خبر من أجل مستقبل العمل الوطني الفلسطيني ..عبد الاله بلقزيز

الساعة 09:39 ص|28 مارس 2009

ـ المستقبل اللبنانية 28/3/2009

بعد اغتصاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1990) وتبديد نتائجها السياسية في "مؤتمر مدريد" (1991) ومفاوضات واشنطن (1992 1993) و"اتفاق اوسلو" (1993)؛ وبعد خمسة عشر عاماً من قيام سلطة الحكم الذاتي (1994) واخفاق التسوية وانهيار حلم الاستقلال الوطني من طريق التفاوض الذي لا ينتهي؛ وبعد خمسة أعوام من دخول "حماس" في النظام السياسي الفلسطيني الذي أحدثته أتفاق "أوسلو" والمشاركة في مؤسساته "التشريعية" والتنفيذية والأمنية؛ وبعد عام ونصف العام من الانقسام الداخلي الرهيب الذي بلغ حدود الصدام المسلح وافضى الى تقسيم السلطة والفصل بين القطاع والضفة.. بعد كل هذا الخراب العظيم وهذه المتاهة المخيفة التي ولجها المشروع الوطني الفلسطيني، آن الآوان لفتح مناقشة فكرية ومراجعة سياسية عميقة للخيارات البرنامجية التي قادت هذا المشروع الى المآلات المأساوية التي نعانيها جميعاً خلال كل هذه السنوات العجاف. وهي مآلات يخشى ان لا تكون مطافاً أخيراً لحالة التراجع والانحدار، وأن يكون ما بعدها أسوأ مما قبلها.

لن يكون في وسع أحد من قوى العمل الوطني الفلسطيني ان يدافع عن "وجاهة" خياراته السياسية في هذه الحقبة العجفاء، او ان يلتمس لنفسه عذراً عما اتاه من مواقف ساهمت مباشرة أو من طريق غير مباشر في تفسيخ الحالة الوطنية الفلسطينية. واذا كانت مقادير المسؤولية تتفاوت تبعاً للقرب او البعد من مواقع القرار، فان التفاوت هذا لا يحصر المسؤولية في صاحب المقدار الاعلى منها، ولا يسقطها عمن يدنوه كثيراً أو قليلاً في المقدار منها. فالجميع شريك فيها: من سطر السياسات الخاطئة وانفذها في المؤسسات الوطنية ومن شايعه وايده ومن عارضه ثم لحقه في الخيارات. وهي شراكة ترتب على الشركاء مسؤولية وطنية وسياسية واخلاقية في استدراك حال التفسخ المتمادية ومعالجة اسبابها وفي قلبها مراجعة الخيارات التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية الى هذا النفق الحالك والمسدود. وليس غير القوى الوطنية الفلسطينية يستطيع ان يضع الاسس لمعالجات سياسية فعالة لهذه الحال من الانسداد التي زج بالمشروع الوطني فيها. فهي من قاد الشعب في معركة التحرر الوطني وهي من رسم خريطة المعركة ووجهتها وخطط لاهدافها ومراحلها، وحدد أدواتها فرجح بعضها على بعض احياناً ورجح اخرى غلى غيرها احايين ثانية. وكل مكسب احرزه شعب فلسطين وكل خسارة مني بها انما هما مما كان لفصائل الثورة واحزاب السلطة سهم فيه.

على ان من بداهات الأمور، في مثل هذه الحال، ان تستند المعالجات السياسية التصحيحية او التقويمية التي على الفصائل وحدها ان تنهض بها في أطرها التنظيمية الداخلية (الفصائلية) ابتداء ثم في اطرها التنسيقية والوطنية الجامعة الى رصيد من الافكار والرؤى والتصورات لا يمكن ان يوفره الا عمل فكري يقوم به مثقفو الحركة الوطنية الفلسطينية سواء من ارتبط منهم بفصائل ارتباطاً سياسياً وتنظيمياً مباشراً او من طريق غير مباشر من خلال التزامه قضية شعبه ومشروعه الوطني للتحرر والاستقلال. فالمراجعة لا تصير سياسة الا متى بدأت فكرية، اي متى انصرفت الى اعادة صوغ الأسئلة وفحص الفرضيات السابقة، ونقد اليقينيات التي ثبت بطلانها في مختبر الواقع والتجربة التاريخية، والتوسل بخبرات الشعوب وحركات التحرر الوطني الحديثة والمعاصرة والاتعاظ بدروسها توطيناً للمكتسبات وتجنباً لأخطاء وقعت فيها ونكسات. وعندي ان هذه الورشة الكبيرة من العمل لا يقوم بها السياسيون بما هم يديرون الصراع ولا تقوى عليها امكانياتهم النظرية، وانما هي مما يقع ضمن مشمولات عمل المثقفين الملتزمين قضية التحرر الوطنية. وأسوأ ما قد يصيب حركة تحرر ان تنقلب فيها الموازين والأدوار ، فيقوم فيها السياسيون مثلاً بما على المثقفين ان ينهضوا بأمره، او يمارس فيها المقاتلون دور القادة السياسيين. واخشى ان شيئاً من ذلك، حصل في الحركة الوطنية الفلسطينية حين احتكر السياسيون وظيفة التنظير وصياغة الرؤية فانتهى الامر الى لا تنظير ولا رؤية!

على ان هذا الواجب الفكري (=المراجعة) ليس واجب المثقفين الفلسطينيين حصراً بل هو يشمل المثقفين العرب ايضاً، خاصة من ارتبط منهم بقضية فلسطين. وهؤلاء ليسوا عن المسألة ببعيدين ولا هم عليها متطفلين أو طارئين. فالى انهم التزموها على الصعيد الشخصي (الفكري والعاطفي) او على الصعيد المؤسسي (احزاب، جمعيات مساندة وتضامن...)، فان قضية فلسطين قضية عربية في المقام الأول، وليس هذا الكلام من الشعر او من رطانة الديبلوماسية الزائفة، وانما هو الى الحقيقة اشد اتصالاً. فاحتلال فلسطين هدد بلاد العرب جميعاً في أمنها وقوتها وتقدمها الصناعي والعلمي ووحدتها القومية. و"اسرائيل" ما أرادت من اغتصابها فلسطين ان تقيم "وطناً" ليهود العالم على حساب السكان الأصليين فحسب، وانمت ارادت هذا "الوطن" نواة دولة اقليمية عظمى تحكم "الهوامش" العربية المحيطة. ماذا نسمي "نظام الشرق الأوسط" اذن، ان لم نسمه باسمه الحقيقي: نظام المركز الصهيوني والأطراف العربية؟!

ان اي انتصار تحرزه "اسرائيل" في فلسطين، تحرزه على العرب اجمعين. وواجب المثقف العربي حتى ان كان وطنياً شديد التعصب لوطنيته على عروبته الاوسع ان يقف في خندق الدفاع عن شعب فلسطين وحركته الوطنية لانه عينه خندق الدفاع عن وطنه الصغير في لبنان او الاردن أو مصر او اليمن او المغرب...

وما أغنانا عن القول إن المراجعة الفكرية المطلوبة من المثقفين فلسطينيين وعرباً لاوضاع العمل الوطني الفلسطيني ومآزقه الراهنة انما تفترض درجة عالية من الموضوعية في النظر، ومن الحيادية تجاه اطراف الصراع الفلسطيني الداخلي، ومن النزاهة والعدل في اصدار الأحكام في الأحداث والمؤسسات والأشخاص والا ما كانت مراجعة ولا قابلة لتوليد رؤية مستقبلية للعمل الوطني وفي هذه الحال من فقدان الضوابط والقواعد الموضوعية للمراجعة يمكن وصف اية نظرة الى معضلات العمل الوطني بما هي مرافعة تبريرية لا نتيجة لها سوى تكريس حالة الانسداد!