى شرقٍ أوسط جديدٍ تتشاركُ فيه دولٌ تنطِقُ بالعربيةِ وأخرى بغيرها، وتندمجُ فيه "إسرائيل" من موقعٍ مركزيٍّ مُهَيمِنٍ لتؤدِيَ وظائِفَها الإستراتيجيةَ وكيلاً عن المركز الإمبراطوري.

 

بل يذهبُ المشروعُ إلى أبعد من ذلك، وهو إعادةُ تشكيلِ الدولةِ العربيةِ القُطْرِيةِ نفسِها، أو تفكيكُ بُنْيَتِها الاجتماعيةِ السياسية، لِتَصيرَ ائتلافاً هَشّاً لمنظومةٍ من العُصَبِ العِرقيةِ والطائفيةِ والقَبَلِية. كأنَّ التجزئةَ القُطْريةَ نفسَها لم تكن كافيةً لتقويضِ المشروعِ القومي النهضوي. فالدولةُ القُطرية القائمةُ -على ما فيها- ما زالت تنتسِبُ إلى الهوية العربية، وما زالت تستخدمُ مفرداتِ النظامِ العربي الإقليمي مهما تكُنْ دلالاتُهُ العمليّة.

 

أما إذا صارت -كما يُرادُ لها الآن- منظومةً من العُصَب العِرقية والطائفية والقبَليّة، فإنه لا يصحُّ لها أن تُعرّفَ نفسَها بصفة العُروبة، حتى وهي تُقدّم هويتَها القُطريةَ على الهوية القوميّة!

 

ولو أُتيحَ لهذا المشروع الاستعماري الجديدِ أن يتحققَ، فإنه يعني خَلْقَ شروطٍ بُنْيَوِيَّةٍ جديدةٍ لِدَفْنِ مشروعِ النهوض العربي وتأبيدِ حالةِ التَبَعِيّةِ، وهذا بِدَوْرِه يُضمِرُ وَأْدَ الحُلُمِ الفلسطيني الممتدِّ على مساحة الوطن، والمماهاةَ بين مفهوم الحق ومفهومِ الحلّ السياسي، وإعادَةَ كتابةِ الرواية الفلسطينية ليَسقُطَ منها الماضي.. والماضي في حالتنا الفريدةِ، هو حارسُ الحُلُم والمستقبل.

 

ألم نَقُلْ: هي معركةُ المعاني والتعريفاتِ التي تَتَنازَعُ على تشكيلِ المَشهَد المتعيِّن؟

 

وإذن، فنحن أحوجُ من أي وقت مضى إلى تأكيد العُمق العربي لهويتنا ووطنِنا وقضيتِنا، وإلى إعادة الاعتبار لجَدَلية النهوض العربي والنضالِ الفلسطيني وأن أيَّ إنجازٍ حقيقيٍ في أحد المجالين المُتَشارِطَين يُضمرُ إنجازاً في الآخر. وهذا في الأصل هو فضاءُ الصراع الذي رَسَمَ حدودَه العدوُّ نفسُه.

 

...

 

لو كنتُ "إسرائيلياً" وتقمّصتُ روحَ الفلسطيني ساعةً من الزمان، لَمُلِئْتُ بعد ذلك رُعباً، ولآثَرْتُ الرحيلَ من أرضٍ لا ترتحلُ من ذاكرةِ أبنائِها.

 

أطفالٌ في مخيماتِ المَنافي لم يَُرَوا فلسطينَ ولم يشمّوا ريحَها، تسألُهم أن يَدُلّوك على بيت أحد سكان المخيَّم، فيسألونك: من أين هو؟ فتحارُ لأوّل وهلةٍ.. كيف يسألونَك عن مكانه وأنت السائل؟ لتدركَ بعد لحظات أنهم يَعْنون بلدَ الأصلِ في فلسطين. فهم يُعَرّفون الناسَ بِأصول الوطن التي حملوها معهم. تستوي في ذلك الأجيالُ المختلفة. فاللاجئ الذي وُلِدَ في المنفى لأبٍ وُلِدَ مثلَه فيه، لم يغيّرْ عُنوانَ دارِه ودارِ آبائِهِ الأولى، حتى وإن أُزيلت عن الوجود. وهو الآنَ أكثرُ امتلاءً بهويتهِ من جَدِّه الذي أُخرج منها. فمنذُ الخروجِ حتى هذه اللحظةِ تنامت رمزياتُ الوطن، وانتقلت من خلفيةِ الوعي إلى مُقدّمتهِ، ومن المُسَلَّمِ به إلى سؤال الوجود وشرطِه.

 

كيف يحدثُ هذا؟ كيف استطاع المُخَيَّمُ أن يحتفظَ باسمِه، بعد أن حلّ الإسمنتُ محلَّ الخيامِ القديمة، وعلى الرغم من الوَصْمَة التي أُلْحِقَتْ ظُلماً بالمُخيم وأبنائه؟ إنها مقاومةُ الوعي لتغيير الصفَة، فما دام المخيمُ مخيماً فهو عابرٌ مؤقتٌ في زمن عابر. وفي حيّزِ المخيم الضيّق، كانت الأجيالُ تتوالى وتتكاثرُ دون أن يتوسعَ المكان. فكان لا بدّ أن تتزاحَمَ الأجيالُ في الحيّز المكانيِّ المحدود نفسِه. وهذا التزاحُمُ الخانقُ على ما فيه من الشقاء، كان باطنُه الرحمةَ، فقد شكَّلَ الظرفَ البُنيويَّ الذي يسَّرَ عمليةَ التراسلِ الحميمي المباشرِ واليوميِّ بين ذاكرة الأجداد ووعيِ الحَفَدَة.

 

لا نغلو إذن ولا ندَّّعي ولا نكابرُ ولا نغرق في التَعِلاّت حين نقول: لقد خسر العدوُّ رِهانَهُ على تغييب الذاكرة معَ غياب الأجيال الأولى من اللاجئين. فمن يملكُ أن يُسقطَ حقَّهم في العودة في أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة، مهما يكنْ مدى المفارقَة المفروضةِ بين قيمة السلام وقيمة العدل، بين معنى الواقع ومعنى الحق، بين حدود الدولةِ وحدودِ الوطن؟!

 

وإذا كان العدوُّ يُصرُّ على أن حقَّ العودة يُبْطِنُ ردَّ النزاع من جديد إلى شعار "معركة الوجود"، وأنه يُضمِرُ تقويضَ شرطِه الوجودي الذي أعلن السلاحُ العربيُّ عجزَه عن تقويضه، وكنا نُصِرُّ في الطرف المقابل على أن العودةَ حق لا يمكن إسقاطُه، حتى مع القَبول بخيار التسوية، والاحتكام إلى "الشرعية الدوليّة"، دون شرعيةِ الحق والعدل، فإن ذلك يكشفُ عُمقَ الأزمة التي لا بدّ أن يواجهَها خيارُ التسوية. وإذ يدركُ العدوُّ أبعادَ هذه الأزمة، فقد لا يجدُ لنفسه مفرّاً منها إلاّ اصطناعَ الظروف التي تُسَوِّغُ له فَرْضَ حلٍّ منفردٍ يُريحُه من استحقاقات هذا السؤال.

 

ولكنَّ هذا الحلَّ المنفردَ بدوره، لا يضرُّ بنا أقلَّ مما يضرُّ به، إذ يُلزِمُه الانكفاءَ وراءَ جُدُرِهِ المُشَيَّدَةِ، فيَحولَ بينَه وبين اجتناءِ استحقاقات السلام في العُمقِ العربي.

 

اللاجئ إذن هو مِسمارُ الحق التاريخي في حائطِ الواقع الظرفي، وطيفُ الوطن الفلسطيني التاريخي الذي يستعصي على الانحشارِ في ثوبٍ أقلَّ منه!

 

 

وبعدُ..

 

سيقولُ المُخَلَّفون من الأعرابِ ودعاة الرِدّة وسماسرة الإمبراطورية: أيُّ نهوضٍ وأيُّ عربٍ وأيُّ حقٍ وأيُّ حُلُمٍ، وأيُّ معانٍ ورموزٍ وذاكرةٍ وهويّةٍ وتعريفاتٍ؟ وسوف يُحيلون ذلك كلَّه على مُعْجَمٍ ماضٍ يَصِمونَهُ بِغِوايَةِ الشعراء وأوهامِ الرومانسيّة الثوريّة. ويستدعون في المقابل مفرداتِ العَوْلَمَة والواقعيةِ والعقلانيّة، ثم يضعون الجلادَ والضحيّةَ على سويّةٍ أخلاقيةٍ واحدة، ويَجمعون في صِفَةِ التطرّف بين من يحلُم بالحق كلِّه، ومن يريد أن يصادرَ الحقَّ كلَّه!

 

وسوف ينتظرُ آخرونَ حتى تتعَوْلَمَ مقاوَمةُ العولمة، لتكتسبَ روايتُنا عن الحق الفلسطيني وكفاحُنا من أجلِهِ شرعيةً جديدةً تستندُ إلى مَرجِعٍ عالميّ، ونستردَّ معها مُعجمَ التحرر والتحرير والاستقلال والنهضة!

 

 

فليكن..

 

ولكننا لن ننسى، ولن نسامحَ.. ولن نُسقطَ من يدِنا وضميرِنا جَمْرَةَ الحُلُمِ الفلسطيني.. فلسطين في نهاية درب الآلام، أو هي القيامة!

ــــــــــــ

شاعر وأديب فلسطيني