خبر كتب ماهر رجا : الحوار الفلسطيني أسباب في الجوهر تدفعه إلى الطرقات المسدودة

الساعة 06:19 ص|12 ابريل 2009

لو نظر متشائم نظرة متأملة إلى الحوار الفلسطيني في القاهرة بعد جولته الأخيرة،  فسيرى أنه في طريقه المحتم إلى الانهيار..

 إنه حوار الطرقات المسدودة، فالأميركيون سدوا الطريق الأهم وهم لن يقبلوا من حماس  بأقل من إعلان صريح يتضمن ما يسمونه بنبذ العنف (الكفاح المسلح) والاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الحكومة الإسرائيلية قبيل اتفاق أوسلو وما بعده، وهذا ما حمله معه رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان من واشنطن . وفريق السلطة أو فتح تكفل بالجانب الفلسطيني من الطريق المسدودة، فهو يتمسك بالصيغة الأميركية ، لكنه فضلاً عن ذلك يرفض فكرة تشكيل مرجعية لمنظمة التحرير تقود العمل الوطني إلى حين انتخاب مجلس وطني فلسطيني نهاية العام الجاري كما جاء في التفاهمات التي توصل إليها حوار القاهرة في جولته الثانية.. أما حركة حماس فترى أن هناك من يدعوها إلى انتحار سياسي كثمن للاتفاق الفلسطيني، وتؤكد، حتى الآن ،  أنها لا تستطيع أن تتحمل تكاليف فتح تلك الطرقات المسدودة في وجه الحوار عبر القبول بالشروط المطروحة.

 

إذن، وعند خط التجاذب ذاته تقريباً ، أخفق مجدداً الحوار الذي باشر جولة أخرى في الأول من أبريل الجاري مقتصراً على وفدي حركتي فتح وحماس.. كانت الديبلوماسية المصرية قد تحركت قبيل هذه الجولة في محاولة لدفع موقف حماس باتجاه القبول بـ"الالتزامات" السياسية المملاة على  أي اتفاق فلسطيني يسعى إلى تشكيل حكومة فلسطينية. ومن الواضح أن نائب رئيس المخابرات المصرية عمر القناوي حصل في دمشق على تأكيد من قيادة حماس في الخارج تجديدها الاستعداد لإعلان "احترام" الاتفاقات الموقعة كمخرج من الاستعصاء. لكن المصريين اعتبروا أن  لا جديد في مواقف الطرفين. وبعد الجلسات الأولى التي دارت في الحلقات المفرغة ذاتها، اجتمع رئيس المخابرات المصرية بالوفدين وقدم ما أسماه باقتراح "الحكومة الانتقالية".

 لم يكن ذلك جديداً، والاستنتاج الأساسي أنه مناورة او محاولة للتذاكي من جانب الديبلوماسية المصرية لإقناع حماس بوجود فارق طرأ على المقترحات المطروحة عليها.  لكن الفارق الوحيد هنا شكلي تماماً، إذ لم  تتغير في هذا الاقتراح المطالبات التي تدعو حماس إلى القبول بحكومة على أساس أجندة سياسية تلتزم اتفاقات منظمة التحرير مع الحكومة الصهيونية وتعترف بإسرائيل، وكل ما جرى هو أن القاهرة قدمت الشروط نفسها في إطار مختلف ، أي  " بروفة" بانتظار نهاية العام الجاري حيث يتم اللجوء إلى انتخابات تشريعية ونيابية تتوقع القاهرة والسلطة في رام الله أن تسفر عن خسارة لحماس..  وهكذا، ومرة أخرى،  ظهر الجدار في نهاية الطريق وعادت الصورة إلى المربع الأول، فوجهت مصر الدعوة للحركتين للعودة إلى القاهرة بين 21 و26 من الشهر الجاري.

تلك هي الصورة الأخيرة في ألبوم الحوار الفلسطيني حتى الآن..وقد أشبعت التفاصيل تشاطراً وتنقيباً على مدار الأسابيع الماضية، وما من نصيحة طيبة للخوض فيها.. على أن القول الملح في هذه اللحظات هو أن هذا الحوار في طريقه إلى محطة نهاية داكنة.. أو ما لا يبشر بالخير أو التفاؤل بالتعبير البسيط.. والأسباب تتعلق بروافعه الأساسية في المقام الأول..

ففي كل لحظة، يتأكد أن الحوار يحمل تسمية فلسطينية لكنه لا يحظى بهذا الاهتمام العربي والدولي لأسباب وطنية فلسطينية. وعلى الرغم من أنه يجسد إجماعاً فلسطينياً، فإنه لا يتحرك وفق عوامل  فلسطينية في الأساس ولا يضع الفلسطينيون أجندته السياسية، وإن كان بينهم من يستخدم لتسويق هذه الأجندة في الساحة الفلسطينية وعبر حوار القاهرة.

في أصل الأمر، ما يعنيه الحوار الفلسطيني بالنسبة للإنسان الفلسطيني هو أنه لحظة تبصر ووقفة مسؤولية مفصلية أمام تحولات ينبغي أن تكون الدافع الأهم وراء التداعي  إلى حوار وطني يحدد المسؤوليات والمخاطر ويشير إلى طريق للخروج من عين الإعصار الذي ضرب القضية منذ أوسلو، ثم أنتج هذا الانقسام، وأسفر عن تسارع مشهد التهويد والاستيطان وأوجد المناخ الملائم للمخططات الصهيونية الميدانية الدموية في الضفة وغزة والتي تسارعت بشكل كبير بعد عام 2000 . لكن الحوار الفلسطيني لم يتحرك ولا يتحرك الآن بمفاعيل فلسطينية وطنية وهنا تتكثف مخاطره، ذلك أن خيارات الآخرين وظلالهم وحساباتهم في ميدانه ومن وراءه هي الأكثر حضوراً.. هناك ، إقليمياً من أراد  الحوار الفلسطيني بقوة ضغط الجغرافيا السياسية وبالاستفادة منها بغرض دفع الملف الفلسطيني والساحة الفلسطينية برمتها بعيداً عن المقاومة التي بدت لمصر مثلاً خطراً على أمنها القومي  خلال العامين الماضيين مع سيطرة حماس على القطاع. وهناك إقليمياً أيضاً من يعتبر أنها لحظة مناسبة بعد محرقة غزة للذهاب العربي الجماعي إلى التسوية السياسية على أساس مبادرة التطبيع العربية ، وأصحاب هذا التصور يعتقدون أن الفلسطينيين في الضفة وغزة والشتات أضحوا مضرجين بالدم ومثخنين بالجراح إلى الحد الذي سيجعلهم يأتون زاحفين إلى "مرحلة السلام الختامية".. وللسبب ذاته وفي دائرة هذه التوقعات والحسابات كان موقف واشنطن والاتحاد الأوروبي  وما تسمى بالشرعية الدولية من الحوار الفلسطيني، فلدى هؤلاء تصور أن الرياح مواتية كي يطوى ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مرة واحدة وإلى الأبد.

صورة كاريكاتورية لحوار يفترض أن يكون فلسطينياً فلسطينياً، ولأجندة حوار يفترض أنها فلسطينية أيضاً.. لكنه في واقع الحال يبدو مرة حواراً فلسطينياً أميركياً وأخرى فلسطينياً مصرياً بل وأحياناً فلسطينيا إسرائيلياً. وينبغي هنا توضيح التباس ظاهر ومخفي في آن واحد، فالحوار لم يكن يتكون من طرفين يتوسط بينهما طرف ثالث هو مصر ، فيما تعمل  الولايات المتحدة والرباعية على التأثير عليه من بعيد. فواقع الحال، وبلا رتوش،  أن كل هؤلاء الأطراف يشكلون فريقاً واحداً يقوم وفد السلطة أو فتح (لا فرق) بتمثيل مشروع هذا الفريق وخياراته السياسية على طاولات الحوار الفلسطيني. .

في ليل هذا التجوال المتواصل لجوقة الشياطين في الزوايا المعتمة من ردهات الحوار الفلسطيني ، يصبح الحوار وصفة  مصممة لنتيجة صفرية في كل الأحوال، وبطريق  وحيدة إلى الكارثة سواء "نجح" أم "فشل"، لأن معايير النجاح بالصيغ السياسية المطروحة تصر على بقاء جراح أوسلو في الجسد الفلسطيني . فإن فشل هذا الحوار ، وهو ما يبدو احتمالاً محظوظاً هذه الأيام، فإنه سيبقي حالة الانقسام بين ضفة وغزة ، وداخل وخارج ، ويحرم الفلسطينين من أدنى وسائل الدفاع عن النفس ويبقي الحصار على غزة ويمنح حكومة نتايناهو متسعاً لمزيد من حروب القتل والاستيطان والتهويد..الخ.. وإن نجح هذا الحوار فهو لن يتجاوز طريق أوسلو في أفضل الأحوال، هذا إن وافقت واشنطن والرباعية على فكرة حل وسط ما بين مفهومي "احترام" الاتفاقات و"الالتزام" بها.. ولاحظ على الدوام أن أي تقدم يحدث في الحوار يحيل أو يقصد به تقدم باتجاه الاطار السياسي والمنطوق السياسي لعملية التسوية السياسية. باتجاه خيارات السلطة لا خيارات الثورة...

هل يستطيع الفلسطينيون المتحاورون الالتقاء في منتصف الطريق واستعادة الصفة الفلسطينية للحوار أو قليلاً منها، والاقتراب من مشروع وطني في مواجهة ضغوط الأجندات الأميركية والإسرائيلية التي تلقى ترويجاً عربيا؟؟.. يبدو هذا شديد الصعوبة بالنظر إلى أن  في رام الله من مازال يرى نهج أوسلو على صواب ويعتبر الالتزام باتفاقاته سبيلاً وحيداً لبقاء المكانة السياسية الفلسطينية والحضور الوطني الفلسطيني على قيد الحياة!