خبر في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني ..الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة

الساعة 07:13 م|17 ابريل 2009

 

معالجات إسلاميـة

p    في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني  i

                                                                بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة

 وزير الأوقــاف والشئون الدينية السابق

 

 الحمد  لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على
 سيدنا محمد  – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد 

يوافق اليوم الجمعة السابع عشر من  شهر أبريل ( نيسان ) يوم الأسير الفلسطيني،  ويأتي  يوم الأسير  في هذا العام ، وقد أمعن الاحتلال بإجراءاته القمعية وممارساته القاسية والبالغة الصعوبة بحق أبطالنا الأسرى ، حيث وضع  العديد منهم في العزل الانفرادي ، وتمر الذكرى وأحد عشر ألف أسير فلسطيني يقبعون خلف القضبان لا ذنب لهم سوى حبهم لوطنهم ومقدساتهم ودفاعهم عن أرضهم وعقيدتهم ، منهم أربعمائة طفل ،  وأكثر من سبعين من الأخوات الفضليات ، وأكثر من أربعين نائباً منتخباً من  نواب الشعب الفلسطيني ، كما يوجد أكثر من ألف وستمائة أسير يعانون من أمراض مختلفة، وبعضهم حالته حرجة، حيث يعانون من سوء المعاملة والإهمال الطبي المتعمد ، كما استشهد في العام الماضي عدد من الأسرى  نتيجة هذا الإهمال ، أو جراء الاعتداءات الإسرائيلية عليهم .

إن الإجراءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي  للتضييق على أسرانا البواسل، مخالفة لكل الديانات السماوية والأعراف والقوانين الدولية وحقوق الإنسان ،فها هم يقلّصون عدد الكتب المسموح بها لكل أسير من ثمانية كتب إلى كتاب واحد ، لأنهم يخشون من تعلم الأسرى وتثقفهم ، كما ويمنعون عنهم بعض القنوات الدينية والإخبارية لعزلهم عن محيطهم الفلسطيني والعربي والدولي  .

إن الشعب الفلسطيني الذي قدم على مدار سنوات الاحتلال منذ عام 1967 وحتى الآن أكثر من ثمانمائة ألف أسير مطالب اليوم بتفعيل قضية الأسرى البواسل عبر التضامن معهم،  ومع أسرهم الصابرة.

ونحن نتحدث عن أسرانا البواسل فإننا لم ولن ننسى أسرانا الأبطال من أشقائنا العرب الذين شاركونا رحلة الجهاد والنضال الطويلة ، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر نسائم الحرية ومع ذلك لم تتغير مواقفهم، فلهم منا كل الشكر والتقدير والعرفان ، وهم في قلوبنا ، وسيبقون كذلك صفحة ناصعة مشرقة في تاريخنا الفلسطيني إن شاء الله .

 وبهذه المناسبة فإننا نشد على أيدي الأخوة القائمين على إذاعة صوت الأسرى الفتية
المنبثقة عن إذاعة القدس، والتي انطلقت  في هذه الأيام لتكون صوتاً للأسرى، وحلقة تواصل بينهم وبين ذويهم، فجزاهم الله خير الجزاء على هذا العمل البطولي .

إن هذه الشريحة العزيزة على قلوبنا قد ضحت بالغالي والنفيس في سبيل حرية وطننا الغالي فلسطين، وتمسكوا بثوابتهم ومبادئهم، وكان الكثير منهم قادراً على الخروج من السجن لو تنازل عن ثوابته ، فهؤلاء هم الأبطال الغر الميامين، يذكرني أسرانا البواسل وحبهم لوطنهم ، وإخلاصهم لقضيتهم بموقف الصحابي الجليل زيد بن الدثنة – رضي الله عنه- ، فقد سئل أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه- كيف كان حبكم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال : (والله إن رسول الله كان أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وفلذات أكبادنا، وكان أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ)، وانتشر هذا الحب بين صفوف المؤمنين وأصبح ديدنهم والعلامة الدالة عليهم، والصفة البارزة فيهم حتى شهد بذلك الحب زعيم مكة حينذاك أبو سفيان بن حرب،- والفضل ما شهدت به الأعداء- ،وقال كلمته المشهورة : ( والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد) متى قالها ومتى نطق بها ؟! حينما جيء بزيد بن الدثنة أسيراً ليقتل ، فقال له أبو سفيان: أناشدك الله يا زيد أتحب أن تعود معافى لأهلك وولدك، وأن يؤتى بمحمد هنا في مكانك ليقتل، فغضب زيد أشد الغضب وقال : (والله ما أحب أن أرجع سالماً لأهلي وأن يشاك محمد بشوكة في أصبعه) .

لقد حرص الإسلام على الإحسان إلى الأسرى فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } (1) ، ( قال ابن عباس : كان أسراهم يومئذ مشركين ، ويشهد لهذا أن رسول
 الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم
 عند  الغداء ) ( 2) ، (قال مجاهد : هو المحبوس ، أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال { إنما نطعمكم لوجه الله} أي رجاء ثواب الله ورضاه { لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً }(3 ) ، كما ووضع الإسلام تشريعات للأسرى، حيث وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تحثُّ على معاملة الأسرى معاملة حسنة كما في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (4 )، فإذا كان المولى سبحانه يَعِدُ الأسرى الذين في قلوبهم خيرٌ بالعفو والمغفرة، فإنَّ المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانيَّة.

لقد قرَّر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكَمِّيَّة لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكنًا، استجابة لقول الله تعالى في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} ، كما وأوصى النبي – صلى الله عليه
 وسلم -  أصحابه بحُسن معاملة الأسرى فقال – صلى الله عليه وسلم - :  ( اسْتَوْصُوا بِالأَسْرَى خَيْرًا )(5)، كما ونهى النبي – صلى الله عليه وسلم -  عن تعذيب وامتهان الأسرى، فقد رأى  – صلى الله عليه وسلم - أسرى يهود بني قُرَيْظة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، فقال مخاطِبًا المسلمين المكلَّفين بحراستهم: {لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السّلاَحِ، وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا }(6).

وامتثل الصحابة – رضي الله عنهم -  لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -  فكانوا يحسنون إلى

أسراهم، ، فيقول أبو عزيز بن عمير وكان في أسرى بدر: ( كُنْتُ مَعَ رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ قَفَلُوا، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا طَعَامًا خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ؛ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -  إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ إلاَّ نَفَحَنِي بِهَا؛ قَالَ: فَأَسْتَحِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا) (7) .

لماذا لا تنتقم من أعدائك يا صلاح الدين ؟!

بينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرق مدينة بيت المقدس قابله شيخ من النصارى كبير السن، يعلِّق صليبًا ذهبيًّا في رقبته، وقال له: أيها القائد العظيم، لقد كُتِبَ لك النصرُ على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزَوْا بيت المقدس؟ فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ، يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويُحَرِّم عليَّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء. فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمَّن أذنب. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم، وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحقِّ. ثم سأل: وماذا يفعل مَن يُريد الدخول في دينكم؟ فأجابه صلاح الدين: يُؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه. وأسلم الرجل وحَسُن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه،  هذا الموقف من القائد صلاح الدين الأيوبي ليس جديداً فقد تعلم  ذلك من رسوله ونبيه محمد-صلى الله عليه وسلم – الذي خاطب أهل مكة بعد فتحها ، وهم الذين طردوه وأصحابه ، وعذبوهم ، وأخذوا أموالهم، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – ما تظنون أني فاعل بكم قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال – صلى الله عليه وسلم – قولته المشهورة : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء، هذا هو رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم- لم يقتل ، ولم يعتقل ، ولم ينف ، لم يهدم بيتاً ، لم يصادر أرضاً ، لم يقطع طريقاً ، لم يمنع ماء ، كما تفعل سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد شعبنا الفلسطيني المرابط وأبنائه الأبطال من الأسرى والمعتقلين .

الأسرى والوحدة

لقد ضرب أسرانا البواسل أروع الأمثلة في حبهم لوطنهم وعقيدتهم رغم القيد وظلم السجان، فهم يعيشون آلام وآمال شعبهم، حيث جسدوا حقيقة الشعب الفلسطيني بوحدتهم داخل السجون،  واتفاقهم على وثيقة الأسرى للوحدة ،  لذلك نقول لأبناء شعبنا الفلسطيني وقادة الفصائل الأكارم : إن خير تكريم للأسرى هو تلبية نداءاتهم، والاستجابة لاستغاثاتهم، بضرورة الوحدة وتنفيذ وثيقتهم التي تم الاتفاق عليها .

وأقول لأسرانا البواسل : نحن في انتظار حريتكم إن شاء الله ، لتساهموا في بناء هذا الوطن الغالي ، كما ساهمتم في الذود عنه ، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر ، وإن الفجر آت بإذن الله ، ويسألونك متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريباً .

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

 

الهوامش :

 1- سورة الإنسان الآية (8)         

2 +3- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/585    

 4-  سورة الأنفال الآية ( 70)

5- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والصغير       

6- أخرجه الشيباني  في السير الكبير 2/591       

   7- البداية والنهاية لابن كثير 3/307