خبر مصر وقمة الدوحة... وذراع إسرائيل الطويلة ..طلال سلمان

الساعة 11:21 ص|01 ابريل 2009

ـ السفير 1/4/2009

سجلت «الشروق» قبل أيام، سبقاً صحافياً ممتـازاً حين كشــفت أسرار الغــارات التي شنها الطيران الحربي الإسرائيلي على شاحنات في بعض مناطق شرق السودان، بذريعة أنها كانت تحمل الصواريخ والقذائف المعدة للتهريب ـ عبر البحر الأحمر ـ الى غزة عبر سيناء.

ولقد تباهى كبار المسؤولين في دولة العدو الإسرائيلي بهذا الإنجاز، موجهين الاتهام الى إيران بأنها مصدر شحنات السلاح، في حفلة نفاق مكشوف للسلطات المصرية وبقصد الإيحاء بأنها إنما «ضربت» العدو المشترك للدولتين!

وبغض النظر عن صحة الادعاءات الإسرائيلية المكشوفة الغرض، فليس في تباهي المسؤولين في تل أبيب بأذرعتهم الجوية الطويلة ما يطمئن القاهرة، أو ما يعزز ثقتها في مركز القرار في إسرائيل، لا سيما بعدما كشفت الانتخابات الأخيرة انه قد استقر لأمد غير معلوم في أيدي الأعظم تطرفاً وعنصرية ودموية.

هل من الضروري التذكير بأن الحكومة الإسرائيلية الجديدة تضم ذلك المتوحش في عنصريته الذي لم يتورع عن تهديد مصر بتدمير السد العالي، وهو ليبرمان «المستورد» منذ أمد غير بعيد من روسيا، من ضمن المليون مستوطن ـ مستعمر الذين جاءت بهم إسرائيل من مختلف جهات الدنيا ليكونوا البديل من شعب فلسطين في أرضه المتوارثة جيلاً بعد جيل ومنذ آلاف السنين؟

في كل حال فإن التباهي بالذراع الطويلة لإسرائيل التي تمتد الى أبعد من مصر ليس شهادة في مصلحة «معاهدة الصلح» بين مصر وإسرائيل، التي شكلت مفترقاً خطيراً في السياسة العربية، وأعطت من كان «العدو» لهذه الأمة العربية جميعاً القدرة لأن يظهر وكأنه مصدر القرار في كل ما يتصل بشؤون هذه المنطقة من أدناها الى أقصاها، وانه «حليف» بعض دولها ضد بعضها الآخر.

... وفي حالة الغارات على السودان تحاول إسرائيل الإيهام بأنها تشارك ومصر في منع وصول السلاح الى من تصفهم «بالإرهابيين» في غزة، ومن موقع «عدو عدوك صديقك»، والمستهدف هنا: إيران، ومعها حماس.

في هذا السياق، يأتي إلغاء القاهرة «الاحتفال» بالذكرى الثلاثين لعقد معاهدة الصلح مع إسرائيل، في موقعه تماماً، ومن هنا انه لقي الترحيب والتقدير... فأيدي قادة إسرائيل، مدنيين وعسكريين، لا تزال ملطخة بدماء أبناء الشعب الفلسطيني في غزة المحاصرة، أطفالا ونساء وشيوخاً وبيوتاً ومدارس ومستشفيات وجامعات ومساجد وزيتونا مباركاً وبرتقالاً ودفيئات الورد.

على أن ما أحدث نكسة في الشعور العربي العام باستعادة جو التعاون والتفاهم والتلاقي على المشترك ولو بالحد الأدنى، كان القرار المصري بغياب الرئيس حسني مبارك عن القمة العربية الواحدة والعشرين التي انعقدت قبل ثلاثة أيام في الدوحة ـ قطر.

ذلك أن العرب عموماً قد استقبلوا بالترحاب القمة الرباعية في الرياض، ورأوا فيها محطة للمراجعة واستعادة التفاهم بين القيادات العربية التي تتحمل مسؤولية خاصة عن وقف حالة التدهور المريع التي أخذت الــشعوب العربية الى الاختصام، وفسحت في المجال لحركة حرة للنافخين في نار الفتنة، بما أثار المخاوف على أكثر من كيان سياسي، بدءاً بالعراق الذي يحتاج أهله الى مساعــدة جدية وفــورية ومؤثرة من أجل استعادة وحدتهم الوطنية وتعزيزها بالهوية العربية، عبر تضامن عربي حقيقي.. من دون أن ننسى السودان المهدد «بالتشظي»، أو لبنان الذي لم تلتئم جراحه تماماً بعد.

من هنا كان لزيارة الأمين العامل جامعة الدول العربية بغداد الأثر الطيب، خصوصاً وقد تبعتها زيارة وزير خارجية سوريا، وكانت قد سبقتها زيارة وزير خارجية مصر، مما أشاع جواً من الارتياح في أوساط العراقيين الذين شعروا بأن أهلهم يعودون اليهم لمساعدتهم عشية القرار الأميركي بإجلاء قوات الاحتلال الأميركي من أرض الرافدين خلال موعد لا يتجاوز نهاية العام 2011.

من قبل كان للعرب عدو معروف هو إسرائيل.. أما اليوم فقد تم استيلاد عدو جديد، صوّر وكأنه أخطر بما لا يقاس من إسرائيل، وأشد فتكاً منها، وأعظم قدرات، وأوسع أطماعا، وأدهى وأمكر، ثم انه يتلطى تحت راية الإسلام، هو إيران.. التي انتبه العرب اليوم الى أنها عدوهم التاريخي السابق على إقامة إسرائيل بقرون عديدة، أي الفرس! ثم انتبهوا الى أن إسلامها ليس هو إسلامهم، بل ان هؤلاء الإيرانيين الذين كانوا «فرساً» هم من «الشيعة» الذين ليسوا من الإسلام في شيء! وهكذا فقد ارتأى هؤلاء العرب أن يجمدوا أو يرجئوا أو ينسوا أو يتناسوا عداءهم مع إسرائيل، حتى وهي تشن حرب الإبادة على غزة، مستخدمة كل أنواع القتل الجماعي، الطيران والحوامات والصواريخ والدبابات وقنابل الفوسفور الأزرق، ليتفرغوا لمواجهة الخطر الإيراني الذي يمتد أخطبوطه من البحرين الى المغرب الأقصى.

أما غزة فتكفيها شكوى العجز المطلق الى المدفن العمومي للشكاوى العربية على إسرائيل في حروبها التي لا تنتهي: مجلس الأمن. ثم ان الاتحاد الأوروبي قد هب للنجدة، فجاء كباره ليتحققوا ويدققوا ويتعهدوا بالمساعدة على إعادة إعمار غزة.. صحيح ان لهم شروطهم، حتى لا تذهب أموالهم هدراً أو طمعاً للنار، وأبسطها أن تكون غزة ـ الجديدة، المحاصرة براً وبحراً وجواً، والمخضعة لحصار شامل، يشارك فيه العرب قبل الفرنجة فيمنعون دخول السلاح والذخائر، أو ما ينفع في صنع السلاح والذخائر، كما يدققون في الأدوية لان بعض مكوناتها قد تكون مصدر خطر، ثم انهم يحصرون الإشراف على المعابر في الإسرائيليين بغير شريك. ... لكن لنا، نحن العرب، شروطنا أيضا على الفلسطينيين من أبناء غزة: فعليهم أن يحسنوا اختيار ممثليهم في «السلطة» التي لا سلطة لها، فلا ينتخبوا غداً أولئك المتطرفين الملتحين والذين يتظاهرون بأنهم يؤمون المساجد للصلاة في حين أنهم حوّلوها الى مصانع للصواريخ البعيدة المدى(!!) أو الى قواعد في ترسانة عسكرية تتجاوز بقدراتها مفاعل ديمونا النووي.. ثم ان بين شروطنا أن يتفرغ هؤلاء الملتحون للصلاة، وان يتركوا السياسة لأساطينها من أهل «السلطة».

كان صعباً على العرب أن يقبلوا لمصر ومنها دور «الوسيط» بين إسرائيل وضحاياها من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة... ففي يقينهم، وفي معتقدهم وفي تقديرهم لمصر ودورها العربي عامة والفلسطيني خاصة، أن مصر هي بمثابة الأم أو الدولة الحاضنة لفلسطين وشعبها وقضيتها المقدسة.

وكان الأصعب عليهم أن يسمعوا من مصر شروطاً على «حماس» توازي أو هي قد تزيد عن الشروط الإسرائيلية... مع أنهم قد لا يقبلون الكثير من مقولات حماس ومن خطابها السياسي. فليس بين إسرائيل وأي تنظيم فلسطيني مساحة للخيار. إسرائيل كانت وما زالت وستبقى حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا في موقع «العدو» بل انها من اختار بوعي، وبالسلاح، هذا الموقع التي لا يمكنها أن تغادره، لان أي موقع آخر (كالسلام ، مثلاً) يتناقض مع طبيعتها.. ثم ان واشنطن ليست المرجع الصالح للفتوى في وطنية حماس وإخلاصها لقضيتها، حتى لو اختلفت حماس مع فتح حول «السلطة» وحول طبيعة العلاقة مع العدو الإسرائيلي. ولربما تكون حماس قد وجدت في إيران مصدراً للدعم والمساندة، لكن شباب حماس هم فتية فلسطينيون، جهدهم لفلسطين وأرواحهم لفلسطين، حتى اذا ما أخطأوا في الاجتهاد السياسي..

وقبل هذا وذاك فإن أحدا من العرب لا يمكن أن يساوي بين مصر وبين ايران، في كل ما يتصل بالقضايا العربية. الأهم هو دور مصر، وهو مفتقد حالياً. ومصر هي المسؤولة، بحكم تاريخها وموقعها ووزنها، عن جمع شمل العرب، عموماً، وعن حماية القضية الفلسطينية من التفكك والاندثار، خصوصاً.. وفي السابق، وعلى امتداد تاريخ طويل، رفع العرب ـ ومصر في طليعتهم ـ شعاراً ليس عظيم القداسة ولكنه عملي، مضمونه: اننا نرضى للفلسطينيين ومنهم ما يرتضونه لأنفسهم وما يرون فيه مصلحة قضيتهم المقدسة، التي تعني كل العرب، لكنهم هم أبناؤها وهم الأدرى والأعرف والأحرص عليها.. أليس ضــرورياً في هذه اللحظة التي نشهد فيها تحولات خطيرة في العالم أجمع، أن يتلاقى العرب على الحد الأدنى، (ولسنا نحلم بما هو أكثر!). وان يجتهدوا في إعادة لمّ الشمل الفلسطيني، من دون أن يسقطوا «المقاومة» كقوة ضغط من أجل تسوية تتباعد يوماً بعد يوم نتيجة التعنت الإسرائيلي المعزز بالتأييد الأميركي المطلق والذي سوف يستمر طالما استمر غياب العرب عن مواقع التأثير؟! لا يملك العرب ترف البحث عن عداوات جديدة، ما داموا قد عجزوا، وهم ما زالوا عاجزين، عن مواجهة عدوهم الإسرائيلي الذي غمر أرضهم بدماء شهدائهم على امتداد ستين عاماً أو يزيد.. كذلك فإنهم لا يملكون ترف التباعد والفرقة وكياناتهم السياسية مهددة في وجودهم. ويكفي أن تكون دولتان كبيرتان كالسودان والعراق تعيشان حالة من خطر التمزق والتفكك، لكي يقرع جرس الإنذار فيسمعه الجميع، ويستعدون لأسوأ الاحتمالات.. ومع ان القمة لن تستولد معجزات، إلا انه يكفينا أن يصدر عنها ما يفيد بأنها انتبهت الى الخطر ومصادره، وان المؤتمرين فيها سيجتهدون في التوافق ـ مرة أخرى ـ على التلاقي والسير بخطى أضعفهم، حتى لا يضيع ما بقي، وتحترق الأرض جميعاً، بينما نتلهى بجنس العدو الذي تتوجب علينا مواجهته. من هنا نفتقد مصر في القمة، ودورها الذي لا غنى عنه في العمل العربي، وعسى ألا يطول الغياب!