بقلم محمد فارس جرادات
أنزلوا العيسى عن المنبر؛ وسم تصدّر شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن محمد العيسى اعتلى المنبر، وصلّى من خلفه الحجيج بسلاسة منقطعة النظير، وقال في خطبة عرفة التي وافقت يوم جمعة، ما أراد قوله، دون ردود فعل إسلامية شعبية أو رسمية!!! كيف حصل ذلك؟! وكيف أمكن النظام السعودي تحويل جوهر الحج، من شعيرة رسالية للبراءة من المشركين، إلى موالاة أشدّ المشركين عداوة للمؤمنين؟! وما هي الأدوات التي يستخدمها السعودي في تجفيف منابع الحج، وتحويلها كأداة سياسية في خدمة مخططاته؟
عبر حوار الأديان، أخذ العيسى مشواره نحو التطبيع مع الصهاينة، ليزور عام 2017 أكبر كنيس يهودي في باريس، ثم اعتبر العمليات الفدائية للمقاومة الفلسطينية إرهاباً، في رده على سؤال لصحيفة يديعوت، مؤكداً على ضرورة السلام مع "إسرائيل"، وقد أخذ يظهر إلى جانب الحاخام الصهيوني؛ إلي حيون، والصهيونية الأوكرانية إيرينا تسوكرمان، بشكل متواتر، مع إصداره إدانة سنوية لمجازر النازيين بحق اليهود، وهو ما دفعه بالنهاية لزيارة معسكر أوشفيتس في بولندا، بل وإقامة صلاة الغائب على ضحايا النازية، وهو ما دفع إيرينا لإغرائه بأحقية الحصول على جائزة نوبل في المستقبل.
سبق للأمة أن تردّى حالها؛ وتشظّى بين قدس أموية ومكة زبيرية، فشجّع الأمويون الحج إلى القدس بدل مكة، وإن بشكل مؤقت، في انقسام سياسي كان الأول من نوعه في تاريخ المسلمين، ولكن التطويع الديني فشل على اعتاب استعصاء التيار العلمائي، الذي أثخنته جراح الانقسام بين شرعية زبيرية وسطوة أموية، ليأخذ الحياد السلبي، ولكنه حياد منع انحراف شعيرة الحج عن أصل موطنها، على أهمية القدس في الشرعية الإسلامية.
تجد الأمة اليوم نفسها وسط لجاج أخذ ركنيّة الحج واجتماعه الإسلاميّ العظيم، من جوهره السياسيّ الجامع لعزة المؤمنين، ليكون بأسهم على العدو شديد، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، لما هو مناسبة للتفسيخ الداخليّ الدمويّ، عبر محطات متصلة منذ مجزرة (التنومة) بحق آلاف الحجاج اليمنيين قبل قرن من الزمان، حتى مجزرة (منى) سنة 2015، وهو تفسيخ عقديّ وهابيّ يقوم على تكفير عامة المسلمين باعتبارهم مشركين مباحي الدم، يستلهم مفاعيله متى شاء، في وقت ينتقل فيه السعودي من مربع الارتهان السياسي للأمريكي، منذ عقود، نحو التطويع الديني المقنع بارتهان سياسي حادّ للإسرائيلي، وهذه المرّة عبر شعيرة الحج، بتعيينه المطبّع الشهير محمد العيسى، إماماً لعرفة.
بدأ المشوار السعودي في تحريف مقصود الركن الإسلامي الخامس، خطوته الكبرى منذ أربعين عاماً، بالمجزرة المروعة التي ارتكبها بحق الحجاج الإيرانيين، منعاً لإقامة مرسوم البراءة من المشركين، وهو المرسوم الثابت في عقيدة كل المسلمين، بنص القرآن { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ...وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، وهو ما تناوله البخاري في حديثه "أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ...لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ".
وسبق للسعودي أن مهّد قبل ذلك بطمس معالم تاريخية كثيرة في مكة والمدينة، وهي معالم مرتبطة جوهرياً برسالة الحج، بهدم ما تجاوز نسبته 95% من المواقع التاريخية التي تؤرخ لمرحلة ولادة الإسلام، حسب تحقيقات صحيفة الاندبندنت، بحجة التوسعة، وهي توسعة طالت كل شيء باستثناء أعمدة المسجد الحرام، في ظل تأييد وهابيّ عقدي يرى أن هذه المواقع شركيّة، لما تزعمه الوهابية من حساسية تجاه المس بالتوحيد، ولكن الوهابية استمرت اليوم في تحالفها القديم مع بني سعود، حتى وهم يفتحون كل مصارع التوحيد الحجازي، في رمزية الإمامة في عرفة، لعبور الإسرائيلي الوشيك إلى خيبر.
وخيبر التاريخية ما زالت على حالها دون تحديث عمرانيّ يطمس تاريخيتها، بخلاف حواضن الإسلام الأولى، وقد تم اقتلاع جذور غالبيتها، فهل تقف الأمة اليوم لتفتح أبواب خيبر، ليس كيوم اقتلع عليّ باب حصنها الأخير، وإنما ليعمرها صهاينة تل أبيب، فما من عليّ يتلو مرسوم البراءة من المشركين، ولكنه محمد العيسى يدعم مشروعاً لإيرينا وزوجها، منذ عام 2008 للحفاظ على التراث اليهودي في 2500 موقع يهودي في العالم العربي، منها عشرات المواقع في نجد والحجاز، أبرزها خيبر بجبلها ووديانها.
وفي الوقت الذي يعلن فيه بايدن طيرانه من تل أبيب إلى الرياض، كرسالة تطبيع إسرائيلي سعودي مباشر، يأتي الإعلان السعودي الوشيك، بالسماح للحجاج المسلمين من أرضنا المحتلة عام 1948، بالقيام برحلات طيران مباشرة إلى السعودية، كتطويع سياسي صريح لشعيرة الحج في خدمة أبشع غرض يمكن تخيّله، لما لهذا التطويع من تداعيات كارثية تطال صلب الدين في أهم خصوصياته، من إبراء التوحيد من شرك الذين توحدّوا اليوم في تهويد قبلة المسلمين الأولى؛ القدس.
عودة خيبر التاريخية على أطلال البراءة من المشركين، في رمزية إمامة الحجيج في عرفة، عبر مطبّع متدثر برداء الدين، تكشف حقيقة واقعنا كأمة، من زاوية طبيعة علاقتنا بشعائرنا الدينية المقدسة، فهل نجح العدو بتحويل بعضها لأدوات سياسية بعكس مقاصدها الأصيلة؟!