خبر حرب غزة والتدخل التركي

الساعة 08:57 ص|15 ابريل 2009

بولنت آراس وسيلين بولم ـ مركز الجزيرة للدراسات 13/4/2009

ترجمة النص الأصلي: شيرين فهمي

شنت إسرائيل هجوما مُدمرا على غزة في السابع والعشرين من ديسمبر 2008، مما أدى إلى نسف طموحات السلام في الشرق الأوسط، وكان رد فعل تركيا على الهجوم سريعاً، ووجهت انتقادا شديدا لإسرائيل.

وهو أمر ليس مستغربا، فالقضية الفلسطينية تحتل مركزاً محورياً في تركيا، سواءً على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي، فقد قام رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" بزيارات عديدة إلى مصر والأردن والسعودية وسوريا، ساعياً خلف وقفٍ سريع لإطلاق النار، كما خرج آلاف الأتراك إلى الشوارع في أجزاء مختلفة من البلاد احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على غزة.

وتمثل الدبلوماسية النشطة التي أبدتها تركيا أثناء حرب غزة إشارة على تحول في رؤى السياسة الخارجية التركية، ودلالة على ثقتها في قدرتها على دعم علاقاتها بالقوى الإقليمية.

ومن ثم، يمكن القول إن أنقرة لديها فرصة كبيرة لإيجاد حلٍ عادل ومستديم للقضية الفلسطينية، إذا ما أحسنت قراءة توازن القوى في المنطقة.

التدخل التركي أثناء الحرب

وقد عكس رد فعل "أردوغان" تجاه إسرائيل، ووقفه للمحادثات، ورفع مُعدل أنشطته وجهوده الدبلوماسية في الشرق الأوسط مدى تغلغل التدخل التركي في القضية الفلسطينية.

وقد سبق لأردوغان نقد ممارساتٍ هجوميةٍ إسرائيليةٍ سابقةٍ على الأراضي المحتلة، إلا أن هذه المرة تميزت عما سبقها بوصف أردوغان الاعتداء الإسرائيلي على غزة بأنه "سلوكاً غير محترم تجاه تركيا"؛ إذ بدأ العدوان بعد أربعة أيامٍ فقط من زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" لأنقرة.

فبعد أن كان "أولمرت" مؤملاً –من زيارته تلك– في الشروع بمحادثاتٍ إسرائيليةٍ سوريةٍ غير مباشرة، بوساطةٍ تركيةٍ، جاء العدوان الإسرائيلي على غزة مًستفزاً "أردوغان" الذي سارع فوراً بوقف تلك المحادثات، والتوجه إلى الأردن وسوريا ومصر والسعودية لإيجاد حلٍ للوضع المتأزم في القطاع، كما تحدث أيضاً إلى رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس".

ومن الواضح أن صانعي السياسة الخارجية التركية أبدو على مدى الأعوام القليلة الماضية إرادةً سياسيةً جديدةً في تبني منهج التسويات السلمية بدول الجوار الإقليمي. وذلك باستضافة تركيا قادة الشرق الأوسط وأوروآسيا وإفريقيا؛ إضافة إلى مستوياتٍ رفيعة من السياسيين والمسئولين القادمين من الدول الغربية، في سعي تركي إلى توفير الأرضية المناسبة لحل الصراعات العالقة بمناطق جغرافية مختلفة بالجوار الإقليمي.

ويعكف صانعو السياسة التركية على إيجاد ديناميكيات إقليمية ممهدة لصنع السلام وخلق وعي جديد له في بقعةٍ جغرافيةٍ فسيحةٍ، تمتد ما بين الشرق الأوسط إلى أعتاب أوروآسيا.

ومن ثم، فإن تدخل تركيا في القضية الفلسطينية يمثل جزءاً أساسياً من رؤية تركية موسعة للسلام؛ إضافةَ إلى أبعاد الخلفية التاريخية الثقافية الثرية، وحساسية المجتمع التركي تجاه القضية.

العلاقات التركية الإسرائيلية

لا يمكن تحليل العلاقات التركية الإسرائيلية في ظل حدود الأزمة الشرق أوسطية فقط، فقد وصلت تلك العلاقات إلى أوجها في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد عدة اتفاقيات عسكرية واقتصادية ما زال بعضها قائما حتى هذه اللحظة.

ومن أسباب استمرار تلك العلاقات:

ـ حاجة تركيا إلى مثل هذه الاتفاقيات العسكرية، بمعنى آخر، إن تركيا مُجبرة على تحصيل التكنولوجيا العسكرية من إسرائيل، خاصةً في ظل امتناع الولايات المتحدة عن بيع السلاح إلى تركيا، أو فرضها لجمارك مرتفعة.

ـ والسياسة الإسرائيلية تعد عاملا مهما في احتفاظ تركيا باتفاقيتها العسكرية مع إسرائيل، حيث أن تلك السياسةلا تُعير اهتماما لاستخدام تركيا السلاح ضد منظمات "حزب العمال الكردستاني"، ومن ثم لا تمانع في بيع السلاح لتركيا، على عكس الكونغرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي.

ـ ويشكل اللوبي اليهودي بالولايات المتحدة بعدا آخر في العلاقات التركية-الإسرائيلية، وذلك بتأييده للموقف التركي المناهض لقانون "الإبادة الأرمينية"، الصادر عن الكونغرس الأمريكي، وهو القانون الذي أيدته بيانات "باراك أوباما" في أثناء حملاته الانتخابية الرئاسية، حيث أكد على اعترافه بالحقوق التي يتزعمها الأرمن.

 

وقد شكل تولي "أوباما" الرئاسة مصدر قلق لتركيا، التي أوضحت لفريق السياسة الخارجية الأمريكية مدى الضرر الذي سيلحق بالعلاقات الأمريكية التركية إذا ما أصرت الإدارة الأمريكية الجديدة على مواصلة تطبيقها لقانون "الإبادة الجماعية". وعلى الرغم من هذا التحذير التركي، فإنه من المُستبعد أن يمر الموقف التركي حيال اللوبي الأرميني دون تحديات أو صعوبات. وفي مثل هذا الإطار، سيكون تحول موقف اللوبي اليهودي ذا تأثير مباشر على القرار الأمريكي.

السياسة التركية بعد الحرب

استمرت المساعي الدبلوماسية التركية بعد إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار أُحادي الجانب. فبينما كان "داوود أوغلو" ساعياً نحو دبلوماسيةً جادة بين دمشق والقاهرة، كان بيروقراطيو الوزارة الخارجية التركية يتحدثون إلى نظرائهم الإسرائيليين في القدس.

لقد لعب الدبلوماسيون الأتراك دوراً محورياً في إقناع "حماس" بإعلان وقف إطلاق النار. ومن الأفضل أن تستمر المحاولات التركية تحت مظلة الأمم المتحدة لتحقيق إثارة دولية أكبر للقضية، وستسعى تركيا أيضاً لإيجاد الفرص المناسبة للتحدث مع الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية.

تأثير دافوس

أسفر موقف تركيا الحساس ضد الاعتداءات الإسرائيلية على غزة عن وقوع أزمةٍ بالمنتدى الاقتصادي العالمي بـ"دافوس" أثناء مناقشة العدوان الإسرائيلي على غزة.

ففي 29 يناير 2009، رد "أردوغان" على دفاع "بيريز" عن العدوان الإسرائيلي على غزة قائلاً "ربما تشعر يا بيريز بالذنب، مما يجعلك ترفع صوتك. أنت تقتل الناس. أنا أتذكر الأطفال الذين قتلتهم على الشواطئ".

وبينما "أردوغان" يرد على "بيريز"، إذا بالمحاور يحاول قطع كلامه، الأمر الذي ألجأ "أردوغان" إلى مغادرة القاعة غاضباً.

ولعل تلك الغضبة هي التي أنزلت آلاف الأتراك إلى شوارع إسطنبول، لتُحيي بطلها "أردوغان" بالأعلام التركية والفلسطينية، صائحةً بأعلى صوتها "تركيا كلها معك".

أدى موقف "أردوغان" في "دافوس" إلى تعاطفٍ مهول من جانب الشعوب العربية والمسلمة. ففي شوارع غزة ودمشق، في الشوارع العربية كلها، تجمعت الجماهير لتعلن تأييدها لذلك الموقف الجسور، مُعلقةً صوره في كل مكان.

وعلى عكس المواطنين والمثقفين العرب، لم يبد القادة العرب أية مشاعر مؤيدة لما فعله رئيس الوزراء التركي؛ وهو ما علق عليه "إبراهيم كاليم" قائلاً "إن العرب أكثر من يهتم بما يحدث في تركيا. ولكن كما تظنون، فإن هؤلاء العرب لا ينتمون إلى النخب العربية، وإنما للشوارع العربية. ليس سراً أن تكون الأنظمة العربية غير مُرحبة بتصاعد شعبية "أردوغان" في وسط العالم العربي".

ولكن على الرغم من تعليقات "أردوغان" التي أثارت بعض القلق في إسرائيل، إلا أن المسئولين ذوي المستوى الرفيع في كلا الجانبين اعترفوا بقيمة العلاقات الثنائية الجيدة بين البلدين. فقد اعتذر "بيريز" لأردوغان فيما بعد قائلاً "أعتذر بشدة على ما حدث؛ فالأصدقاء يمكنهم الاختلاف بعض الوقت".

ومن جهته أعلن "أردوغان" عن مناهضته للسياسات الإسرائيلية ولكن لم يعلن مناهضته للإسرائيليين أو لليهود في أي مكانٍ آخر، ومن ثم كان تأكيده دوماً على اعتبار "مناهضة السامية جريمةً ضد الإنسانية".

أشعلت حادثة "دافوس" نقاشات حامية في تركيا حول تدخل الأخيرة في حرب غزة، وحول نقد "أردوغان" اللاذع  والأخير في المنتدى الاقتصادي.

ونظر عدد من الصحفيين والمحللين الأتراك إلى موقف "أردوغان" باعتباره المسار الصحيح الذي نتج عن خطٍ ديناميكيٍ جديدٍ متعدد الأبعاد بدأت تركيا تتبناه في سياستها الخارجية. وهو خطٌ يرتكز على إيجاد شرعية دولية ووعي إقليمي بالأمن والسلام في المنطقة.

هؤلاء المحللون يمثلون مشاعر الجماهير العربية التي ترى في "أردوغان" النائب عن وجدان الشعوب وعن آمالها في بعث نفس الرسالة إلى السياسيين الإسرائيليين. كذلك يرى هؤلاء المحللون حادثة "دافوس" امتداداً للسياسة الخارجية التركية، لا تعبيراً شخصياً لـ"أردوغان".

وبالرغم من أن رئيس الوزراء التركي أظهر موقفاً أخلاقياً، يعكس التزاماً أخلاقياً تركياً بالقوانين والمبادئ الدولية، بينما أظهر النظام الدولي أزمةً شرعيةً وأخلاقية، إلا أن هذا لا ينفي قيام عدد من الأتراك بتوجيه النقد إلى "أردوغان"، متهمين إياه بتحويل بوصلة تركيا من الغرب إلى الشرق الأوسط؛ ولائمين عليه عدم تصرفه بطريقةٍ دبلوماسيةٍ لائقة أثناء نقده لـ"بيريز".

كذلك ارتكز عدد من الانتقادات على الآثار السلبية الممكنة التي ستُخلفها واقعة "دافوس" على العلاقات التركية-الإسرائيلية.

وعلى الرغم من تأييد قادة الأحزاب المعارضة لموقف "أردوغان" الغاضب في "دافوس"، إلا أنهم تخوفوا من أن يكون هدفه كسب مزيد من الأصوات المؤيدة له داخلياً، قبيل الانتخابات المحلية.

خُلاصة

1ـ من وجهة النظر التركية، انتهى العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة إلى فشلٍ ذريع، وقال "عمر تاسبينار" أحد المحللين الأتراك إن "هذا الوضع قد ترك إسرائيل أمام خيارين، فعليها أن تختار بين:

2ـ محاولة إخراج "حماس" من السلطة: وهو أمرٌ مستحيل لأنه سيعني احتلالا دائما لغزة مما سيفضي إلى وقوع عدد هائل من الضحايا الإسرائيليين.

والانسحاب من القطاع دون الحصول على أي ضمان بعدم معاودة "حماس" إطلاق صواريخها تجاه المدن الإسرائيلية".

إذا، يمكننا القول:

ـ أن للسياسيين الأتراك قناعة راسخة بقدرة تركيا السياسية على المزاوجة بين الاعتبارات الأخلاقية والأوليات الإستراتيجة.

ـ تباين الآراء حول واقعة دافوس لم يكن إلا نتاجاً عن بيئةٍ ديمقراطيةٍ منفتحة. ومعظم الرأي العام التركي ينحاز إلى وجوب انخراط بلادهم المستمر في حل القضية الفلسطينية، ووجوب إيجاد دبلوماسية تركية نشطة لإنهاء المأساة الإنسانية بقطاع غزة.

ـ أما بخصوص التوجسات المتعلقة بتعريض العلاقات التركية الإسرائيلية إلى الخطر، بسبب انتقادات تركيا للسياسة الإسرائيلية وموقف "أردوغان" الأخير في "دافوس"، فإنه أمرٌ بعيدٌ كل البعد عن الحقيقة. والدليل على ذلك هو اهتمام الحكومة الإسرائيلية اهتماماً جدياً بالإبقاء على استمرار العلاقات، مع اتباع بعض السياسات "الخفيفة" ضد نقد "أردوغان" لإسرائيل.

ـ وفيما يتعلق بالتوجسات الخاصة بتسبب "أردوغان" في تحويل تركيا عن المسار الغربي، ومن ثم تعريض العلاقات التركية الإسرائيلية إلى خطرٍ آخر، فقد رد المحلل التركي وخبير شؤون الشرق الأوسط "جنكيز كاندار" على تلك المزاعم موضحاً بأن التطورات اللاحقة لحرب غزة كان لها أثر في ازدياد دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للمبادرات الإقليمية التركية.

ملخص القول، إن تركيا سيكون لديها متسع أكبر للمناورة والتحرك الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط، خاصةً في ظل النهج الدبلوماسي للإدارة الأمريكية الجديدة، وفي ظل عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، لاسيما القضية الفلسطينية.

على الرغم من توجه السياسات الإسرائيلية نحو الراديكالية المفرطة، بعد انتخابات فبراير 2009، إلا أن إسرائيل لا تُحبذ الدخول في عدوان جديد.

وكما يؤكد الكاتب التركي "سولي أوزال"، فإن البيئة السياسية التي أوجدها "مبدأ نيكسون" والثورة الإيرانية – وهي البيئة التي كانت تبرر دوماً التأييد الأمريكي لإسرائيل – لم تعد موجودةً الآن. بمعنى آخر، إن التأييد الأمريكي لإسرائيل لن يكون مضموناً بعد اليوم. فالإدارة الأمريكية الحالية ترفع الكارت الأحمر أمام إسرائيل، بينما ترفع نظيره الأخضر أمام تركيا، كما يشير "كاندار".

ولا جدال في تبوء تركيا اليوم مكانة الشريك الأساسي في جميع التصورات الإقليمية؛ ولا شك في أنها تضع السلام والأمن الإقليميين على قمة أولوياتها. ومن ثم، ستعكف تركيا ابتداءً من اليوم على إنهاء آلام الفلسطينيين، وعلى مساعدتهم في بناء دولتهم كما تؤكد الاتفاقيات الدولية.

_______________

* المادة أعدت لمؤسسة SETA للبحث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقام مركز الجزيرة للدراسات بترجمتها واختصارها وإعادة تحريرها.