خبر تعثر المصالحات يكشف عمق الازمة العربية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 09:38 ص|16 ابريل 2009

ـ القدس العربي 16/4/2009

منذ فاجأ الملك عبدالله بن عبد العزيز في قمة الكويت العرب بالدعوة إلى مصالحة شاملة، عاش المناخ العربي السياسي أجواء مصالحة متعددة الأبعاد. لقاءات سورية ـ سعودية على أعلى المستويات، ثم لقاء مصري ـ سعودي ـ سوري على مستوى القادة، وحوار فلسطيني ـ فلسطيني برعاية مصرية، لا تكاد تنتهي إحدى جولاته حتى تبدأ الأخرى، ثم قمة عربية في الدوحة، تشهد حلقة مصالحة أخرى بين الملك عبدالله والرئيس الليبي. مثلت أسابيع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ذروة الانقسام العربي ـ العربي والفلسطيني ـ الفلسطيني، وأكثر حلقاته مرارة، عندما اتهم العرب والفلسطينيون بعضهم البعض بالتواطؤ مع العدوان أو المغامرة غير المحسوبة. ولذا، فما إن أطلقت الدعوة للمصالحة، وبدأت اللقاءات في التوالي، حتى ساد الأجواء العربية مناخ من التفاؤل والشعور بانقشاع الغيوم التي أثقلت السياسة العربية منذ غزو العراق واحتلاله. ولكن الواضح الآن أن هذا التفاؤل كان متسرعاً، وأن الخلافات العربية الداخلية كانت أعمق بكثير مما ظن حتى القادة العرب أنفسهم.

لأن العرب أمة واحدة، ولأن الزعماء العرب نظروا إلى أنفسهم دائماً كأشقاء، ولأن الانقسامات داخل الأسرة الواحدة هي أكثر الانقسامات مرارة، فقد ساد اعتقاد (صوفي أحياناً) بأن الخلافات العربية الداخلية هي في جلها ذات طابع شخصي. وحتى إن لم تكن كذلك، ظن البعض، فإن اللقاءات الشخصية المباشرة بين الزعماء ستكون كافية لكسر الجليد، ومن ثم إعادة المياه إلى مجاريها. لا يمكن أن يغفل أحد بالطبع البعد الشخصي في العلاقات العربية البينية، التي افتقدت طويلاً للمرجعية العقلانية والحسابات البراغماتية. ولكن الحقيقة أن ما يثقل عاتق النظام العربي السياسي خلال هذه المرحلة هو أبعد بكثير من الكيمياء الشخصية، ويمس جوهر رؤية الأنظمة العربية الرئيسية والفاعلة لدورها وموقعها ومصالحها. ثمة افتراق كبير في أمزجة وأعمار وثقافات الحكام العرب، وليس من الصعب رؤية الاختلاف بين نمط تفكير هذا الحاكم وذاك، ولكن مشكلة النظام العربي أبعد من اعتبارات الأجيال وأنماط النظر والحساسيات الشخصية. وبالرغم من أن الانقسامات العربية خلال السنوات القليلة الماضية لم تولد قدراً كبيراً من الهجمات الإعلامية المتبادلة، كما كان عليه الأمر في ما عرف بحقبة الحرب العربية الباردة بين نهاية الخمسينات ومنتصف الستينات، وأن القادة العرب استمروا في اللقاء في القمم السنوية أو الزيارات الثنائية المتقطعة، فإن الأزمة العربية الحالية أكبر وأعقد من حقبة الحرب العربية الباردة ومن مرحلة ما بعد مشكلة الكويت وحرب الخليج الأولى.

ثمة عدد من العوامل التي تجعل الأزمة الحالية أكثر استعصاء. أولها، أن الدولة العربية القطرية، دولة التجزئة كما توصف في الأدبيات القومية العربية، قد تجذرت إلى الحد الذي فرضت فيه مصالحها باعتبارها ذات أولوية مطلقة. ولأن قاعدة هذه الدولة ضاقت إلى حد كبير، وزاوية نظرها للأمور تقلصت، فإن مصالح هذه الدولة لم تعد تصطدم بالمصالح العربية الجمعية وحسب، بل وحتى بمصالح القطر العربي الذي تمثله هذه الدولة أيضاً. مشكلة الدولة القطرية لا تتعلق فقط بغياب القيادات ذات الرؤية القومية، من أمثال عبد الناصر وبومدين، ولكن أيضاً في أن الطبقات الحاكمة في أغلب الدول العربية باتت تمثل مصالح فئات صغيرة من النخب المالية والاقتصادية أو البيروقراطية المدنية والعسكرية. كيف يمكن، مثلاً، النظر إلى تواطؤ عدد من الدول العربية مع الغزو الامريكي للعراق، أو مع الحصار الإسرائيلي للضفة والقطاع، بدون رؤية النهج السياسي خلف هذه المواقف، وتقديم منطق الحسابات الضيقة لكل دولة عربية على حدة على المنطق البسيط لما يعنيه المشترك العربي.

الثاني، ان النظام العربي نفسه قد افترق خلال العقود القليلة الماضية عن أولوياته الرئيسية. لم تكن هناك دول ذات هوية عربية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وبتبلور الهوية العربية للدول الوليدة من الانهيار العثماني، نما بالتدريج تصور لإطار سياسي يجمع هذه الدول، سواء بوحدة إقليمية أو ثنائية. ولكن هم الوحدة رافقه من البداية هم القضية الفلسطينية وهم الاستقلال، ولم يكن صعباً أن يكتشف العرب سريعاً الارتباط الوثيق بين الهموم الثلاثة، واستحالة التعامل مع أي من الهموم الثلاثة بدون التعامل مع الهموم الرئيسية الأخرى.

خلال عقود قليلة من بروز الدولة القطرية، تخلصت الدول العربية من السيطرة الاستعمارية المباشرة، ووجدت تلبية ولو جزئية للهوية القومية في مؤسسة الجامعة العربية، وحاول بعض هذه الدول جهدها مواجهة الخطر الذي تمثله الدولة العبرية، بغض النظر عن الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الأداء العربي في هذه المجالات. ولكن الدول العربية، وبالرغم من انفجارات الوعي السريعة بين وقت وآخر، لم تعد تنظر إلى أولويات النظام العربي الجمعي كما كانت تنظر في حقبة ما بين الحربين وفي الخمسينات والستينات. بعد سنوات من الاستقلال الوطني، لم تعد الدولة القطرية تنظر بحرج كبير إلى وجود القواعد ومراكز التسهيلات العسكرية الأجنبية في أنحاء العالم العربي، أو إلى عودة الاحتلال الأجنبي المباشر لهذه الدولة أو تلك. وبالرغم من الحسابات البراغماتية البحتة التي تشير إلى ضرورة تحقيق قدر من التوافق السياسي والترابط الاقتصادي والتبادل التعليمي بين العرب، فإن هدف الوحدة لم يعد بذات الإلحاح الذي كان عليه من قبل. وفي مواجهة المسألة الفلسطينية، تجلت أكثر مظاهر افتراق الدولة القطرية عن الأولويات العربية التقليدية، بعد أن وقع عدد من الدول العربية اتفاقات سلام ثقيلة الوطأة ومقيدة للقرار الوطني مع الدولة العبرية، وعلى رأسها مصر، أكبر الدول العربية وأهمها.

أما العامل الثالث فيتعلق بانهيار المشروع الوطني لأغلب الدول العربية القطرية، وبانهيار المشروع الوطني، ساد العلاقات العربية شعور من العجز والخوف والتنافس الانقسامي الحاد. بغض النظر عن جدية ومصداقية أداء الدول العربية في مطلع حقبة ما بعد الاستقلال، فقد تبنت هذه الدول مشاريع وطنية طموحه، أطلقت نوازع النهوض في المجتمعات العربية، ودفعت هذه المجتمعات إلى تلمس ما يمكن أن يعزز من قوى النهضة، بما في ذلك توكيد المشترك والعلاقات وآفاق التعاون العربية. بوقوع مؤسسات الحكم العربية في أيدي النخب الاقتصادية والبيروقراطية الجديدة، تراجع المشروع الوطني ليحل محله مشروع النخبة الحاكمة، سعيها الحثيث للسيطرة على مقاليد الحكم ومصادر الثروة، وتعظيم مصالحها الخاصة، بغض النظر عن المصلحة الوطنية. تآكلت القاعدة الصناعية التي بنيت بتضحيات كبرى وفي إطار مشروع النهوض الوطني لصالح الوكالات الأجنبية واقتصاد السياحة والخدمات، أو الاقتصاد الريعي، تقوضت مؤسسات التعليم الوطني لصالح التعليم الخاص والجامعات الأجنبية الربحية، وتحولت فكرة العدل الاجتماعي، القضاء على الفقر، وتقليص الفوارق بين الطبقات، إلى التضحية بالمجتمع لصالح قوى السوق وسيطرتها القاطعة. ولأن غياب المشروع الوطني يعني تجاهل القوى الحاكمة لضرورة بناء رأس المال السياسي الضروري للحفاظ على الموقع والدور والنفوذ في المجالين العربي والعالمي، فرغ خطاب الدور والموقع للدولة القطرية من محتواه.

كيف يمكن لدولة عربية ما أن تدعي الدور والنفوذ وهي تعجز عن توفير متطلبات الدور والموقع والنفوذ؟ ولأن الدولة القطرية تعي حقيقة تراجع دورها ونفوذها، فقد سيطر عليها الخوف والعصبية من كل ما تراه، وهماً أو حقيقة، مساً بهذا الدور والنفوذ، سواء جاء من دولة أو قوة عربية اخرى. ولذا، فقد سيطر الخوف والعصبية المتبادلة على المناخ العربي في مجمله، ليس بين سورية ومصر والسعودية وحسب، ولكن أيضاً على علاقات دول المغرب ببعضها البعض، وليس على علاقات الدول البينية وحسب، ولكن أيضاً على العلاقات بين الدول والقوى السياسية داخل الدولة نفسها وخارجها.

هذه، باختصار، أزمة عميقة، تعصف بالنظام العربي الرسمي كله، ببنيته وبطبيعة دوله، بسياسات هذه الدول، وبعلاقاتها ببعضها البعض. وكل من يعتقد أن ثمة مخرجاً سهلاً لإعادة بناء هذا النظام هو واهم بالتأكيد. وحتى إن وجد مثل هذا المخرج، فمن الصعب تصور عودة الصحة للنظام العربي لفترة طويلة، ولا يمكن استبعاد وقوع انتكاسة بالغة عند مواجهة أية عثرة جديدة. هناك خلافات عربية، مثل الخلاف الليبي ـ السعودي، يصعب وصفه بالخلاف الجاد. ولكن الخلافات السورية ـ السعودية والسورية ـ المصرية هي خلافات مركبة ومتعددة الأبعاد، بدأت بالتباين حول غزو العراق واتسعت لتطال سلسلة طويلة من الملفات، من لبنان وفلسطين وقوى المقاومة إلى الموقف من إيران والعملية السلمية. هذه خلافات سياسية ـ فعلية وملموسة، تتعلق بمصير بلدان وشعوب، بمستقبل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وما إن كان سيبقى ثمة من صراع على فلسطين، وباستراتيجية إدارة هذا الصراع، كما تتعلق بكيفية تعامل العرب مع أنفسهم ومع العالم من حولهم، وما إن كانت هذه المنطقة من العالم ستبقى ساحة للصراعات والحروب. وربما يمكن قول الشيء نفسه عن الخلافات المغربية ـ الجزائرية، وعن أزمة علاقة النظام العراقي الحالي مع عدد من الدول العربية. ليس المقصود بهذا التوصيف ترجيح كفة جانب ما، وإدانة الآخر، ولكن المقصود ملاحظة الصعوبة والتعقيد المتزايد الذي يحيط بأزمة العلاقات العربية في طورها الحالي. الخشية أن يكون النظام العربي، مهما كان المقصود بهذا النظام، قد وصل نهاية الطريق، وأن يكون هدف إصلاح وتعزيز النظام العربي بات مشروطاً بتغيير جذري في بنية كل نظام حكم عربي على حدة، أو على الأقل أغلب أنظمة الحكم. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً، فربما ينبغي التوقف عن انتظار إصلاح النظام العربي، وعن وضع هذا النظام في حسابات القوة وموازينها.