خبر تركيا: انتصار انتخابي آخر للعدالة والتنمية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 07:25 ص|02 ابريل 2009

القدس العربي

02/04/2009

كانت هذه انتخابات بلدية، لتقرير مستقبل البلديات والمجالس المحلية، وليست انتخابات برلمانية عامة لتحديد من يحكم تركيا. في بلدان أخرى، بل حتى في أغلب المحليات التركية السابقة، لم تكن نتيجة هذه الانتخابات لتجلب اهتماماً خاصاً. فوز حزب العدالة والتنمية في هذه االانتخابات لا يجب أن يقلل منه التراجع الضئيل في الأصوات التي منحت له، فقد أظهرت النتائج أن حزب العدالة والتنمية لا يزال يحكم بلا منافس، اللهم إلا نفسه ونتائجه السابقة. ولكن تراجع العدالة والتنمية في المنطقة الكردية هو الأمر الذي يجب أن يجلب الانتباه. ثمة عدد من الأسباب التي تقف خلف تحول هذه الانتخابات إلى منعطف سياسي هام.

الأول، أن تركيا تعيش شعوراً عاماً بأن الديمقراطية التركية قد عززت قواعدها، للمرة الأولى منذ انتقال البلاد من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية في منتصف الأربعينات. ما بات مسلماً به في دوائر مؤرخي تركيا الحديثة أن التحول إلى النظام الديمقراطي جاء بقرار من، واتفاق بين، النخبة الجمهورية الحاكمة، التي أدركت أن نظام الحزب الواحد بات يشكل سقفاً أمام نهوض الروح القومية التركية، وأن انحياز تركيا للمعسكر الليبرالي الغربي يتطلب تعزيز الليبرالية السياسية في البلاد. الحزب الديمقراطي، الذي ولد عشية إقرار التعددية الحزبية، أسسه قادة سابقون من حزب الشعب الجمهوري وعلى رأسهم رئيس وزراء سابق للحزب، جلال بايار. وبالرغم من أن سيطرة الحزب الديمقراطي، بقيادة مندريس، على الحكم طوال الخمسينات، وأن إطاحته من السلطة تطلبت انقلاباً عسكرياً دموياً، فإن الإصلاحات التي تعهدها مندريس وحزبه لم تخرج عن التوجه العام للنخبة السياسية الحاكمة. خلال العقود التالية من القرن العشرين، وبالرغم من أن تركيا شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية أخرى، مباشرة وسافرة أو غير مباشرة أو سافرة، فإن التداول على الحكم ظل محصوراً في دوائر النخبة السياسية الجمهورية التقليدية. محاولات القوى اليسارية والإسلامية لكسب مواقع ثابتة لها في دائرة الحكم والدولة، باءت جميعها بالفشل، ووجهت بحملات قمعية أمنية أو قانونية. ما حدث منذ 2002، أن حزب العدالة والتنمية كسر احتكار النخبة الجمهورية التقليدية للحكم، وبدأ بالفعل في تغيير بنية الدولة التركية.

بيد أن هذا التحول في التاريخ السياسي التركي لم يتم في شكل سلس ومستقيم. لم يذهب حزب العدالة والتنمية إلى انتقالة أيديولوجية جذرية في بنية الحكم والسياسة التركية، وكان على قادته أن يؤكدوا من حين إلى آخر على تخليه عن جذوره الإسلامية؛ وفي الحالات القليلة التي حاولت فيها حكومة العدالة والتنمية تجاوز الإجماع العلماني، اضطرت إلى التراجع. ويدرك الأتراك اليوم، في مجريات تحقيقات ومحاكمة شبكة أرغينكون السرية، التي تدخل عامها الثالث، أن المجموعة العسكرية المدنية المتآمرة كانت تجهز لانقلاب عسكري طوال الفترة الأولى من حكم العدالة والتنمية، أنها لعبت دوراً أساسياً في محاولة تعطيل انتخاب عبد الله غول لرئاسة الجمهورية، وعملت من خلال عدد من الاغتيالات والتظاهرات العلمانية المعارضة للحكومة في 2007 على خلق أجواء من عدم الاستقرار السياسي. ولكن ذلك لا يعني أن حزب العدالة والتنمية مجرد حزب إصلاحي معتدل. الحقيقة، أن وصول هذا الحزب للحكم، واحتفاظه بمقاليد الحكومة بعد انتخابات برلمانية عاصفة، يمثل نهاية الطريق لتفرد النخبة البيروقراطية والعسكرية في الحكم والسلطة، ونهاية لعهود سيطرة دوائر الظل الخفية، ما يعرف في اللغة السياسية التركية بالدولة العميقة. تركيا تحث الخطى نحو بناء دولة مدنية حقيقية، دولة تشارك في حكمها القوى الاجتماعية التركية بمقدار وزنها ومشاركتها في البناء الاقتصادي والثقافي للبلاد. ونظراً لأن الانتخابات المحلية التركية تجري على خلفية من التقدم المتسارع في تحقيقات ومحاكمات شبكة أرغينكون، سيما أن الادعاء، وللمرة الأولى في التاريخ التركي، أحال جنرالات سابقين وحاليين إلى المحاكمة، فإن نتيجة الانتخابات تعني دعماً شعبياً جديداً لعملية التحول السياسي الاجتماعي التي تعيشها دوائر السياسة والدولة التركية.

الثاني، أن حكومة حزب العدالة والتنمية لم تخف خلال السنوات القليلة الماضية سعيها إلى وضع خاتمة للمسألة الكردية في جنوب شرقي البلاد، التي تفاقمت منذ منتصف الثمانينات وتحولت إلى صراع دموي بين القوات التركية المسلحة وحزب العمال الكردستاني. كل الحكومات السابقة منذ انقلاب 1980 أدركت أن الدولة التركية لم يعد في وسعها تجاهل المسألة القومية الكردية، وأن لا حل عسكرياً للصراع الدائر ضد إرهاب حزب العمال الكردستاني.

خلال السنوات الأولى من عهده، حاول العدالة والتنمية تقديم نفسه للناخبين الأكراد باعتباره البديل العادل لحزب المجتمع الديمقراطي، المعروف بموالاته لحزب العمال الكردستاني الممنوع والمصنف إرهابياً. ولكن ما عدا جهود التنمية الاقتصادية الملموسة في جنوب شرقي البلاد، فإن حزب العدالة والتنمية لم يقم بمبادرات ملموسة على صعيد إيجاد حل جذري لتجاهل الدولة التركية المستمر للحقوق الثقافية للأكراد، أو توفير أجواء سياسية مرضية تؤسس لإنهاء المواجهة المسلحة مع حزب العمال الكردستاني. ولم يكن خفياً أن دور الجيش والدوائر القومية التقليدية في الدولة لم يكن يسمح بمثل هذه المبادرات. اليوم، بعد تراجع دور الجيش في السياسة، وانكشاف النشاط التآمري للمجموعات القومية المتطرفة في الحياة السياسية، وتعاظم التأثير التركي إقليمياً وعراقياً، مما سيساعد على احتواء النشاطات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، أصبح بإمكان حكومة اردوغان أن تتعهد جهداً ملموساً لإعادة بناء الوحدة القومية التركية على أسس تعددية، ومن ثم إيجاد حل حقيقي للمسألة الكردية، حتى ان لم يكن حلاً نهائياً.

انطلاق القناة السادسة للتلفاز التركي الرسمي، الناطقة بالكردية، والإشارات التي صدرت عن رئيس الجمهورية عبد الله غول أثناء زيارته للعراق مؤخراً، أوحت بأن العدالة والتنمية سيعطي اهتماماً أكبر للمشكلة الكردية خلال الفترة القادمة. ولكن الحزب الحاكم لم يحقق نتائج باهرة في محافظات الأغلبية الكردية، وأخفق في إحراز بلدية ديار بكر، التي اعتبرت دائماً مؤشراً على توجهات الصوت الكردي. وهذا ما سيضع اردوغان وحزبه أمام مفترق طرق حرج: المضي في سياسة الإصلاح القومي والثقافي، أو الخضوع لضغوط الدوائر القومية التركية وتصعيد المواجهة مع القوى الكردية الانشقاقية.

الثالث، أن تركيا تحتاج بالفعل دستوراً جديداً، أو على الأقل حزمة كبيرة من التعديلات للدستور المعمول به الآن.

الدستور الحالي هو دستور الحكم العسكري، التي تولى مقاليد السلطة بعد انقلاب 1980؛ وقد عبر نص هذا الدستور عن توجه الحكومة العسكرية نحو تعظيم سيطرة الدولة، حتى على الإرادة الانتخابية للشعب، والتفسير الراديكالي لعلمانية النظام والحياة العامة. وليس ثمة شك أن معظم الأزمات السياسية التي عصفت بتركيا خلال ربع القرن الماضي تعود إلى البنية الدستورية للدولة، والنزعة التفصيلية للنص الدستوري، بخلاف ما يمثله الدستور عادة. وكان اردوغان قد وعد أثناء الحملة الانتخابية في 2007 بالعمل على إعداد دستور مدني جديد للبلاد؛ ولكن لأسباب ليست واضحة تماماً، وبالرغم من انطلاق المشاورات المتعلقة بإعداد الدستور الجديد، فإن الحكومة أظهرت تباطؤاً ملحوظاً. خلال العامين الماضيين، وجهت لاردوغان انتقادات واسعة لتراجع حكومته عن المضي في طريق الإصلاحات السياسية والدستورية، بعد الجهد الإصلاحي الكبير الذي تعهدته في الأعوام الثلاثة الأولى من ولايتها. هذه الانتقادات، من ناحية، والأزمة التي كادت تعصف بالحكم في العام الماضي، بعد أن وضع مصير الحكومة والحزب في يد قضاة المحكمة الدستورية، أقنعت اردوغان بضرورة إعطاء الأولوية لإعداد دستور بديل، بالرغم من أن الحكومة لم تؤكد بعد ما ان كانت تعني بذلك دستوراً جديداً بالكامل أو حزمة من التعديلات الدستورية. كلا الأمرين، على اية حال، يثير معارضة سافرة في أوساط حزب الشعب الجمهوري؛ وهو ما جعل إحراز انتصار ملموس في الانتخابات المحلية ضرورياً للتقدم في هذا الشأن.

أما العامل الرابع فيتعلق بالأزمة الاقتصادية ومحاولات الحزب الحاكم إخراج تركيا من براثن الأزمة. وتركيا، كما هو معروف، ليست طرفاً مباشراً في الأزمة المالية/ الاقتصادية التي تعصف بالسوق العالمية، ولكن تبنيها لسياسة اقتصادية ليبرالية واعتماد اقتصادها في جزء كبير منه على التصدير، جعلها تتأثر تأثراً لا يخفى باضطراب السوق العالمي. بعد ست سنوات من النمو المتواصل، تشير التوقعات إلى انخفاض معدل النمو الاقتصادي التركي إلى ما دون الصفر؛ كما أن نسبة البطالة قد تجاوزت 13 بالمئة. حكومة العدالة والتنمية، كما أغلب دول العالم، تحاول تنشيط الاقتصاد التركي عبر حزمة من الحوافز. وكان تزايد المؤشرات على تأثر تركيا بالأزمة قد وفر انطباعاً خلال الشهور القليلة الماضية بأن حظوظ حزب العدالة والتنمية ستتراجع تراجعاً ملموساً في الانتخابات المحلية، مما سيجبر اردوغان على عقد انتخابات برلمانية مبكرة ويمهد لمعركة انتخابية كبرى، ربما تطيح بحكومته. بدأت هذه التوقعات في التبخر بعد حادثة دافوس الشهيرة، وهي الآن في حكم المنتهية بعد أن أعطى الانتصار الانتخابي تفويضاً جديداً لاردوغان وحكومته، ليس فقط للاستمرار، بل أيضاً للتعامل مع الأزمة الاقتصادية.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث