فلسطين اليوم: غزة
ما تزال صورة الشهيد المصور الصحافي فضل شناعة (22 عاما) وهو ملقىً على الأرض غارقاً في دمائه جراء إطلاق دبابة إسرائيلية قذيفتين مسماريتين تجاهه خلال عمله، ماثلة أمام أنظار الكثير من الصحافيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ويعتبرونها رسالة يبعث بها الاحتلال الإسرائيلي مفادها أن مصيرهم لن يكون بعيداً عن هذه الصورة كلما اقترب أحدهم من الحقيقة، حقيقة يبدو أنها ستظل حبيسة ما لم تمر من خلال عدسات وكلمات هؤلاء.
وصلت الرسالة الإسرائيلية لكل الصحافيين الفلسطينيين، لكن استجابة المستقبل جاءت مخالفة لرغبات المرسل، فلا الخوف تسرب إلى قلوبهم حتى تبتعد عدساتهم ولو قليلاً عن مواقع الموت، ولا هم تزحزحوا قيد أنملة عن تحقيق رسالتهم الإنسانية. لا بل اتخذوا من المشهد وسيلة للإصرار على استكمال رسالة الإعلام الحر في نقل الحقيقة إلى العالم كما يقول المصور الصحافي في وكالة "اسوشييتد برس" الأميركية خليل أبو حمرة، ويضيف: "رسالتنا نقل آلام ومعاناة شعبنا إلى كل مكان في هذا العالم، ومهما يكن الثمن فنحن سنقوم في المهمة بصرف النظر عن الثمن الذي يمكن أن ندفعه، فالحقيقة أغلى بكثير من الدماء التي قد تسيل". ويضيف أبو حمرة الحاصل على جائزة أفضل مصوري الشرق الأوسط في تغطية الحروب: "الصحافي الفلسطيني مستباح أمام الاحتلال، فلا توجد قاعدة أو قانون يمكن أن يتعامل بها جنود الاحتلال معه، لا بل أنه يكون هدفا لرصاصهم أينما وجد والأمثلة على ذلك كثيرة".
ويمثل المشهد الدامي للشهيد شناعة انموذجا للأسلوب الذي يتعامل فيه الجيش الإسرائيلي مع الصحافيين الفلسطينيين، خصوصاً أنهم حققوا نجاحات متكررة في نقل الانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في أوقات كثيرة من جانب، واثبتوا غير ذات مرة بطلان إدعاءات إسرائيل ومبرراتها في استهداف عدد من المواقع والأشخاص من جانب آخر. وليست اعتداءتها خلال التغطية الإعلامية للعدوان الأخير على قطاع غزة إلا شاهداً على ذلك.
ورصد "المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية" في رام الله بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة 257 انتهاكاً للحريات الإعلامية خلال العام الماضي ، منها 147 انتهاكاً ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنون. وكان أكثر هذه الاعتداءات دموية قتل مصور وكالة "رويتر" فضل شناعة عمدا، في حين ارتكبت الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة والقطاع ومسلحين فلسطينيين 110 اعتداء. ويتابع المركز في تقريره: "كما تواصلت الانتهاكات منذ بداية العام الحالي رغم أن الشهور الأربعة الماضية شهدت انخفاضا في انتهاكات الحريات الإعلامية من حيث العدد خصوصاً في الجانب الفلسطيني، مقارنة بذات الفترة من العام الماضي، إلا أن الشهر الأول من العام الحالي شهد انتهاكات نوعية خطيرة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي أثناء عدوانها على غزة".
وإذا كانت الانتهاكات الإسرائيلية في حق الصحافيين الفلسطينيين بهذه الصورة، فإن المشهد "لا يختلف كثيراً عن الانتهاكات التي تقترف بأيد فلسطينية في الضفة والقطاع وهو ما يؤلم أكثر، لأن الاحتلال يتجاوز كل الأعراف والقوانين في حق الفلسطينيين جميعاً، أما من هم من أبناء شعبك فالأولى أن يساندوا الصحافيين في مهمتهم لا أن يمارسوا هم نفس الانتهاكات الإسرائيلية" كما يقول مراسل فضائية "الجزيرة" في غزة وائل الدحدوح الذي يضيف ان "الانتهاكات الفلسطينية أكثر صعوبة ومرارة من الناحية النفسية على اعتبار أن من يمارسونها هم من أبناء جلدتنا الذين يفترض فيهم الوقوف إلى جانب الصحافي الفلسطيني." ويستطرد "يجب على السلطة في الضفة وغزة اتخاذ قرار جريء لوقف التعرض للصحافيين وانتهاك الحقوق والحريات مهما كانت المبررات، حتى يقوموا بواجبهم بمهنية ومسؤولية".
وتتخذ انتهاكات حرية التعبير عن الرأي والعمل الصحافي في قطاع غزة وفقاً لـ"مركز الميزان لحقوق الإنسان" أشكال عدة منها: استهداف الصحافيين بالقتل والإصابة والاعتداء عليهم بالخطف والاعتقال والاحتجاز والضرب والإهانة. كما يضاف الى هذه الاشكال مصادرة المواد والمعدات والأجهزة والاعتداء على مؤسسات صحافية والمنع من النشر أو البث أو التوزيع أو التغطية الصحافية، علاوة على منع التجمع السلمي واستدعاء الصحافيين من قبل السلطات الفلسطينية في غزة.
وفي السياق ذاته، يؤكد مدير وحدة تطوير الديمقراطية في "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" في غزة حمدي شقورة استمرار الاعتداءات على حرية التعبير والرأي من خلال استهداف المؤسسات الإعلامية والاعتداءات بمختلف أشكالها على الصحافيين بأيد فلسطينية، معتبراً أن الغالبية العظمى من هذه الانتهاكات تأتي في شكل من أشكال الأعمال الانتقامية التي أعقبت الانقسام الفلسطيني في الضفة والقطاع.
ويوضح شقورة أن المطلوب قانون مطبوعات فلسطيني يحترم حرية الصحافة والإعلام، وقبل ذلك فإن الطرفين في الضفة وغزة مطالبان باتخاذ خطوات جدية لوقف الاعتداءات على الصحافيين ورفع اليد عن الإعلام وترسيخ إعلام حر وديمقراطي.
وفيما يتعلق بالانتهاكات الإسرائيلية يقول شقورة: "المؤكد أن هناك توجها استراتيجيا لدى الاحتلال بإخراس الصحافة ومنع تغطية ما تقترفه قوات الاحتلال من انتهاكات بشتى الوسائل". ويضيف"الانتهاكات ضد العمل الصحافي تمثل جزءاً من الانتهاكات الإسرائيلية التي تمارس على نطاق واسع ضد المدنيين الفلسطينيين". ويبدو انه على الرغم من كل الظروف المحيطة بالعمل الاعلامي سيواصل الصحافي الفلسطيني رسالته، انطلاقاً من اعتباراته المهنية والوطنية التي تحتم عليه تغطية الأحداث الكبيرة التي تشهدها فلسطين حتى لو كان الدم ثمنا للحقيقة.