"إسرائيل" تخسر حرب الصورة..بقلم /يقظان التقي

الساعة 03:29 م|22 مايو 2022

فلسطين اليوم

في الحضور الصدامي مع الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، ونعشها، ما زال خبر اغتيالها، وهي التي تحمل الجنسية الأميركية، في واجهة الدلائل على الأخطار التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني من جهة، وواجهة الفضائح التي تجعل صورة المحتل الاسرائيلي تضرب أثراً سيئاً غير قابل للترميم من جهة أخرى. بالكاد يفرض الإسرائيلي حضوره عالمياً وإقليمياً، حتى يصبح مداناً بالعنف الراعب الذي يمارسه مرادفاً للاحتلال. حضور صدامي موازٍ للألم الذي يُحدثه في مكان محتل كركيزة لممارسة العنف والصدام مع العالم والرقابة الأخلاقية والمحرّمات المدنية...

هو تطور أوضاع بتجاوز نظريات تقليدية حول أثر الصورة الرسالة عند الميديا ومجتمع اتصال مارشال ماكلوهان (1911-1980). كأنّ كلّ العنف تفجّر في مقتل مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، والطريقة الغريبة التي فجرت فضائح إسرائيل في التعرض لنعشها، وهي كما كتبت صحيفة ذا غارديان البريطانية "واحدة من أكثر الصحافيات في العالم العربي شهرة.

ليس فقط ضربة مفجعة وحزينة لأصدقائها والمعجبين بها، بل هي أيضاً تذكير قاتل بأنّ الحريات في الأرض المقدسة تتعرّض لهجوم". وتعرّض تعامل الجنود الإسرائيليين على الأرض مع حاملي نعش الشهيدة أبو عاقلة لمواجهة نقدية ولردود الفعل الدولية التي تستنكر اعتداء الشرطة الإسرائيلية بالضرب على مشيّعي جنازة. وقد دفع تسلسل الأحداث البيت الأبيض مرتين على التوالي للتنديد بالسلوك الإسرائيلي الغرائزي: "إنّ صور الشرطة الإسرائيلية وهي تهاجم فلسطينيين يحملون نعش شيرين أبو عاقلة مقلقة جداً، ولا يمكنهم تبرير هذه الأفعال".

كذلك أعرب الاتحاد الأوروبي عن شعوره بالصدمة، لاستخدام "القوة غير المبرّرة" في وجه المشيعين. بدا الأمر كأنّ إسرائيل ترسم لوحة مجتمع مدني من كلّ بقايا الغرائز التي تستبطنها. تعيدها إلى طقوس الارتكابات الوثنية. حضور العنف غير المتساوي مع حمَلة النعش، رأى فيه العالم ممارسة أشكالٍ من البربرية لا تحتاج تحليلات. أداة تعبير عن غرائز قتل لطبقات من المجتمع الإسرائيلي غارق في استهلاك عنفي مفرط.

عنف لا يقارن مع أي إطار تعبيري آخر، كاذب، مختلق، مزيف، حتى مع ما يصنعه العنف المفبرك في السينما من السينمائيين، وعلى نحو أكثر صدامية وعدوانية... كأنّ كلّ العنف يتمثل في هذا التسلّط الذي يحمل العسكري على إطلاق النار على إعلامية... على جسدها، الذي يعود ليواجه أقاصي الأخطار والرعب ما بعد الرصاص! بهذا المحتوى اللاإنساني، شغل الحدث بصائر العالم ومسامعه، ونقلت التلفزيونات وشبكات التواصل الاجتماعي ما حدث باستخداماتٍ وإشباعات غير مسبوقة.

أي تأطير لما حدث بوصفه حرباً مع الفلسطينيين غير مفيد، فهذا الإطار أيضاً لا يصمد ولا يسعه احتواء ردود الفعل وتضميناتها الغزيرة في إدانة العنف المتصاعد الإسرائيلي، حدث غير معزول عن كل ما ترتكبه إسرائيل. يتكرّر الأمر على نحو منهجية موحّدة مرتبطة بتجربة الاحتلال وبتاريخ طويل من القمع عقوداً طويلة. كلّ التفسيرات للحدث تقود إسرائيل إلى نقاشات غاضبة مع العالم، إضافة إلى أنّ إسرائيل لا يُخضعها أحد للمحاسبة القانونية الدولية. وكان الاتحاد الدولي للصحافيين قد قدّم، قبل مقتل شيرين، دعاوى للمحكمة الجنائية الدولية بأنّ "استهداف إسرائيل للصحافة قد يوصَف بأنّه من جرائم حرب".

وذكّر بقصف إسرائيل مبنى يضم وسائل إعلام في غزة في مايو/ أيار العام الماضي 2021، وقال إنّ تجاهل القانون الدولي في إسرائيل "مصدر قلق". ثم إنّ "إسرائيل تزعم أنّها ديمقراطية"، ما يفترض أن يكون الصحافيون قادرين على تغطية الاحتجاجات ضدّ الاحتلال، وتوثيق أعمال الجيش الإسرائيلي من دون المخاطرة بحياتهم. هناك مصدر إجماع قلق من أن يكون الرد الإسرائيلي ليس مبالغاً فيه فقط، بل غير ذكي كفاية في التعامل مع الأحداث، ونوع من التصعيد الخطر. ليس هناك تقسيم سهل للحقيقة في أنّ رؤى إسرائيل متصارعة مع رؤى العالم، وعلى اختلافاتٍ جذريةٍ في القيم التي تقوم عليها العلاقات الدولية... ما عاد في وسع إسرائيل الاختباء خلف صورة القوة، التي تصبح أكثر وأكثر متذبذبة وهالكة. مجرّد انتقام من الفلسطينيين على أرضهم. هذا يفسّر الانتباه الأميركي إلى خطورة ما يجري وتعديل تصريحاته تجاه شعب فلسطيني، والانتقال من عدم الرضى والدعوة إلى ضبط النفس إلى الإدانة المتكرّرة.

هذا يتعلق بالنظرات المتحوّلة لدى إدارة بايدن الديمقراطية، والتي تحاول أن تؤطّر مواضيع وصراعات كانت موجودة منذ سنوات، لكنها أخذت بعداً جديداً مع الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تعتبرها مع الغرب حرباً على الديمقراطية نفسها.

لا تعي إسرائيل تلك التحوّلات التي تجرى بوتائر متسارعة، وتقارب ما يجري من احتجاجاتٍ فلسطينيةٍ بلغة الحرب نفسها، وأكثر بلغة الجريمة، بما يبدو دافعاً غرائزياً لها كردّ فعل على مقاومة الشعب الفلسطيني الأسطورية، وسط إهمال القوانين الدولية لارتكاباتها الجنائية والعنصرية. قد ينبغي التساؤل عما إذا كان التركيز الإسرائيلي على ممارسة إرهاب الدولة العسكرية على الأرض ويومياً، يهدف إلى صرف النظر عن فشل حكومة نفتالي بينت، فتمارس العنف ضد المدنيين الفلسطينيين لأغراض سياسية، ما يفسّر الارتفاع في حدّة العنف، فتعود كاميرات مراقبة على جنود روس، وهم يقتلون مدنيين أوكرانيين، باعتبارها جريمة حرب مشتبه فيها.

وبعد أيام من كشف مجزرة حي التضامن في دمشق، والتي تدين النظام السوري، وتذكّر بأحداث متشابهة، تعود الكاميرات إلى الجريمة الكارثة، إذ اعتدت قوة إسرائيلية على مئات المشاركين في الجنازة بالعصي والغاز المسيّل للدموع. وكاد نعش الصحافية الشهيدة يسقط من حامليه، جرّاء محاولة الجنود الإسرائيليين تفريق المشاركين في الجنازة.

كأن إسرائيل تريد أن تفرض على الفلسطينيين "نظرية دوامة الصمت، نظرية الباحثة الألمانية إليزابيت نويل - نيومان 1974"، وهي تدرك قوة وسائل الإعلام في تكوين الرأي العام، وتحاصر الجريمة في مكانها. ما عادت إسرائيل تهيمن على بيئة المعلومات المتاحة بقوة أمام الفلسطينيين، فيصعب الهروب من الصورة ورسائلها في الوقت الفوري المتاح.

إنّه الدرس المفترض أن تستخلصه إسرائيل خوفاً من العزلة الدولية التي أوقعت نفسها بها. صورة التعاطف الشامل مع القضية، والاحترام الكامل لشيرين أبو عاقلة التي حملت كل جراحات المهنة، لتعبر عن قضية شعبها عبر محطتها الإعلامية "الجزيرة"، فربحت حرب الصورة على إسرائيل، ما يعدّ مؤشراً حقيقياً على ضعف الدولة القوية إزاء صحافيةٍ مهنيةٍ مخلصة كلياً لخدمة ناسها، وأرضٍ لا تريد أن تخضع. أرض صارت تنتج الآخر بكل تلك المشاعر الحديثة. شهادة شيرين أبو عاقلة بالتأكيد هي ثمرة خياراتها.

صورة أقوى من الموت. ولكن هل كان من الحيوي لتلك الشهادة أن تقنع العالم بأن التزام قيم الحرية والديمقراطية وإرادة الشعب الفلسطيني والحق في تقرير مصيره هو ما يتعرّض للهجوم والاعتداء مباشرة، ومعه نمط العيش العالمي على مستوى حقوق الإنسان والمستوى الأخلاقي؟ يدرك العالم أكثر أن إسرائيل تذهب إلى حرب دولة إرهاب ليس بمقدورها العودة منها، وأنّ الشعب الفلسطيني الغاضب لن يتخلى عن هدف استعادة وطن يشبه شيرين والحزن والبكاء اللذين أحاطا بها.

ومن المثير للشفقة أن يتجاوز العالم تلك الصورة التي وصلت إليه، وعدم استغلالها فرصةً لمحاولة فهم ما يحدث في القدس، ما يقود المجتمع الإنساني المفتوح إلى عالم أفضل. وعلى منوال أوغست كونت (1798-1857)، علينا اعتبار أنّ "التقليص الذي لا يمكن تفاديه هو الحرية" مثله مثل "النتيجة الضرورية للتعايش الإنساني" الذي يتعرّض لممارسات عنفية إرادوية، ودائماً ما يحاول الإسرائيليون المسّ بالنار.

 

كلمات دلالية