خبر جيش لدولة ... أم دولة لجيش؟

الساعة 02:15 م|01 مايو 2009

ضعف رؤساء حكومات إسرائيل بعد بن غوريون افسح المجال لسيطرة الجيش على الدولة

جيش لدولة ... أم دولة لجيش؟

فلسطين اليوم- غزة

 ثار الجدل في الآونة الأخيرة حول الجيش الاسرائيلي والاتهامات التي وجهت ‏اليه بارتكاب انتهاكات بحق الفلسطينيين في العدوان على قطاع غزة. وكشف هذا الجدل في الاوساط ‏الاسرائيلية عن اخلاقيات الجنود والضباط في هذا الجيش الذي قيل عنه طويلا انه الجيش الوحيد الذي ‏يتمتع باخلاق عالية في محيط دول "لا ديمقراطية" تستخدم جيوشها لقمع شعوبها.

 

الا ان هناك جانبا ‏خفيا لقادة الجيش الاسرائيلي بدأ يظهر بجلاء اكبر في الآونة الاخيرة يرتكن على اساس توجه الاجيال ‏الحالية منهم الى التطلع الى مواقع القيادة ليس في السياسة فحسب بل في الاقتصاد ايضا. فهؤلاء القادة ‏الذين يتلقون دورات عالية في مجالات استراتيجية وحيوية بدءا من سلوك مواطن فلسطيني على احد ‏الحواجز العسكرية في الضفة الغربية وصولا الى السيسات الاستراتيجية لمستقبل اسرائيل، يتأهلون ‏لمناصب عليا في الجيش والسياسة والاقتصاد. صحيفة "الشرق الاوسط" الصادرة في لندن اليوم ‏الجمعة اعدت تقريرا حول الجيش الاسرائيلي وعقيدته. افتتح التقرير بمجموعة من الضباط ‏الاسرائيلين برتبة عميد فما فوق يحضرون إلى مقر مجلس الدراسات ‏الاستراتيجية في وسط اسرائيل، ‏على مرمى حجر من تل أبيب، يجلسون على ‏مقاعد دراسة مريحة مزودة بكل ما يخطر في البال من ‏تكنولوجيا عالية. و‏يستمعون بمنتهى الأدب الى لمحاضر. عندما يريد أحدهم طرح سؤال يرفع ‏إصبعه ‏باحترام. الأسئلة أيضا جادة، تدل على اطلاع واسع ومحاولة ‏صادقة للفهم. لا أحد يغادر القاعة خلال ‏المحاضرة. وبانتهائها يتقدمون من ‏المحاضر بكلمات الشكر والإطراء.‏

 

والمحاضر هو رجل سياسي ليس من إسرائيل ولا أجنبيا، إنه أحد قادة ‏الأحزاب الوطنية العربية ‏الفلسطينية في إسرائيل. من أولئك الذين ‏يتعرضون للتحريض الدموي باستمرار في أوساط اليمين ‏الإسرائيلي ‏والشرطة والمخابرات. بل قد يتعرض هذا القائد لاستفزاز وربما اعتداء ‏على حاجز ‏عسكري في الضفة الغربية، ينفذه الجنود الخاضعون لقيادة أحد ‏العمداء في الجيش الإسرائيلي الجالسين ‏هنا أمامه كطلاب شطّار. فالقضية ‏هنا قضية دراسة وتعليم. يريدون التعلم من المصدر الأول. المهم ‏في ‏المحاضر هو أن يكون ملما في مجاله. حتى لو وضع في خانة الأعداء، ‏فمن الضروري سماعه. ‏وليس فقط في هذه القاعة. ففي الجيش الإسرائيلي ‏يجرون لقاءات كثيرة مع "الأعداء". يزورون ‏السجون ويلتقون أسرى من ‏قادة "فتح" و"حماس" وغيرهما. يقرأون باهتمام الدراسات التي أعدت ‏في ‏الجامعات والعديد منها تضمنت مقابلات بحثية مع قادة تنظيمات ‏فلسطينية وسياسيين عرب من ‏مختلف أنحاء العالم. فهذه واحدة من ‏أساليب الدراسة المستخدمة لوضع سياسة استراتيجية. وهي واحدة ‏من ‏الممارسات التي تطورت لدى هذا الجيش عبر تاريخه، جريا وراء "معرفة ‏الآخر"، التي كان أول ‏رئيس حكومة في إسرائيل، ديفيد بن غوريون، قد ‏وضعها في سنة 1948، كقاعدة لعمل الجيش ‏الإسرائيلي. وقد فعلها من ‏خلال منصب وزير الدفاع أيضا، الذي احتفظ به لنفسه كلما انتخب رئيسا ‏‏للحكومة، حتى مطلع الستينات. ‏

 

وهكذا جاء تدريج بن غوريون للمبادئ ‏العامة للجيش: "رصد تهديدات العدو الأمنية المحدقة بإسرائيل ‏والقيام ‏بخطوات رادعة لها قبل أن تتفاقم، محاولة منع التدهور إلى حرب واسعة ‏بواسطة القيام ‏بخطوات حربية دفاعية ولكن من دون الاضطرار إلى احتلال ‏العدو والسيطرة على شعبه، ممنوع ‏خسارة الحرب وينبغي توفير كل ما ‏يلزم من سلاح وعتاد ومال وتدريبات لهذا الغرض، محاولة إدارة ‏الحرب ‏بضربات خاطفة وكسر العدو في أسرع وقت لكي لا يطول القتال والسعي ‏لأن تكون الخسائر ‏البشرية في الحد الأدنى الممكن، محاولة الانتصار على ‏العدو بالضربة القاضية وليس بالنقاط".‏

 

ومع مرور السنين جرت بعض التعديلات الطفيفة على هذه المبادئ، مثل ‏إضافة بند حول ما يسمى بـ ‏‏"مكافحة الإرهاب"، ابتداء من العام 1967، ‏أو "الحرص على نقل المعركة إلى أرض العدو" وهو ‏المبدأ الذي وضع ‏في مطلع الخمسينات ونفذ في حرب 1967، ولكنه لم يعد واقعيا بعدها ‏‏"خوفا من ‏اتهام عالمي لنا بالعدوان"، كما كتب رئيس أركان الجيش ‏الإسرائيلي الأسبق، مردخاي غور (صحيفة ‏‏"دافار" 25 مارس 1983)، ‏و"ممنوع خوض حرب استنزاف بأي شكل من الأشكال"، وهو البند الذي ‏‏أضيف للمبادئ في سنة 1970، بعد حرب الاستنزاف التي خاضتها ‏إسرائيل مع مصر أساسا ومع ‏سورية إلى حد ما خلال سنتين كاملتين، ‏وغيرها.‏

 

للوهلة الأولى تبدو هذه المبادئ عسكرية محضة. ولكن من يتابع نشوء ‏الجيش الإسرائيلي وتاريخ ‏تطوره ونفوذه، يكتشف أن هذه العقائد ‏العسكرية تحولت إلى سياسة استراتيجية تتحكم في القرار ‏السياسي وفي ‏القضايا الاستراتيجية للدولة العبرية، وبفضلها أصبح الجيش وجنرالاته ‏السابقون ‏واللاحقون ذوي النفوذ الأكبر في السياسة الإسرائيلية، وهم ‏المسؤولون عن العقيدة الحربية التوسعية ‏التي تميز السياسة الإسرائيلية ‏منذ تأسيسها. والأمثلة على ذلك كثيرة: فبموجب المبدأ القائل أن على ‏‏إسرائيل أن ترصد التهديدات الأمنية، تمكن الجيش الإسرائيلي من إقناع ‏رئيس الحكومة مناحيم بيغن ‏بتدمير الفرن الذري العراقي سنة 1981، وقد ‏أفاد بيغن شخصيا من هذه الضربة لكي ينتصر في ‏الانتخابات التي جرت بعد ‏شهرين من هذا القصف. وهذه ليست قضية سياسية فحسب، إنما هي ‏قضية ‏حزبية أيضا، حيث إن الجيش ساعد اليمين أن يهزم اليسار في ‏الانتخابات البرلمانية.‏

 

وبموجب البند نفسه، يرصد الجيش الإسرائيلي أموالا طائلة بلا حدود على ‏مهمات التجسس وجمع ‏المعلومات من العالم بأسره، وخصوصا من العالم ‏العربي، أي في مناطق جغرافية بلا حدود. ‏والحصول على معلومات أغرى ‏الإسرائيليين لتنفيذ عمليات حربية ما وراء الحدود، فاجتاحت قوات ‏‏الكوماندوز الإسرائيلية الخاصة بقيادة إيهود باراك بيروت لتغتال ثلاثة قادة ‏فلسطينيين، ووصلت إلى ‏تونس لاغتيال القائد الفلسطيني الثاني، خليل ‏الوزير (أبو جهاد) ونفذت عشرات العمليات الأخرى ‏السرية في أوروبا ‏وآسيا وحتى في الولايات المتحدة ضبط جواسيس لخدمة إسرائيل.‏

 

وبموجب البند حول مكافحة الإرهاب نفذت حرب لبنان الأولى (1982 – ‏‏1985) والثانية (2006)، ‏اللتين فرضتا فرضا على القيادة السياسية، ‏والاجتياح لمناطق السلطة الفلسطينية ومحاصرة الرئيس ‏الفلسطيني ياسر ‏عرفات حتى الموت (2003)، التي أدت إلى تعطيل وشلل العملية السلمية. ‏تأسس ‏الجيش الإسرائيلي رسميا، في نهاية شهر مايو (أيار) من سنة ‏‏1948، أي بعد أسبوعين من إعلان ‏تأسيس الدولة العبرية. وقد تأسس ‏عمليا قبل ذلك بكثير، من خلال التنظيمات العسكرية اليهودية التي ‏حاربت ‏في فلسطين تحت قيادة الحركة الصهيونية ("هاغاناة"، "بلماح"، ‏‏"إيتسل" وغيرها). ففي هذه ‏المرحلة المتقدمة كانت لديه قوة مشاة ‏وسلاح جو ومخابرات. وعند تأسيس الجيش، كان الهدف وضع ‏حد ‏للتنظيمات العسكرية الفئوية والميليشيات. ‏

 

وقد ضرب ديفيد بن غوريون بيد ‏من حديد القوى التي أرادت الاحتفاظ بتنظيمات مسلحة مستقلة، ولم ‏يتردد ‏في محاربتها بالقوة سعيا لتصفيتها. فأمر بإغراق سفينة المسلحين وما ‏تحمله من أسلحة المعروفة ‏باسم "ألطلينا"، ورأى يومها أن الشرط الأول ‏الذي لا يستغنى عنه لقيام دولة منظمة تحظى باحترام ‏العالم، هو وجود ‏جيش واحد خاضع لسيادة الدولة ومؤسساتها الديمقراطية.‏

 

وأراد بن غوريون للجيش الإسرائيلي أن يعمل وفق نظام الجيوش في ‏الدول الديمقراطية الغربية، أي ‏بالفصل بين الجهاز العسكري والجهاز ‏السياسي، بحيث تكون الكلمة الأخيرة للقيادة السياسية. ‏فالحكومة فوق ‏الجيش. تراقبه وتختار قائده وتحدد له أهدافه ومهماته. وكان بن غوريون ‏واعيا لخطورة ‏سطوة الجيش على القيادة السياسية، فمنع بحزم تدخله ‏الزائد في السياسة. وفرض عليه العديد من ‏القرارات، مثل الانسحاب من ‏سيناء المصرية إثر حرب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. ‏ودخل ‏في احتكاكات عديدة معه، وأنهاها بحسمه السياسي.‏

 

ولكن بعد بن غوريون، شهدت إسرائيل رؤساء حكومات أبدوا ضعفا ‏واضحا أمام الجيش مثل موشيه ‏شاريت وليفي أشكول في الستينات وغولدا ‏مائير في مطلع السبعينات. ففي هذه الفترة زاد نفوذ الجيش ‏كثيرا. وتعتبر ‏حرب 1967، بمثابة مرحلة حاسمة في تعاظم نفوذ الجيش، حيث إن ‏أشكول لم يكن ‏معنيا بالحرب. ورفض بشدة إعطاء أمر بخوضها. وقد كتب ‏المؤرخ توم سيجف أن أعضاء هيئة ‏أركان الجيش استدعوا رئيس ‏الوزراء أشكول إلى مقر القيادة، في تل أبيب ومارسوا عليه الضغط حتى ‏‏يوافق على الحرب. ويقال إن أرئيل شارون، الذي كان يومها أحد هؤلاء ‏القادة، تحدث لأصدقائه أنه ‏كان ينوي إغلاق الباب على أشكول في قيادة ‏الأركان وإبقائه مغلقا حتى يطلق شرارة الحرب. لكن ‏أشكول "اقتنع" من ‏دون أن يغلق الباب.‏

 

وبما أن نتيجة الحرب كانت انتصارا ساحقا لإسرائيل، حيث إنها تمكنت من ‏احتلال الجولان السوري ‏والضفة الغربية لنهر الأردن وسيناء المصرية ‏وقطاع غزة خلال ستة أيام، فقد زاد نفوذ الجيش لدرجة ‏خطيرة. ولم يعد ‏السياسيون يستطيعون صده. وفقط حرب أكتوبر 1973، التي زعزع ‏المصريون ‏والسوريون فيها نظرية "الجيش الذي لا يقهر"، أوقفت هذا ‏النفوذ. ولكن، الحرب أظهرت أيضا أن ‏إسرائيل تحتاج إلى شخصية قوية في ‏رئاسة حكومتها، أي في القيادة السياسية وليس فقط في الجيش. ‏فتم اختيار ‏إسحق رابين، رئيس أركان الجيش في حرب 1967، ليصبح رئيس حكومة. ‏وهو الذي ‏تمكن من استعادة هيبة الجيش والقيادة السياسية عن طريق ‏المزج ما بين القيادتين.‏

 

وأصبح عهد رابين واختياره، نموذجا يحتذى في هذا "التعاون". وبدأت ‏ظاهرة تصدير الجنرالات إلى ‏القيادة السياسية للدولة. ومنذ ذلك العهد، ‏تولى عشرات الجنرالات مناصب رفيعة في القيادة السياسية. ‏ويذكر منهم: ‏يغئال يدين، رئيس الأركان الثاني الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة بيغن. ‏وموشيه ديان، ‏الذي جلبه بيغن وزيرا للخارجية في أول حكومة يمينية (مع ‏أن ديان كان من قادة حزب العمل). ‏وعيزرا فايتسمان، قائد سلاح الجو ‏الذي اختاره بيغن وزيرا للدفاع. ثم أرئيل شارون، الذي اختاره بيغن ‏لتبديل ‏فايتسمان في هذه الوزارة، وأصبح فيما بعد رئيسا للحكومة (2001 ـ ‏‏2005). وإيهود باراك، ‏رئيس الأركان، الذي اختاره رابين وزيرا للداخلية ‏في حكومته وأصبح هو أيضا رئيسا للحكومة. ‏والجنرالات بنيامين بن ‏أليعازر وإسحق مردخاي وشاؤول موفاز، الذين أصبحوا وزراء دفاع، ‏ورئيس ‏الأركان أمنون شاحاك، الذي أصبح وزيرا في حكومة باراك. ومن قبله ‏رافائيل إيتان ورحبعام زئيفي، ‏وحتى اليوم حيث اختار بنيامين نتنياهو ثلاثة ‏جنرالات في حكومته، هم إضافة إلى وزير الدفاع باراك، ‏يوسي بيليد ‏وموشيه يعلون.‏

 

وهكذا، اختلط حابل السياسيين بنابل العسكريين. وباتت عقيدة الجيش ‏مختلطة بعقيدة الدولة. ولم ‏يقتصر تصدير الجنرالات على القيادة السياسية ‏في إسرائيل، بل امتد إلى الاقتصاد أيضا. فقد دأب القادة ‏السياسيون، من ‏ذوي المناصب العليا في الجيش سابقا، على ضمان وظائف عليا في قيادة ‏الشركات ‏والمؤسسات الحكومية الأخرى. وعندما برز بعض هؤلاء ‏العسكريين في إدارتهم الناجحة لمؤسساتهم، ‏استقطبهم القطاع الخاص ‏أيضا. ‏

 

فها هو أمنون شاحاك، رئيس أركان الجيش الأسبق، يصبح رئيسا ‏لشركة الطيران "ال عال" ولشركة ‏المياه "تاهل"، ويعقوب بيئري، رئيس ‏الاستخبارات العامة الأسبق، رئيسا لأكبر شركة هواتف خليوية ‏ثم رئيسا ‏لمجلس إدارة بنك كبير، وباراك، قبل أن يعود إلى السياسة أصبح مليونيرا ‏إثر شغله منصب ‏رئيس مجلس إدارة لعدة شركات استثمار. ‏

 

ولكن الفرع ‏الاقتصادي الأكبر الذي يقوده الجنرالات، هو فرع التجارة العسكرية ‏الأمنية، الذي يعتبر ‏اليوم أكبر فرع اقتصادي في إسرائيل على الإطلاق. ‏فإسرائيل تعتبر اليوم مصدرا للسلاح والخبرات ‏الأمنية في 70 دولة في ‏العالم، بينها دول العالم الثالث وبينها دول أوروبا الشرقية وحتى الدول ‏‏المتطورة (بيع أسلحة من مختلف الأنواع، بدءا بالمسدسات والذخيرة ‏وحتى الطائرات بلا طيار ‏وتحديث الطائرات والدبابات القديمة وتدريب ‏الجيوش وتدريب الحرس الرئاسي وشركات حراسة ‏دولية في المرافق ‏الاقتصادية في هذه الدول وأطقم حراسة السفن التجارية). هذا فضلا عن ‏الحراسة في ‏إسرائيل نفسها، حيث إنه لا يوجد مطعم أو مجمع تجاري أو ‏مكتب حكومي أو بنك أو حتى مكتب ‏تسويق للهواتف النقالة إلا ويضع ‏حارسا على الباب. ‏

 

وبحكم تطور الصناعات العسكرية الإسرائيلية التابعة ‏للجيش مباشرة، هناك عشرات آلاف العمال ‏والمهندسين والإداريين الذين ‏يعملون تحت سيطرة الجيش ويلفون العالم باسمه (40 في المئة من ‏منتجات ‏الصناعات العسكرية الإسرائيلية تصدر إلى الخارج، وفقا لمنشورات مركز ‏يافي للأبحاث ‏الاستراتيجية). ‏

 

ومن هنا أصبح الجيش، بقياداته الحالية ‏وسيطرته الإدارية والمالية وقادته السابقين، الذين سيطروا على ‏الاقتصاد، ‏عنصرا حاسما في السياسة الاقتصادية أيضا. فإذا أضفنا لذلك أن الخدمة ‏العسكرية في ‏إسرائيل إجبارية (لكل يهودي أو درزي أو شركسي بلغ ‏الثامنة عشرة، باستثناء المتدينين وباستثناء ‏النساء الدرزيات والشركس)، ‏وأن عدد جنود الجيش النظامي يبلغ اليوم 176500 جندي والجيش ‏‏الاحتياطي 445000 جندي، وأن الجيش يقوم بمهمات تعليمية في ‏المدارس ولديه نشاط استيطاني ‏‏(الجيش بنى 90 مستوطنة بواسطة ‏‏"الشبيبة الطلائعية")، يمكننا إدراك حقيقة أنه يسيطر على كل ‏جوانب ‏الحياة في المجتمع الإسرائيلي. والإسرائيليون يتندرون فيما بينهم فيقولون ‏إن إسرائيل ليست ‏دولة لها جيش بل جيش له دولة. وهذه ليست مسألة ‏عدد ونظام وحسب، بل هي سياسة أيضا.‏

 

ويقول الباحث الإسرائيلي في علم التغيير الاجتماعي، إيال نيف، إنه بسبب ‏الدور المركزي للجيش ‏الإسرائيلي في الحياة الاجتماعية والناس يشاركون ‏فيه بهذه الكثافة، فإن عقلية عسكرية نمت وتطورت ‏وسيطرت على ‏المجتمع الإسرائيلي. ويضيف أن هذه العقلية العسكرية، جعلت القوة أداة ‏أساسية لدى ‏الناس والدفاع عن الدولة قيمة عليا. وبات الجنرالات هم ‏الناس الأمناء على اتخاذ القرارات الصحيحة. ‏وكلما يشعر الإسرائيلي أن ‏عليه خطرا وجوديا يتحول إلى أكثر شراسة ويصبح العدو أكثر سوءا ‏‏وكراهية عليه. ‏

 

فإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن عدد قتلى الحروب في ‏إسرائيل يبلغ 22570 شخصا وأن أضعاف ذلك ‏العدد مشوهو حرب، ‏يعتاشون هم وعائلاتهم من مخصصات الجيش والدولة، ومرتبطون ‏بمؤسسات ‏مدنية مرتبطة بدورها بالجيش مثل "الجمعية من أجل الجيش" ‏و"يد للأبناء الجنود" و"منظمة معوقي ‏الجيش" و"خريجو البلماح" ‏وغيرها، فإن الجيش يعيش ويعشش في نفوس الناس ويسيطر عليهم.‏

 

وهذا الواقع بحد ذاته يجعل الجيش مؤسسة النفوذ الأكبر. كلمته مسموعة. ‏وطلباته أوامر. هذا فضلا ‏عن "إعجاب الإسرائيليين بالصناعة العسكرية ‏ذات التكنولوجيا العالية، التي ينظر إليها على أنها ‏أفضل تعبير عن العقلية ‏اليهودية الفذة"، كما يقول د. إيهود غولان، المحاضر في العلاقات ‏الدولية. ‏وقيادة الجيش تدرك هذه العظمة لنفوذها، فلا تتردد في استغلالها. ‏فعندما نرى القيادة السياسية في ‏إسرائيل تتردد في شن حرب أو معركة، ‏نجد المجتمع الإسرائيلي غارقا في شعار يتردد باستمرار هو ‏‏"دعوا ‏الجيش ينتصر". وقد استمعنا لهذا الشعار في سنة 2003 عندما كانت ‏عملية السلام تراوح ‏مكانها والعمليات التفجيرية الفلسطينية تملأ الشوارع ‏الإسرائيلية، انتشر هذا الشعار إلى حين اتخذ ‏القرار بإعادة احتلال الضفة ‏الغربية ومحاصرة عرفات في المقاطعة في رام الله، فأجهضت مفاوضات ‏‏السلام تماما. ‏

 

ولم يكن الجيش بحاجة إلى فرض رأيه بانقلاب عسكري، كان ‏يكفي أن يوجه هذا الشعار كرسالة إلى ‏المواطنين، فتجندت الصحافة ‏والقوى السياسية تنفذ رغبته. والأمر نفسه حصل في حرب لبنان الثانية ‏‏سنة 2006. وحسب تقرير لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات هذه ‏الحرب، فإن الجيش "قد جرّ القيادة ‏السياسية إلى حرب غير مدروسة ‏استراتيجيا". ‏

 

وأضافت في توصياتها أن على الحكومة زيادة مراقبتها على ‏الجيش ودعت إلى زيادة مراقبة الكنيست ‏أيضا. وقال عضو اللجنة، ‏البروفسور درور يحزقيل، إن "للجيش الإسرائيلي نفوذا كبيرا على القرار ‏‏السياسي يزيد على الحجم المسموح به في دولة ديمقراطية" (صحيفة ‏‏"معاريف" – 8 فبراير (شباط) ‏‏2008). وقد ظهر أمام اللجنة الجنرال ‏عاموس مالكا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في سنوات ‏‏1998 ـ ‏‏2002، فقال: "خلال الحرب يأتي رئيس الوزراء ووزير الأمن إلى قيادة ‏هيئة الأركان ‏ضيفين زائرين. لم يرافقهما حتى مساعدون مهنيون يقدمون ‏لهما مشورة مستقلة. وما قاله رئيس أركان ‏الجيش، دان حالوتس، من أنه ‏يتلقى الأوامر من الحكومة وينفذها، هو كلام فارغ". ‏

 

ولهذه الحرب قصة ‏أخرى تدل على "عقيدة الجيش" ونفوذه. فالمعروف أن الحكومة التي ‏أقامها إيهود ‏أولمرت ووزير دفاعه عامير بيريتس، كانت قد وضعت بندا ‏في خطوطها العريضة يقضي بتقليص ‏ميزانية الجيش الإسرائيلي بمبلغ ‏يعادل 1.3 مليار دولار. وقد اعترض الجيش على ذلك وحاول إثناء ‏‏الحكومة عن هذا التوجه، لكن أولمرت وبيريتس، أصرا على البند باعتبار ‏أن الانسحاب من قطاع غزة ‏أوجد حالة مريحة لمفاوضات السلام وأن ‏الجيش يجب أن يتقلص.‏

 

واعتبر الجيش هذا القرار تجاوزا للخطوط الحمراء. فماذا فعل؟ استغل خطف ‏حزب الله للجنديين الداد ‏ريغيف وايهود غولدفاسر، ودفع الحكومة إلى ‏الحرب التي وصفتها لجنة "فينوغراد" بأنها غير ‏مدروسة. وكانت النتيجة بعد ‏الحرب أن الحكومة لم تتنازل عن تقليص الميزانية وحسب، بل رفعتها ‏‏بمبلغ إضافي بقيمة 2.8 مليار دولار. ولم يكتفوا بهذا، بل دارت معركة ‏جماهيرية واسعة أدت إلى ‏طرد بيريتس وأولمرت من منصبيهما. ‏

 

ويقدم ‏الباحث إيال نيف مثلا صارخا آخر عن عقيدة الجيش وكيفية تحويلها إلى ‏ممارسة سياسية ‏رفضية، ويطرح رأيه في تساؤلات فيقول: "هل هي صدفة ‏أن المفاوضات مع الفلسطينيين انفجرت في ‏أوساط سنوات التسعين؟ ففي ‏حينه حصلت أزمة اقتصادية في عدة دول في العالم أدت إلى انخفاض ‏‏الطلبيات من الصناعة العسكرية الإسرائيلية، وهذا بدوره تسبب في طرد ‏ألوف العمال منها. أفلا توجد ‏علاقة بين هذا وبين تفجر المفاوضات؟ ‏فالمعروف أن 10% من الصادرات الإسرائيلية هي من فرع ‏الأسلحة، أفلا ‏توجد هنا عناصر ذات مصلحة في استمرار الحرب وفي استمرار الاحتلال ‏من أجل ‏إنعاش الصناعات العسكرية؟".‏

 

ويقدم الجنرال مردخاي غور، رئيس أركان الجيش الأسبق، في مقاله ‏المذكور أن الاستخبارات ‏العسكرية الإسرائيلية كانت أكثر الإسرائيليين ‏صدمة ومفاجأة من قرار الرئيس المصري أنور السادات ‏زيارة إسرائيل في ‏سنة 1977. فهي رغم كل الموارد والجهود التي تبذلها لمعرفة الأجواء ‏في مصر، ‏فوجئت. ولكن صدمتها كانت أكبر عندما فوجئت بأن بقية الدول ‏العربية لم تلحق بالسادات في السلام ‏مع إسرائيل. فماذا فعلت؟ راحت ‏تشكك بالسادات نفسه وتقول إن السلام الذي وقعه مع إسرائيل ما هو ‏إلا ‏حالة "كبريزا" من السادات وحده. واستنتجت في حينه أنه "لا يوجد من ‏نتكلم معه في الطرف ‏الآخر، ولذلك يجب أن نعتمد فقط على قوتنا الذاتية ‏وإبقاء الخيار العسكري قائما".‏

 

وما يقوله الجنرال غور، ينطبق على شعار ‏آخر مشابه كان قد أطلقه إيهود باراك في سنة 2000 إثر ‏فشل مؤتمر ‏كامب ديفيد، حيث قال "لا يوجد لإسرائيل شريك فلسطيني في عملية ‏السلام"، وتحولت ‏هذه المقولة العسكرية الأصل إلى شعار سارت إسرائيل ‏عليه حتى تولى الرئاسة الفلسطينية بعد رحيل ‏عرفات، الرئيس محمود ‏عباس (أبو مازن)، فقال يومها إيهود أولمرت، وهو يناقش قادة الجيش ‏وقوى ‏اليمين المناصرة لها: "لقد لوحنا بالشعار أنه لا يوجد شريك ‏فلسطيني لنا في عملية السلام طيلة سبع ‏سنوات وصدقنا العالم. ولكن، هل ‏يمكننا الاستمرار في ترديد هذا الشعار في عهد أبو مازن؟ هل ‏نستطيع ‏إقناع أحد في العالم بأن أبو مازن ليس شريكا في عملية السلام؟". ‏ويوافق معه الكاتب أوري ‏أفنيري، الذي أصدر كتابين في الأبحاث ‏العسكرية، فيقول عن حرب لبنان الثانية كلمات مماثلة وبشكل ‏أكثر حدة: ‏‏"الجيش الإسرائيلي الذي بنى قوته على مطاردة أطفال فلسطينيين يقذفون ‏الحجارة، لا يمكنه ‏أن يكون جيشا قويا واثقا. الجيش الذي بنى كل سياسته ‏على الاستهتار بالعرب وطور في نفسه نوعا ‏من العمى حول العرب ‏ودوافعهم وحساباتهم الحقيقية، لا يمكن أن يعرف كيف يمثل مصالح ‏المجتمع ‏الحقيقية. لقد استغل الجيش تأثيره البالغ على القيادة السياسية ‏ودفعها إلى مغامرة خطيرة. وكل هدفه هو ‏إبعاد إسرائيل عن الحقيقة ‏الراسخة وهي أنه لا يوجد حل عسكري للصراع الإسرائيلي العربي. والحل ‏‏الوحيد هو سياسي سلمي".‏

 

من هنا، فإن الجيش الإسرائيلي، وإن كان يأتمر نظريا بقرارات الحكومة، ‏فقد بنى لنفسه على مدى ‏السنوات الستين، آلية للتأثير على القرار ‏السياسي والجماهيري في إسرائيل بشكل هائل لا يمكن ‏مقارنته مع نفوذ أي ‏جيش في الدول الغربية التي يحلو لإسرائيل الانتماء إليها. وإن لم تكن لهذا ‏الجيش ‏عقيدة محددة أيديولوجيا، فإن لديه عقيدة عسكرية واضحة تؤدي ‏إلى بناء سياسة استراتيجية، هي عقيدة ‏الشك الدائم في الطرف الآخر ‏‏(وليس العربي فحسب) والاعتماد على القوة العسكرية كأمر أساسي. ‏ومع ‏مرور الزمن ونشوء فرع اقتصادي عسكري، باتت هناك شريحة من تجار ‏الحرب في إسرائيل ‏المرتبطين بالجيش حتى اليوم والقادمين من صفوف ‏الجيش، الذين لديهم مصلحة مباشرة في استمرار ‏الحروب لكي يستمروا ‏في الربح.‏

 

وصحيح أن هناك تيارا ليس بسيطا في المجتمع الإسرائيلي يرفض هذا ‏النفوذ للجيش وتجار الحرب، ‏ولكن قوة هذا التيار ما زالت ضعيفة. وهو لم ‏يستطع حماية رئيس حكومة ووزير دفاع (أولمرت ‏وبيريتس)، وأطاحوا ‏بهما بسبب تجرئهما على التخطيط (مجرد التخطيط) لتقليص ميزانية ‏الجيش. ‏والوعي الجماهيري لهذا النفوذ والعقيدة الحربية التي تختفي ‏وراءه ما زال غائبا ومغيبا في المجتمع ‏الإسرائيلي. وفي هذه الحالة لم يعد ‏الجيش يضع لنفسه حدودا في شيء، ليس فقط في الوصول إلى ‏العراق ‏وسورية وحسب، وليس فقط في التخطيط لحرب مع إيران وحسب، وليس ‏فقط في تطوير الآلية ‏الحربية بكل المجالات من السلاح النووي إلى غزو ‏الفضاء وحسب، بل لا يعرف حدودا حتى في ‏استخدام نفوذه على القيادة ‏السياسية.‏