أنفاق فلسطينية نحو الضوء..! بقلم  علاء الدين أبو زينة

الساعة 04:52 م|12 سبتمبر 2021

فلسطين اليوم

عندما يُذكر النفق، يُذكر معه النور في نهاية النفق. هكذا يفهم الفلسطينيون خبرتهم ويتعاملون معها. إلى أن يحرروا وطنهم ويطردوا الاستعمار، سوف يواصلون الحفر في نفق يثقون بأنه سينتهي إلى النور. وهو مسعى صعب تتناوبه مشاعر اليأس والأمل، لكن عقودا من الصراع أظهرت معدن الشعب الفلسطيني الذي اعتصم بالإيمان بعدالة قضيته وبحتمية انتصاره، وانطوى على صبر أكبر من الصبر ومقادير إعجازية من العناد والبسالة. وتأكد الآن بما لا يقبل الشك أن أيّ شيء لا يستطيع أن يلغي الهوية الفلسطينية أو أن يُخرج أصحابها من التاريخ.

الفلسطينيون في نفق، لأن توليفة وحشية من القوى الهائلة عملت، وتعمل ضدهم كل الوقت. في تاريخهم الحديث نسبيا، لم يستخدم الاستعمار البريطاني ضدهم الأدوات الاستعمارية الشريرة بما يكفي فحسب، وإنما مهد لتسليمهم إلى استعمار استيطاني لا أخلاقي تدعمه كل القوى المهمة في العالم. وبعد ذلك، خسر الآخرون في الإقليم إيمانهم بجدوى الصراع وبحثوا عن مصلحة مع العدو على حساب الفلسطينيين. بل إن فلسطينيين وصلوا إلى شيء قريب، فتناغموا مع القوى الضاغطة وقبلوا بروايتها واعتاشوا على العمل معها وتنازلوا بلا توقف عن الثوابت والأساسيات. وبذلك، تشكلت عاصفة كاملة تحجب الشمس عن الفلسطينيين وترسلهم إلى تحت الأرض، حرفيا ومجازيا.

راوغ الفلسطينيون في غزة الحصار بالأنفاق. وبرغم كل المراقبة والتنسيق والاتفاق على عزلهم، هندسوا الطرق تحت الأرضية وشقوها بأدواتهم البسيطة إلى خارج الحصار. وحفروا الأنفاق العسكرية، سواء تلك التي حاولوا أن ينفذوا منها إلى داخل الوطن المحتل لتنفيذ عمليات نوعية، أو التي يستخدمونها للمناورة وتخزين الأسلحة التي يدافعون بها عن أنفسهم في الاشتباكات المتكررة مع العدو.

ويتحرك المقاومون الفلسطينيون تحت الأرض، سواء بالعمل السري الذي أسس للثورة الفلسطينية المسلحة وزودها بالسلاح والدعم، أو باجتراح الطرق لمراوغة العدو وأجهزته وكاميراته وعيون المتعاونين المحليين مع أمنه. وهناك الذين يقعون في الأسر، فيصبحون في نفق تحت النفق ويقعون تحت عبء مضاعف في محاولة جلب الشمس لنبتة الأمل التي تبقيهم أحياء. وهناك الذين يذهبون خطوة أبعد ليحاولوا شق طريق نحو الشمس، فيعكفون على حفر أنفاق حقيقية تأخذهم إلى الحرية.

مما شاهدناه في السينما والدراما العالميتين، فإن حفر نفق والنجاح في الهروب من سجن مشدد الحراسة هو مسعى يقارب المستحيل. إنه يحتاج أولا إلى خيال روائي محلق وكاتب سيناريو مبدع، وفريق محترف من الفنانين والفنيين الذين يحاولون توفيق الأضداد لصناعة حبكة يمكن أن تقنع المشاهد بتصديق تحقق المستحيل.

لكن ستة فلسطينيين أسرى اختصروا كل ذلك في حدث واقعي صنع الأخبار. وسوف يعكف العدو ومعاونوه في الوصول بقمعه الفلسطينيين إلى المثالية على دراسة ما حدث. سوف يقول مسؤولو الاحتلال: لقد استعنا بالإيرلنديين، واستخدمنا خبراءنا الأمنيين وخبرة عقود من حبس الفلسطينيين، وبكل شيء بشري وتقني حتى نجعل الإفلات من سجن جلبوع مستحيلا. فما الذي حدث؟!

لكنّ هذا السؤال ليس منفصلا عن السياق الكامل. لا بد أن العدو ورعاة مشروعه يتساءلون كل الوقت: لقد سخرنا أقوى القوى، وأكثر الأسلحة فتكا، وأكثر التقنية تقدما وأكثر الطرق وحشية حتى نخضع هؤلاء الفلسطينيين ونوقفهم عن حفر أنفاقهم كل هذه العقود. ومع ذلك، يخرجون لنا بالحجارة، والهتاف، والسكاكين، والعناد، وأخيرا بالصواريخ. إننا نغلق عليهم السماء والأرض، لكنهم يفتحون طرقا من تحت الأرض ويجلبون عبرها كل شيء. ما الذي يحدث؟

في الصورة الكبيرة، ليس نفق جلبوع سوى تفريع واحد فقط في الأنفاق التي يثابر الفلسطينيون على حفرها كل الوقت، بصبر أيوب ودأب النمل. وفي كل يوم يجترحون معجزة ويحققون مستحيلا. وقد لخص غسان كنفاني الحالة الفلسطينية الدائمة بعباراته الخالدة:

«سيقال فيما بعد أن ما حدث كان مستحيلا، أما الآن فالأبعدون يقولون إنها مغامرة، وأنا أقول إنها الولادة. إن الحقائق الصغيرة لم تكن في البدء إلا الأحلام الكبيرة، والمسألة مسألة وقت ليس غير. كذلك تبدأ القصص وكذلك تنتهي. إن المعجزة ليست أكثر من الجنين الغريب الذي ينمو في رحم اليأس، ثم يولد على غير توقع من أحد ليضحي جزءاً من الأشياء تبدو ثمة ناقصة دونه».

كلمات دلالية