خبر المؤتمر القومي العربي والخيار الاستراتيجي ...يوسف مكي

الساعة 09:44 ص|30 ابريل 2009

ـ الخليج 30/4/2009

باستضافة سودانية، عقد المؤتمر القومي العربي دورته العشرين، في الفترة من 16 إلى 19 إبريل/ نيسان، تحت عنوان: “المقاومة كخيار استراتيجي للأمة”. وقد جاء انعقاد المؤتمر في السودان، تحت عنوان المقاومة ليؤكد تضامن المؤتمرين مع القطر الشقيق، ووقوفهم إلى جانب صموده في مواجهة العدوان، الذي يستهدف عروبته وأمنه واستقراره.

وخلال مناقشات المؤتمر، حضرت بقوة المقاومة العربية للاحتلال في فلسطين والعراق ولبنان. وشدد المؤتمرون على إيمانهم بحق الشعوب التي تتعرض للاحتلال، في مقاومته بشتى السبل، انسجاماً مع حق الدفاع عن النفس، الذي كفلته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، بما في ذلك ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي. وجرى التأكيد على أن المقاومة هي البداية لبلورة مشروع عربي نهضوي قادر على مناهضة المشروع الاستعماري الصهيوني.

واتساقاً مع شعار المؤتمر، تمت مناقشات مستفيضة للأبعاد القانونية والاقتصادية والشعبية للمقاومة. ووجه نداء إلى جميع المنظمات والمؤسسات ذات العلاقة في فلسطين والعراق ولبنان للتنسيق ولتوحيد الجهود لتوثيق الجرائم التي اقترفتها قوات الاحتلال، وحشد ما أمكن من الأدلة لإثبات كل جريمة، والاستعانة بالخبراء في موضوع استخدام الأسلحة والوسائل المحرّمة دولياً، وذلك من أجل أن تكون مساهمة في المقاومة القانونية المطلوبة.

ثمة مشكلة بقيت مرتبكة أثناء تلك المناقشات، ولم يجر حسمها بين المؤتمرين هي علاقة إيران بالمقاومة العربية، وتناقض مواقفها من هذه المقاومات. فإيران تنسق مع الاحتلال الأمريكي في العراق، وتدعم بقوة العملية السياسية التي تم فرضها، والمؤسسة على قاعدة القسمة بين الطوائف والإثنيات. وهي من جهة أخرى، تدعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

إن هذه المواقف الإيرانية المتناقضة من موضوع الاحتلالات العربية، والموقف القومي المطلوب تجاه تناقض مواقفها، تطرح بحدة على القوميين العرب قضية تحديد سلم الأولويات في المواجهات العربية. ومن المؤكد أن لفت الانتباه إلى هذه الحقيقة لا يحمل دعوة الإساءة للعلاقات العربية  الإيرانية، بل هو دعوة للقيادة الإيرانية أن تضع في حسبانها مصالح العرب جميعاً، وعدم جواز نصرة بعضها والاستفراد ببعضها الآخر، إذا أرادت الاحتفاظ بعلاقات قوية مع الأمة العربية.

صحيح أن ليس من مصلحة الأمة العربية تفجير صراعات مع جيرانها، خاصة أولئك الذين يساندون كفاحها في فلسطين، وأن روابط الدين والجغرافيا والتاريخ، ينبغي وضعها بعين الاعتبار، وأن ليس من مصلحة الأمة تبديد طاقاتها، وهي تناضل ضد الصهاينة، وتجمع على أن فلسطين هي قضيتها المركزية. لكن ذلك ينبغي في كل الأحوال، ألا يغيب الوعي بطبيعة المشروع العدواني الصهيوني. فقدسية قضية فلسطين، التي يجمع العرب عليها، لا تنبع من الكرمة أو شجرة الزيتون الفلسطينية، بل من مخاطر المشروع الصهيوني على الأمن القومي. وقد أريد للكيان الغاصب أن يكون إسفيناً في خاصرة الأمة، يحول دون وحدتها وتقدمها. وكان على العرب أن يقاوموا هذا المشروع، حتى يسود السلام. القياس إذن، ينبغي أن يتوجه إلى خطورة المشاريع العدوانية، على الأمة العربية، وليس إلى حاضنها، أياً يكن هذا الحاضن، وبغض النظر عن الشعارات التي يرفعها.

الحقيقة الثانية، هي أن الاحتلالات الاستيطانية ليست، مما يمكن تحييدها والانتظار حتى تتوافر ظروف مواتية لمصلحة الأمة تتيح لها المطالبة بحقوقها. هناك على سبيل المثال، مناطق عربية، تضم ملايين من البشر، لم يكتف المحتل بالاستيلاء على الأرض، بل سعى إلى إلغاء هويتها العربية، من خلال تشجيع مستوطنين من المركز للهجرة إلى الأراضي المحتلة. وبالقدر الذي يتقادم فيه الاحتلال، بالقدر الذي يتمكن فيه المحتل من تدمير الهوية القومية، من خلال إغراق هذه المناطق بالمستوطنين وإضعاف مقاومة الشعب المحتل. ولن يكون بالإمكان مستقبلاً الحديث عن تحرير لتلك الأراضي بعد مسخ هويتها، والقضاء على مقاوماتها. أمام هذا الواقع تبدو الدعوة لتحديد الأولويات تجاه الاحتلالات للأرض العربية، وقصرها على الصراع مع الصهاينة، وتحرير فلسطين، حتى إن كانت بحسن نية، كأنها دعوة للتفريط في الحقوق القومية، وليست تأجيلاً للمطالبة بها.

الحقيقة الثالثة، هي أن دعوة تحديد سلم الأولويات، بطريقة طرحها، تفتقر إلى القراءة الواعية لجدل الصراع ووحدته. فالمشروع الأمريكي للقرن الواحد والعشرين، على سبيل المثال، ينبغي النظر له بشمولية. لقد اعتبر هذا المشروع وطننا العربي، مجال اختباره. وأعلن بوضوح أن هدفه هو إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة لتكون منسجمة مع استراتيجية البلقنة التي يجري تنفيذها تحت لافتة الإقرار بحقوق الأقليات الإثنية والطائفية، ومبادئ حقوق الإنسان. وكانت التصريحات المتتالية لبعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتهم الرئيس بوش ورامسفيلد وكوندوليزا رايس ورتشارد بيرل.. وبعض التقارير الصادرة عن معاهد استراتيجية ومراكز أبحاث، وصحف رئيسية كالنيويورك تايمز والواشنطن بوست قد أفصحت عن بعض تفاصيل تلك الأجندة، وأبرزت خرائط جديدة قيل إنها تشكل صياغات مقترحة للخارطة الجيوسياسية للمشرق العربي التي يجري العمل على تنفيذها. هدف هذه الأجندة هي استبدال النظام الإقليمي العربي الذي ساد منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، بآخر شرق أوسطي، يستبدل الدولة القطرية بكانتونات وفدراليات على أسس القسمة الطائفية والإثنية. ويكون النظام الشرق أوسطي الجديد، بقيادة أمريكية، سلطان القوة فيه بيد الكيان الصهيوني.

لم يعد هذا المشروع الأمريكي مجرد تنظير، بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001. فقد بدأت الإدارة الأمريكية محاولة فرضه بالقوة على أرض الواقع، بعد احتلالها لأفغانستان. وبالنسبة للمنطقة العربية، اعتبر احتلال العراق البوابة التي ينطلق منها هذا المشروع، ليهدد الأمن القومي في بقية البلدان العربية. وتتابعت محطات التنفيذ، فشملت بعد العراق، فلسطين ولبنان والسودان. وكان مشروع الاستراتيجية الكبرى الصادر عن مؤسسة (راند) الأمريكية هو الأبرز في قائمة تلك المشاريع. لكنها جميعاً تعثرت أمام ضربات المقاومين العراقيين، وصمود المقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

النتيجة التي نخلص إليها هي أن المشاريع الاستعمارية ليست موجهة نحو منطقة بعينها، ولكنها تستهدف الأمة العربية بأسرها. هكذا كان المشروع الصهيوني، ميدان المواجهة فيه أرض فلسطين، ولكنه يستهدف الأمة العربية بأسرها. وكذلك الأمر عندما يجري تهديد للأمن القومي العربي، في أحد أجنحة الأمة، فإن ذلك يستهدف في نتائجه الأمن القومي العربي بأسره. العدو لا يتعامل معنا فرادى، حتى إن بدا الاستهداف كذلك. وعلينا نحن بدورنا التعامل مع المخاطر التي تحدق بالأمة بنظرة شمولية، وألا يغيب عنا، في كل الظروف جدل الصراع، ووحدته، وترابط أدواته.

ومن هذا المنطلق، يصبح من غير المنطقي النظر إلى الفعل المقاوم في لبنان بمعزل عن مثيله في العراق وفلسطين. وبنفس المنطق، ينبغي النظر إلى الأدوات التي تضطلع بتنفيذ المشروع المعادي للأمة، وإدانتها بنفس الوتيرة. في العراق، على سبيل المثال، هناك دستور وفدرالية، كانا تعبيرين عن مشروع البلقنة والتفتيت القائم على المحاصصات الطائفية والإثنية، وبعث الهويات ما قبل التاريخية. لا يمكن النظر إلى المشروع الاستعماري في العراق بمعزل عن المحتل، وعن الأدوات والقوى البشرية التي تردفه أو تضطلع بتنفيذه، والقوى الإقليمية المساندة له، وأيضا تلك التي شرعنت للتعاطي السياسي معه.

ثم إن هناك حقيقة أخرى، لا تقل وجاهة، هي أن تآكل الأطراف، ينتج عنه تآكل في العمق الاستراتيجي للأمة. وهكذا يبدو الدفاع عن أمن الأطراف وسلامتها ووحدتها، واستقلالها، هو في النتيجة دفاع عن العمق، وتأمين له من التآكل. ذلك يعني أن مشاريع التفتيت بالوطن العربي واحدة، وإن اختلفت آليات الوصول إلى تحقيقها، وينبغي النظر لها، والتعامل معها على أنها كل لا يتجزأ، وبهذا المنطق فإن صمود المقاومة العربية في أحد الخنادق هو إيذان بصمود بقية الخنادق، وذلك هو ما يدفع بقوة نحو تبني استراتيجية قومية عملية تهدف إلى تحقيق وحدة جميع الخنادق المقاومة، على امتداد الوطن العربي، ورفض انتقائية المواقف وازدواجية المعايير.