خبر الأدب ..قيم ومسؤوليات وتحديات .. علي عقلة عرسان

الساعة 08:18 ص|04 ابريل 2009

 

الأدب، بوجه عام، تعبير إنساني في قوالب كلامية تراعي قيم الجمال وتنميها، ويضع العمل الأدبي تجربة ونماذج وعلاقات إنسانية وسلوكاً في سياق معالجة فنية لها خصوصيتها، تومض بوهج المعاناة ولها لذع نارها، ويهدف إلى ترسيخ قيم وتحقيق أهداف، معتمداً منطقاً وأسلوباً للوصول والتأثير والإمتاع والإقناع. ويُصَب العمل الأدبي، أو بالأحرى يتخلَّق ويتفتَّح وينضج، ضمن حدود أطر فنية ذات سمات وميزات ومقومات وخصوصيات، تجعل للعمل شخصية مميزة وخصوصية دالَّة ولذعاً حرَّاقاً لا ينسى في حالات، وسلاسة جمالية تنساب بعذوبة مثل عذوبة النبع الصخري ينهل منه ظامئ طال بحثه عن الماء، وتكسبه قدرة على إثارة عواصف داخلية قد تعيد قولبة الكثير مما هو مستقر في النفس، وقد تثير الغضب والتشنج والعنف. وتساعد الأطر الفنية والقيم والمقومات الخاصة على التفريق بين جنس وآخر من الأجناس الأدبية- الشعر، القصة، الرواية، المسرحية، المقالة، المقامة...الخ ـ وبين كاتب وآخر. ويظهر في الأدب أو ينبغي أن يظهر فيه، بصرف النظر عن جنسه وشخصيته وكاتبه وعصره، ملامح المجتمع والبيئة التي نبت فيها ومكونات تلك البيئة وملامحها وقضايها وخصوصياتها، ويكون لثماره طعم التجربة الإنسانية والتربة الثقافية خصوصاً والحضارية عموماً التي تتواصل معها جذوره وتتغذى منها.. إن له هوية إن صح التعبير كما للكائن الإنسان هوية تميزه عن غيره من المخلوقات وعن إخوته من بني البشر، وحتى عن أشقائه من رحم واحد.

وتنعكس في الأدب معاناة الإنسان الفرد من خلال ارتباطه بالمجتمع، ينعكس فيه واقعه، ومقومات تكوينه الرئيسة: الجسمية - النفسية، الاجتماعية، والثقافية، بكل ما لهذه الكيانات من أبعاد وتأثير ومكونات يتم بتداخلاتها بعضها مع بعض وتفاعلها جميعاً ضمن الذات والبيئة والمجتمع، إنشاء الكيان وتوقع نتائج تفاعله سلباً وإيجاباً مع سواه ومع المعطيات من حوله. والعمل الأدبي الناجح يجعلنا نقف على ذلك كله إضافة إلى أنه يضعنا في صورة واقع الإنسان وصراعاته ومعاناته وطموحاته، وينقل إلينا أحاسيسه وقلقه وأفكاره وعواطفه وأسلوب تعامله مع الناس والأشياء والمخلوقات في الطبيعة، وكيفية محاكمته ومعالجته للأمور، ضمن نظرة للكون والحياة تمليها قيمٌ وتجاربٌ ومعطيات واقعٍ وظروفُ حياة وعلاقات مع الناس.

ونحن أيضاً في العمل الأدبي أمام اختيارات الكاتب التي ارتضاها وأهدافه التي ينشدها، أمام صورة معاناته في الوجود ومن أجله، ونظرته إلى الواقع وتحريضه المستمر الذي يوصله إلينا من خلال عمله وبأسلوبه الخاص، ليجعلنا نرفض واقعاً معترَضاً عليه ونعمل على إصلاحه أو تغييره بواقع أفضل منه. وقد يأتي الاعتراض والتحريض مواكبين لتصور واضح الملامح في إطار رؤية لواقع هو الصورة البديلة لما يُعتَرض عليه ويتم الدفع باتجاهه، أو مجرد اضطراب عبر واقع مرفوض، تشكل الدعوة إلى الخروج منه وعليه والوقوف خارج تلاطم لُججه بداية طريق الوضوح والتصميم والإرادة، لتكوين صورة واقع بديل هو الواقع المنشود، ورسم طريق الوصول إليه. وقد يحجب صورة ذلك الواقع عن الكاتب ويمنع تقديمه بوضوح كفلق الصبح انغماسُه في معاناته الأليمة ضمن واقعه، أو تورم أنانيته وجثوم معاناة خاصة ذات صفات كابوسية عليه تجعله يقدم خصوصية ضيقة لا ترقى إلى شمولية إنسانية، ومن ثم يقع تحت وطأة حالة تسد عليه منافذ كثيرة وتجعله يحتاج إلى الطب ويفقد موقع الطبيب.

ويأتي العمل الأدبي في الغالب محققاً لغرض الأديب وغاية الأدب في تحرر الإنسان من قيود وظلم وقهر وجهل ومحدودية تفكير وقصور تصور وتدبير، أو رفض، هو استسلام، فرضه الخوف أو الخمول أو ضعف القدرة على استشراف مخارج نجاة مما غرق أو أُغرِق فيه من أسى أو ضياع. وذاك الذي يجهد الأدب والأديب لتحقيقه، يتم من أجل الإنسان الذي نريد له حياة أكثر سعادة، وحرية تمكنه من الاستمتاع بعمر لا يعيشه إلا مرة واحدة فقط، وبكرامة هي من أغلى ما ينبغي أن يتحقق له على الأرض، وما ويبقى في الرصيد التاريخي للمبدع.

ورغم توافر شكليات كثيرة في العمل الأدبي فإنه يبقى هامشي التأثير وثانوي القيمة إذا لم يحقق انتماء عميقاً للإنسان في بيئته والتصاقاً به في واقعه المعيش، حيث يصل عبر تحقيق هذه الخصوصية إلى شمولية إنسانية تجعل منه عملاً مؤثراً باقياً مفيداً لأناس كثر وأجيال عديدة في بلدان كثيرة. وما لم يرتبط الأدب بواقع وقضايا، ويتمثّل ذلك بعمق، وتظهر نتيجة ذلك التمثّل والمعايشة بصدق ووضوح رؤية ومواقف واضحة وصريحة وجريئة من البؤس والظلم والقهر والفساد والعدوان والاستغلال والاستلاب، من التعاسة والتبعية والشقاء والانتهازية المدمرة وضحالة الروح وما يحل بساحة الإنسان من بؤس في كل يوم.. ما لم يكن ذلك ديدنه أو بعض ديدنه فإنه يبقى أو يسقط خارج حدود الكلمة التي تحمل رسالة سامية وتقف إلى جانب الإنسان في مقاومته المستمرة وتؤسس لصلابته ونضاله المشروع، وتكون له وبه.. قوة حامية ومنفذة وهادية على مدى العصور.

وتتوقف قيمة الأدب والفن ومدى ارتباطهما بالإنسان والحياة وقدرتهما على التأثير والانتشار والبقاء، تتوقف تلك القيمة- على الرغم من توافر قيم ومقومات شكلية تحقق جانباً كبيراً من الإبداع- على تحديد القيم والأهداف التي يناضل من أجل تحقيقها كل من الأديب والفنان المبدعين للإنتاج الأدبي والفني، وعلى نبل أهدافها وقيمتها الأخلاقية والاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية، وأساليب العمل ووسائله من أجل بلوغها.

ولكي يكون الأدب أدباً والفن فناً، يجب أن يكونا إنسانيين، ولكي يكونا إنسانيين يجب أن يستنبتا في بيئة اجتماعية ويثمِّران إنسانيتها وخصوصيتها ويستثمران فيها، وأن يشهرا سلاح الصدق والوضوح بجرأة، ويحددا موقفاً من كل ما يجري في هذه الحياة. وهذا القول، فيما يبدو في الظاهر "لمن يلتمس ظاهره أو يقف عنده"، متفق عليه نظرياً، ولكن بطلان ذلك يظهر بوضوح صارخ عندما تبدأ عملية تحديد مفاهيم القيم الإنسانية أو إنسانية القيم البشرية، وكيفية الوصول إلى تحقيقها وترسيخها وخدمتها والدفاع عنها والتعامل معها ضمن مصطلحات ومعايير محددة وواضحة، بما لا يجردها من مضمونها الإنساني وبعدها الأخلاقي من جهة ولا يجعلها تعتمد ازدواجية معايير أو تسوغها وتروج لها من جهة أخرى؟!

والأدب بحكم ارتباطه بالحياة يحمل هموم الأحياء وتطلعاتهم ويجسد قلقهم ويمثل ضميرهم، والأديب/الكاتب الذي يريد لأدبه الحياة والفاعلية والانتشار يلتصق بواقع الناس ويعبر عن همومهم وشواغلهم وهواجسهم، ويشرع أبواب الأمل أمامهم، ويدفع مسيرة الحرية والعدل والمتعة والاستقرار في الحياة إلى الأمام. ولا يستطيع الأديب/الكاتب تحقيق ذلك ما لم يعش أحداث عصره بانتماء وامتلاء، ويتجذَّر في تربة بيئته الاجتماعية والثقافية، في أرضه وحضارة شعبه، ويبدع في إطار رؤية إنسانية عميقة، فيكون في أعماق عصره وتفاصيل ذلك العصر، وفي جذور تربة ثقافية واجتماعية وحضارية ينتمي إليها ويحملها، وفي الوقت ذاته يستشرف المستقبل يحرض على التغيير باتجاه التقدم والنمو المعرفي والبشري، ويمارس درواً إيجابياً ليكون العالم أفضل والغد أسعد والمجتمع أكثر أمناً وأفضل تعاملاً. إنه يرسم مشروع عالم الغد ويقدمه في شخصياته وكلامها وقيمها وسلوكها وعلاقاتها واهتماماتها وأحلامها التي تصور الواقع من جهة وتشكل برؤاها وأفعالها مدخلاً مشروعاً لتغييره من جهة أخرى. وهو حين يحكم على واقع وعلاقات وسلوك وقيم ويدينها يؤسس نظرياً لواقع وعلاقات وسلوك آخر ولعلاقات وقيم ومثل أخرى، ويدعو إلى إشادة بنية اجتماعية وتكوين أجيال تتمتع بقيم خُلُقية وغنى روحي وإرادة صلبة تصنع من خلال امتلاكها والعمل بها عالم الغد الأفضل.. أما إذا كان الإنتاج مجرد ركض على غير هدى في فلوات الكلمات وفضاءاتها، منجذب إلى سحر القول وشهرة من ينفخ " البوالين" الملونة في فضاءات الإعلام.. فقد لا يصل إلى شيء يرضيه وقد لا يقدم للناس ما يفيدهم حتى إذا أرضى قلة منهم.. وقد يقضي لاهثاً في صحارى لا تبقى منه شيئاً.

 إن الأديب/الكاتب بحكم موقعه وتعامله مع الكلمة التي تحمل مسؤولية إنسانية وخُلُقية، وتستمد شرفها من الانتماء للحياة والصدق والحقيقة والعدالة والحرية، بحكم ذلك، يتحمل مسؤولية تاريخية حيال العصر الذي يعيشه والعصر الذي يحاول أن يستشرف صورته، لأنه إنما يكتب ليتجسد ما يكتبه في حالة اجتماعية أو سلوكية أو حيوية ـ حضارية مستقبلية، في سياسة وعقيدة ورؤية ومتعة عيش. ومسؤولية الأديب/ الكتاب في هذا العصر كبيرة حيال التحدي والتهديد والاحتلال والعنصرية والقوة العمياء وتشويه الحقائق والتدخل في شؤون الدول والشعوب وثقافاتها ومحاولة فرض الوصاية عليها بذرائع القصور الحضاري والتقدم الحضاري، مندون احترام للمعايير والعقول والتاريخ، واستخدام إرهاب الدولة والحصار الذي يتجلى أنموذجه في الحالة الصهيونية المكفولة أميركياً.. وهي حالة متضادة حكماً مع الحالة الحضارية ـ الإنسانية المستندة إلى قيم ومعايير صحيحة وسليمة، وأخلاق إنسانية، وقوانين عادلة وشاملة، واعتماد متبادل وثقة ومسؤولية مشتركة.

ومسؤولية الكلمة عامة والأدب خاصة تصبح أكبر حيال الاحتلال والتهديد العسكري والفوضى والأزمات الاقتصادية الخانقة ومشكلات البيئة والصحة والفقر ومحاولات احتكار العلم والتقانة وتطوير أسلحة الدمار الشامل. وحيال من يحالولون الدفاع عنأنفسهم وامتلاك قدرات وطاقاتمشروعة اعتماداً على أنفسهم للوقوف بوجه الإبادة التي تهددهم. والكلمة وأهلها يتحملون مسؤولية خلقية وتاريخية حيال الظلم الذي يحدث في العالم، والإرهاب الدولي "إرهاب الإمبراطور" الذي يحرم شعوباً من الأمن ويشعل نار الفتن في بلدان وشعوب ويستثمرها ليؤسس للتدخل في شؤونها ويستعمرها ويبسط نفوذه وهيمنته ويسلب الناس مقومات بقائهم وكرامتهم.. ويمضي في مسلسلات إبادة جماعية أو يحمي من يقوم بها، كما يفعل الغرب مع الكيان الصهيوني الذي يستمر في مسلسل إبادة الشعب الفلسطيني مادياً ومعنوياً، ويدمر مقاومته المشروعة التي يقوم بها دفاعاً عن النفس وطلباً للحق.

إن مسؤوليتنا الخُلُقيَّة عن عالمنا تحتم علينا التبصر في الظاهرة العدوانية المتنامية في المؤسسة الأميركية الحاكمة والحركة الصهيونية العنصرية على الخصوص، والوقوف ضد الظلم والقهر ومحاولات استلاب ثروات الشعوب من جديد. علينا أن نعمل من أجل دحر الاحتلال وإزالة أشكال الاستعمار والاستغلال والهيمنة وإفساد القيم والناس والعلاقات والثقافات، والوقوف بوجه أنواع الغزو والاستلاب الثقافيين، ومن أجل المحافظة على غنى وتنوع ثقافيين لا تتقدم الحضارة الإنسانية وتزدهر من دون توفرهما، ومن أجل مناخ ثري في عالمنا يتكون من أقواس قزح كثيرة وكبيرة تنتشر في فضائه.

ولن يكون الأدب مخلصاً للإنسان والحياة والرسالات والقيم ولمسؤولياته الخاصة وخصوصياته البناءة، ما لم يعمل على إزالة النزوع العنصري والعدواني والتسلطي، ويساهم في القضاء على الخنوع والاستسلام والغوغائية التي يفرضها الجهل والخوف والتواكل وضبابية الرؤى والأفكار والمواقف، تلك التي تشوه الواقع وصورة الإنسان والحياة والعلاقات، وتشوه النفس البشرية ومناخ الحياة والتفكير والاعتقاد والتعبير والتذوق، وعالم اليوم كله. ولن يكون الأدب أدباً مستحقاً للحياة ما لم يحافظ على مقوماته بوصفه أدباً، وعلى قيمة الإبداع، ومضمون ينصف الإنسان ويدافع عن حقوقه وقيمه وحريات. على الأديب/ الكاتب أن يقدم أدباً جيداً وجميلاً وممتعاً ومسؤولاً، أدباً يرفع قيمة الحياة والعمل بنظر الإنسان، ويجدد الأمل ويفتح أفق السعادة والحرية ويساهم في الوعي المعرفي السليم، ويجعل الإنسان أكثر جدارة بإنسانيته وحياته، وأكثر تمسكاً بالحياة وإقبالاً عليها واستمتاعاً بها وشعوراً بجمالها.. إن على الأدب وأهله أن يقوموا بمسؤوليات ويتصدوا لتحديات، فالأدب قيمة ومسؤولية وقدرة روحية عالية، وقوة فاعلة في الحياة والمجتمعات.

 

 

  دمشق في 3/4/2009