خبر .. من التناحر إلى التناصر ..علي عقلة عرسان

الساعة 04:17 م|27 مارس 2009

 

ليس سراً أن كل ما هو عربي يمكن أن يكون عرضة للانتهاك، بمعرفة أهله أو من دون معرفتهم، بموافقتهم أو من دون موافقتهم، فهذا المعطى المعتَّق من معطيات واقعنا المر يتجدد ويتمدّد حدثاً بعد حدث وواقعة بعد واقعة.. من بيروت إلى بغداد إلى القدس إلى غزة إلى الخرطوم..إلخ، وتكون النتيجة موجة عارمة من الضعف والدمار والقهر تضاف إلى سابقاتها من موجات مشابهات، وتنمو آثارها السلبية في النفوس نموّ الفطر السام. وحين نؤوب إلى أنفسنا في لحظة صحو عقل أو ضمير، أو تحت تأثير جرح غائر وتهديد خطر مباشر.. نقول " كان ذاك فعل شاركنا فيه على نحو ما، وكان من عمل الشيطان"، فندفنه ونعود نحفر حفرة أخرى على منواله، كأننا الخلد في دوّامة الظلام والتراب. والجسم العربي يهضم ويغص بالهضم ثم لا يقوى عليه، وعندما تضيق حوصلته بالأمور الكبار ويستعصي عليه الهضم والفهم، يدخل في الوضعية النفسية المريحة أو المثالية، فيستخدم على غير إرادة أو وعي منه "آلية كبت" صاعق، بمفهوم علم النفس للكبت، تتجاوز فيها الأحداث أو الأمور دائرة الوعي والإدراك والمحاكمة المنطقية لتصب في جوف النفس بآلية لا إرادية تغيِّبها عن الوعي، فتزدرد النفس ما يواجهها، ولا يعني ذلك أنها تميت ما تزدرده أو تبدده أو تنفيه بل يستقر في الأعماق ويفعل فعله هناك. وتؤدي تلك الحالة إلى راحة ظاهرة ومحنة باطنة تستفحل مع الزمن وتتورم فيها النفس تورماً مرضيّاً خبيثاً يقضي على الشخصية والذات الوطنية والقومية. ولا منجاة من هذا الأمر، فيما يبدو من دلائل وإشارات ومعطيات تتراكم، مادام هناك عرب مع العرب وعرب ضدهم يشتبكون دائماً في صراع، ظاهر وباطن، يخطط له غيرهم ويزجّهم فيه، فيتوافدون عليه أسراب فَراش تترامى في نار مصباح، فينتشر شواظ أجسامها.. وكل منها يدور في حلقة مفرغة يؤدي دورانها المستمر إلى طرد مركزي مستمر، وتوليد طاقة سالبة تفتك في الداخل وتضعف الثقة وتشتت القوة، ويوظفها الأعداء لخدمتهم. والطرد المركزي العربي في تلك الدائرة لا علاقة له مطلقاً بتخصيب اليورانيوم لا سمح الله، فذاك ما لا يفكر به أحد في هذه الساحة المنتهَكة أرضاً وشعباً منذ قرون، بل يتعلق بطرد الصالح من العلاقات والأفكار والآراء، والقيم، والمعايير، والسلوك، والمشاريع، والمصالح، والاستراتيجيات والخيارات ونبذه.. وحتى من كان على تلك الشاكلة من أبناء الوطن ذاتهم.. ليبقي الطالح من بعد نواة كثيفة صلبة مستقرة جاذبة وحاكمة وآمرة وفاسدة ومفسدة، تتدحرج وتكبر كلما تدحرجت، وفي طريق دحرجتها تدمر وتنشر الفوضى والإحباط، وتتصارع عناصرها في داخلها على الحلوة المرة لأن ذلك أضحى ديدنها ويحمل تعويضاً نفسياً لها عما تفتقده، وتبقى في حركة عشوائية لا تكاد تُفهم إلا في إطار جهل وحقد يأكلان نفسيهما ويستعديان غيرهما، فيزيد الهش من الأوضاع والأمور هشاشة على هشاشة، ويستبيح العدو ما تبقّى للنفس من حمى.

لا أقول هذا الكلام تثبيطاً أو تيئيساً من نتائج القمم العربية ونحن على أعتاب قمة الدوحة، وهي قمة آخر مصالحة عربية وليس المصالحة العربية الأخيرة، لأن حبل الخلافات العربية على الجرار بحكم ما هو قائم من معاهدات واتفاقيات وولاءات والتزامات لأقطار وأنظمة عربية مع أعداء الأمة العربية ومحتلي أرضها وقاتلي أبنائها ومستهدفي مصالحها على الخصوص، فتلك قمة نرجو لها النجاح وأن تخرج من شرانق القمم العربية المتوالية التي تخنق القرارات والإرادات والآمال، وتصب في حلوقنا المرارة.. بل أقوله رغبة في مصالحة عربية جذرية وجوهرية تقوم على حل الخلافات وليس على وفاق واتفاق حول إدارتها من منظور قطري لا صلة له بالبعد القومي، ومن وجهات نظر ومواقف ومصالح متعارضة ومتضادة، تبقي الجمر تحت الرماد والشك ملء الفؤاد، كما هي الحال العربية منذ عقود من الزمن.. وأقوله رغبة في الوصول إلى نقطة لقاء مشتركة واحدة موطّدة في النفوس والعقول والممارسات، نظرياً وعملياً.. نقطة لقاء مضيئة واتفاق صريح عميق صحيح،  ولو على أمر واحد يكون فيه الرسميون العرب على رؤية استراتيجية قومية، وقلب واحد، ورأي ثابت، وإرادة سياسية قوية مستقلة، في أثناء انعقاد القمة وبعد انفضاض عقدها.. أمر نبني عليه جسور ثقة ومصداقية فعل والتزاماً حقيقياً يؤسس لما بعده.. في مناخ لا يشوبه الشك ولا تكون فيه الأقوال والأفعال أقنعة، وليس فيه حالة ارتهان مواقف تفوح منها رائحة ارتباطات من تحت الطاولة ومن فوقها.. ونكون في قمة عربية لا يدخلها نظام مبرمَج يتحرك في الهامش المحدد له ويقوم بما يُكلف به، ويعمل ضد الأمة.. انطلاقاً من مصلحة ضيقة أو رؤية مريضة، أو إرضاء لمن يرتبط معهم بمعاهدات واتفاقيات ومصالح، تفوق في قوتها لديه والتزامه بها وتأثيرها عليه، كل التزامَ وطني وقومي وديني وخلقي.

 إن الوضع العربي هش بما فيه الكفاية، ولا يحتمل مداورات ومناورات تأتي على ما بقى من روابط بين أقطاره، ولا يجوز أن يبقى تحت تأثير سياسات متناحرة ومتضادة لا يستفيد منها إلا العدو الذي يضرب ويحاصر ويعتدي ويهدد ويتوسع ويهوِّد، ويفعل ما يشاء في ظل غياب عربي ملحوظ، بل في وضع تواطؤ عرب على عرب، في مباراة الفوز بكأس من ينتصر مشروعه على مشروع الأمة، ويخرج من المواجهة مع أعدائها، ويريها أنه " قادر، ويستطيع، وأنه على حق"، ويفرض عليها ما يريد من حلول ورؤى وتصفيات ومشاريع لا مصلحة لها بها.. ليكتشف من بعد خراب البصرة ألا مصلحة له بها أيضاً.

إن الواضح الثابت في سياسات عربية معلنة، قبل قمة الدوحة وما سيستعصي على التغيير في أثنائها ومن بعدها.. أنه لم يبق ما يمكن أن يسمى "جوهرياً وجذرياً وثوابت قومية" فيما يتصل بالصراع العربي الصهيوني لدى الدول التي عقدت معاهدات مع العدو.. ومن ثم فهي حليف أو وسيط، ولا تكتفي بخروجها من المواجهة بل تريد أن تفرض نهجها وتعممه على الآخرين بكل السبل والوسائل، سلبيها وإيجابيها، لا سيما على من بقيت لهم أرض محتلة، أو رؤية مغايرة للحل الشامل، أو مجرد تفكير، ولو في حدوده الدنيا، بدعم خيار المقاومة والتطلع إلى التحرير. فأصحاب المعاهدات يأخذون على من يقولون بدعم المقاومة إنهم يقاتلون بها ليصلوا إلى اتفاق حول المحتل من أرضهم.. والمحتلة أرضهم يقولون إنهم يديرون الصراع مع العدو وفق معطيات وحقائق ووقائع على الأرض، منها أن أرضهم محتلة وعليهم أن يسعوا إلى استعادتها بالوسائل الممكنة، وأن العدو يُعد ويستعد ويهدد ولا يستثني أحداً عند اللزوم، وأن المقاومة حق مشروع لمن تحتل أرضه وينشد حقه، وكل من يقاوم من العرب محتلة أرضه أو أجزاء منها.. وعليه فمن منظور وطني وقومي ينبغي دعم المقاومة ورفعه خياراً. وهؤلاء وأولئك يلتقون في النتيجة على خيارات " السلام الاستراتيجي" و "المبادرة العربية".. وفي النتيجة على عدم النظر إلى المواجهة بوصفها جوهرية وجذرية ترمي إلى التحرير، وهذا يقود بعض العرب إلى تأكيد أقوالهم وسياساتهم وخياراتهم التي تقول بعدم جدوى الاستعداد لأي نوع من القتال مع المحتل حتى لو قصف مدنهم واخترق حرمة أوطانهم ومقدساتهم.. ومن ثم فالمقاومة محاصرة أو هي خيار لا يلتقي حوله عرب القمة، ولا يتركون شعوبهم تلتقي حوله.     

وهذا الخلل في الموقف القومي من أهم قضية عربية مركزية، قضية فلسطين وما يتصل بها، لا يمكن إصلاحه، لأنه خيارات ثابتة لأقطار وسياسات تتعارض كلياً أو جزئياً مع خيارات أقطار عربية أخرى. ولا نرى في المنظور القريب ما يمكن أن يقود إلى رؤية مشتركة في هذا المجال على الخصوص، الأمر الذي يجعل العدو الصهيوني يستمر في احتلاله وعدوانه وحصاره وتهديده وغطرسته، وفي برامج الاستيطان والتهويد والتسفير " ترانسفير" التي يقوم بها أو يعدّ لها. والمقاومة التي أصبحت ضرورة من جهة وخياراً عريضاً لجماهير شعبية عربية من جهة أخرى، معرضة للحصار والضغط والملاحقة والشلل والإبادة.. حتى بمشاركة من جهات عربية قد يأتي يوم تقول فيه: "إن ذلك كان عملاً من أعمال الشيطان".

لن تدخلنا قمة الدوحة ولا قمة عربية قادمة في المنظور القريب على الأقل إلى دائرة وعي بأهمية الإعداد قومياً لامتلاك قوة ندافع بها عن أنفسنا وحقوقنا بمواجهة من يعتدي علينا ويطمع بنا.. فكل قطر يرفض مواجهة العدو بمفرده، أو لا يستطيع ذلك، أو لا يريده، وكل الأقطار لا تجمع على مواجهته أو دعم من يواجهه، حتى ولو كان ذلك على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو حتى الإعلامي؟! تلك كارثة في الموقف القومي لن تصلحها قمة، ويستثمرها العدو إلى أبعد الحدود، ويناصره في ذلك حلفاؤه الذين يبتزوننا لصالحه، ويضعفوننا أمامه، ويسخِّرون البعض منا لتثبيط هممنا في مواجهته أو لحرف مواجهتنا له نحو مواجهة من يعاديه، أو يقومون بالتواطؤ معه ضدنا.. فكيف تقوم لنا بمواجهته قائمة في هذا المناخ؟

العدو الصهيوني يضرب في كل مكان من دون رادع، بدعم من حلفائه والمتواطئين معه، وآخر ضرباته المعلنة كانت مؤخراً في السودان المستهدَف ـ  قالت صحافة العدو " في ذروة حملة "رصاص مصهور" هاجم سلاح الجو الإسرائيلي قافلة من المركبات في السودان كانت حسب الاشتباه تقل سلاحا ووسائل قتالية مصدرها من إيران وكانت في طريقها إلى غزة عبر صحراء سيناء. هكذا أفاد أمس مراسل  شؤون الأمن القومي دافيد مارتن في شبكة سي.بي.اس." ـ  إن العدو يمنع، بمشاركة عربية ودولية، وصول البندقية والرصاصة إلى من يحاصرهم ويعمل على إبادتهم في غزة،  ويضرب في العمق العربي هنا وهناك، من سورية إلى السودان، ويطور قدراته القتالية بكل الوسائل، ويصدِّر السلاح ليطور السلاح ـ قبل بضعة أيام وقعت في الهند صفقة ضخمة بحجم 2 مليار دولار هي  الصفقة الأكبر في تاريخ الصناعات الأمنية الإسرائيلية التي في إطارها ستزود الصناعة الجوية سلاح البحرية الهندي بصواريخ متطورة من طراز "براك 8"." ـ والعدو الصهيوني دخل بقوة في البحر الأحمر بالتعاون مع حليفه الأميركي.. فماذا نقول وماذا نعمل بعد أن كثف وجوداً من نهري دجلة والفرات في العراق إلى البحر الأحمر وعمق إفريقية.؟

لا أظن أن قمة الدوحة معنية بهذا الجانب من نشاط العدو الصهيوني وتدخله الخطير، وتهديده ووعيده وإعداده واستعداده، فهي قمة قد تنجح في مصالحة واتفاق على إدارة الخلافات العربية ـ العربية وليس أبعد من ذلك. ونتمنى أن نكون على خطأ، وأن تتجاوز القمة هذا الجدار إلى ما يرُد أو يحدّ مما يلحق بالأمة العربية من أضرار.. حيث يتراجع مد الضعف والقهر والألم والتدابر في الحياة العربية وعلى المستويات كافة.. وننتقل من التناحر إلى التناصر.

والله ولي التوفيق.

دمشق في 26/3/2009