خبر دفْنَة وأبوللو والناس .. علي عقلة عرسان

الساعة 12:46 م|01 مايو 2009

في "دَفْنَة" السورية التي فقدت هويتها العربية أو كادت، هناك على بعد أميال من شاطئ البحر الساحر، حيث الخضرة بلا حدود، والأفق مفتوح على الرؤية، والشمس بقوتها الجبارة تحاول التسلل إلى قلب الوادي فلا تجد إلى ذلك سبيلا، وحيث سيف الجبل الأقرع مُصلت على الذاكرة.. هناك.. وجدت "أبوللو" مثقلاً بأكاليل الغار ينوء بحمله ويتصبب عرقاً.. يأخذ بكفه كفّ عروس عسجدية اللون من عرائسه الكثر ويتسللان إلى جوف صخري يحتميان بشلال عظيم الانسكاب، يشكل ماؤه المنهمر ستاراً تتكسر عليه الأشعة فيصنع قوافل من الألوان تغري بهما ولا تمنع سهام العيون عنهما.. فرش أبوللو الجميل الأرضَ ببعض الغار واستلقى في الظل يبترد برذاذ الماء المتناثر رطوبة وعذوبة وموسيقا، والعسجدية عروسه تمسك بخصل شَعره وتعيد جدلها مع أوراق الغار، وتلثمه فيشع جسداهما قوة ونوراً ويبحران في قارب اللذة والحلم. هناك وجدتني على شرفة من صنع الخيال محاطاً بالخضرة والماء والذكرى، أسبح في المساحة المتبقية من حلمين، خاص وعام، يشبهان عاصفة تدوّم في بحر هائج فيغيب هيجانها في هيجان.. في تلك المساحة التي احتلها الحلم لم أجد متسعاً حتى لكلمة أمل.. فكل الوقائع الثقيلة تنسج هنا عوالم بديلة، والتاريخ القريب يبدو حافي القدمين يتوارى في الظل خجلاً من التاريخ القديم والواقع البالغ حد القسوة. وعجبت من أمر الحلم والأمل يتجاوران ويتحاوران ويتحاربان.. ففي البرزخ الممتد بينهما تتداخل الأحداث والأشياء والمشاهد وتأتي على ما يتبقى من علاقتهما ومن صفاء الرؤية وصفو البال اللذين ينشدهما الراكب في قاربهما.. قد يتقاربان الحلم والأمل حتى لتخال أنهما توحدا عضوياً ولكن عند إشراق ما عند لمع برق من نوع صاعق تتسع الهوة بينهما وتجري سيول الماء.. الأمل ربيع يزحف عليه الصيف والحلم متاهة في ليل، والليل قد تزينه النجوم وقد يسطع فيه القمر ولكنه يبقى ليلاً.

خنقني جو السياسة والنفاق الاجتماعي وانحلال عقد الأخلاق في بيئة لا يمكن أن يقيم أود الناس فيها إلا الأخلاق.. فنفرت وأردت أن أبتعد قليلاً ليصفو أفقي فأقوى على مقابلة الأفق المعتكر من حولي، ففي هذا النوع من العوالم ما إن تخرج من دوامة حتى تدخل في أخرى.. وما إن تخرج من دائرة عتمة متطلعاً إلى الضوء حتى تلفك العتمة من جديد وتدخلك في دوامات الأسئلة العقيمة والظنون المهلكة وأنواع شتى من أحاديث الإفك. لجأت إلى "دَفْنَة" لعلّي أقتطف شيئاً من غار أبوللو وأنتشي بالرؤى.. فوجدته هارباً من عالمه يلوذ بالماء والغار والصخر لكي ينجو من سهام الأبصار وظنون القلوب والنفوس الأمارة بالسوء.. وحين تركزت العيون عليه وعلى من معه قفز في العتمة وذاب.. إنه لا يريد أن يَرى وأن يُرى.. ولكن كل حي متجسد ذي بصر وبصيرة يَرى ويُرى .. فما العمل وإلى أين المفر.؟

في "دفنة" تقرَّيت براحة كفي بعض نتوءات أحلامي فجرّح الحجر الخشن راحة الكف وكادت بعض نصاله الحادة تغور في اللحم بعد الجلد، أيقظني الوادي على حقائق أخرى غير تلك التي زينها الخيال وصنعتها معطيات التاريخ.. الواقع هنا يجدل حقائق مغايرة تصنعها الحياة.. إنه لا يحجب كل شيء تماماً ولكن وقائعه تصنع عالماً مغايراً لذلك الذي كان قبل عقود قليلة من الزمن.. لساني ليس معي في "دفْنة"، والسنابل التي تملأ الحقول من حولها تبتهج بألوان أخرى وتردد ألحاناً أخرى أيضاً، وتلبس حللاً ذات ألوان مغايرة للحلل التي يرتديها ربيعي أنا، الماء ليس الماء.. والصوت الذي يصرخ معي، على صدقه وحرقته وقوته، يصرخ بي في الوقت ذاته ويقول لي: أين أنت؟ ولم أصبحت هكذا بلا تأثير وبلا قيمة وبلا حضور، وكيف تخرج مما أنت فيه إلى ما ينبغي أن تصبح عليه.. أريدك ليس كما أنت بل كما يليق بك؟ وفي بعض ظلاله يبلغ الصوت حد التصدّع والتفجع وفي ظلاله الأخرى يبلغ حد التشفي من دون توجع.. وقد قرأته جيداً في حالات وفي مواقع وأماكن وأقوال.. ومن تلك الحالات التي ظهر فيه حدا التصدع والتشفي ما كان من أمري مع طلبة وطالبات، بعد وقت من وقفتي القصيرة في "دفنة" السورية، حين وقفت متحدثاً في المركز الثقافي لجامعة "غازي عنتاب" عن قضية فلسطين والمقاومة.. هناك بيّنت بعض ما في نفسي واستبنت بعض ما في أنفس من حضر.. وساقني الحديث إلى علاقتنا بهم وعلاقتهم بنا.. إلى تاريخنا وتاريخهم والمشترك الكبير الذي يجمعنا.. فوقفت على تعاطف كبير نذكر منه صوراً ومشاهد في أثناء العدوان الصهيوني الإجرامي على غزة، وعلى وجوم كلل بعض الوجوه يشبه غيوم جبال "الأمنوس" وينذر بعواصفها. منهم من لا يعرف من تاريخه إلا أن العرب غدروا بآبائه وأجداده الأتراك في معركة جيش الشرق فانهزم الجيش في الشرق بينما انتصر ذلك الجيش في الغرب.. فلماذا.. العرب مسؤولون.؟ لا أحد من أولئك يذكر أو يتذكر تفاصيل المشهد أو صورته بتمامه، وأن هزيمة رومل في العَلَمين على يد الجنرال اللنبي أنهت جيش الشرق وحسمت الحرب العالمية الأولى حيث حددت نهايتها ومن الكاسب والخاسر فيها قبل أن يخوض العرب في مراحل من تلك الحرب.. فهزيمة المحور حققت انتصار الحلفاء.. أما حلفاء العرب الذين انتصروا على المحور فقد ألحقوا شر هزيمة بحلفائهم من العرب الذين كانوا قد انقسموا أصلاً إلى قسمين.. وقد نكث الحلفاء بوعودهم لمن كان معهم من العرب فاحتلوا بلدان العرب ومزقوها وصنعوا من فلسطين وطناً قومياً لليهود فيها على حساب شعبها ومستقبلها، وأسلموا العرب إلى هزيمة ومحنة امتدتا مئة سنة ونيّف وما زالتا تفتكان بهم وتمتدان لتحرقا مستقبلهم وتحجبا عنهم الرؤية السليمة وتمنعانهم من التحليل السليم وإقامة العلاقات الاستراتيجية الأسلم.

في غازي عنتاب وفي غيرها من المدن التي أقيمت لي فيها لقاءات ثقافية، سابقاً وراهناً، ازداد يقيني بأن على العرب والأتراك أن يتحدثوا بعضهم إلى بعض بمسؤولية وعلمية وحرية وتفصيل، وأن يتحاوروا بقلب مفتوح وعقل علمي وموضوعية شاملة حول كل ما يتصل بشؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن عليهم أن ينفضوا الغبار عن الوثائق المخبأة في كثير من المكتبات والمراكز ودور التوثيق العربية والتركية والعالمية، لا سيما تلك التي تعود إلى سنوات الحرب العالمية الأولى وما سبقها بقليل، لكي يعرفوا حجم المؤامرة القذرة ومدى الجريمة البشعة اللتين حلتا بهم جميعاً على يد الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية العنصرية.. تانك المؤامرة والجريمة اللتان ما زلتا تفتكان بهم وتتحكمان بعلاقاتهم ومستقبلهم وتديران الأحداث بما لا يساعدهم على اللقاء والنهوض بشكل إيجابي مؤثر يليق بماضيهم. فهل تراهم يفعلون أم الغفلة ما تزال مطلوبة؟

في دَفْنة السورية الجميلة كان حديث آخر للخيال والأمل، للقلب والمشاعر، للحب والجمال، لأبوللو وتيجان الغار والحبيبة العسجدية اللون لا يشبه الحديث في سواها.. لكن في شعاب القلب كان جمر الغضى يسهر ويحرق ويستمد نسغاً من سياسة تأكل الناس باسم الوطن والسياسة والناس، ولا تبقي إلا على ذات أو ذوات متورمة تتاجر بالألم وبحياة الناس وأحلامهم وآمالهم، وتفسِد أكثر حين تفسُد أكثر.. إنها قد تربح وقد تربح الكثير الكثير.. ولكنها تخسر نفسها والوطن والإنسان وتستثمر في الوهم.. فمن يرفع نفسه فوق قومه والناس يخسر قومه والناس.

ويبدو ألا أهمية لذلك عند بعض الخلق، وإن شئت فذاك يندرج في العجب العُجاب.. فهناك نوع من الناس لا يرى العالم إلا من خلال سلطته وجيبه وسطوته ومنفعته الخاصة ورؤيته الضيقة، ويضفي على رؤيته ورأيه عالمية وإنسانية وغيرية، ويقدم نفسه على غير ما هي عليه وما تنشده، وعلى غير ما تقدمه الوقائع عنه.. ويجد من يساعده في الترويج لذلك ليمتص من أصابعه بعض الرحيق.. إنه يتكلم عن ذاته وكأنه عن آخر الرسل ويجد من يقدمه على نحو أفضل من رؤيته لنفسه.. فيكون نصيب الخلق منه الشجون ..

ولله في خلقه شؤون.

دمشق في 1/5/2009