خبر من غزة إلى أم الفحم.. لون واحد من الفاشية../ ناصر السهلي*

الساعة 06:48 م|24 مارس 2009

* كاتب فلسطيني مقيم في الدانمارك 

24/03/2009  14:10 

 

إذا كانت هذه أخلاقيات جنود باراك واشكنازي، فما هو نقيضها؟ 

ثمة مفارقة، وإن بدت للبعض على غير ما هي عليه، بين الواقع والادعاء الذي يأتي عليه جيش الاحتلال ومؤسساته وقياداته.. فبلغة إنكليزية قريبة جدا من اللوحة الدامعة وبكائية مستمرة للرأي العام العالمي يقف المتحدثون باسم دولة "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" ليلقي علينا وعلى العالم مواعظ بالاستعلائية المبطنة التي يجري تدريب هؤلاء المتحدثون عليها والتي تخفي وجها قبيحا، ربما لم يعد مخفيا، لممارسات مقوننة..

 

في غزة، نكتشف أن كل ما كان يقوله السكان والمنظمات الدولية والمحلية عن ممارسات تصل حد جرائم حرب ومنها ممارسات تعجز اللغة العربية عن نقلها.. نكتشف على لسان أشكنازي، ورغم اعترافات جنود باراك والمؤسسة العسكرية والسياسية بأن "جيش الدفاع" لديه "فائض أخلاقي" و"يتفوق على كل جيوش العالم بأخلاقيته العالية"، حسبما قاله اشكنازي المزهو في دفاعه عن ممارسات تمت بناء على أوامر مباشرة من المؤسسة العسكرية الاحتلالية الخاضعة بالتأكيد للمستوى السياسي الذي قرر كل ممارسة وكل تفصيل مهما كان بسيطا في استهدافات متعمدة للبنى التحتية وللبشر أولا وأخيرا..

مفارقة عجيبة أن يستمر الكذب علينا وعلى العالم بهذه الاستعلائية العنصرية والتي تدعو إلى السخرية إذا ما علمنا بأن أدلجة العقل وتربيته على قراءة الآخر بدون قيمة، بل والأدهى من ذلك وبعد بروز الصور التي طُبعت على ما يرتديه هؤلاء الجنود.. وهي مشينة بكل المقاييس والمعايير لو كان متلقيها يستوعب معنى أن يصل العقل الفاشي إلى تباه ومنافسة على الصورة الأكثر فظاعة، بل إن الجمهور الإسرائيلي الذي تلقى بعض كتابات عميرة هاس عن ممارسات جنود الاحتلال في منازل الفلسطينيين كانت بعض ردوده أفظع من الممارسات إياها.. فبعضهم وباختصار شديد استهجن أن يمارس هؤلاء الجنود تلك الممارسات قائلين: جنودنا يمكن أن يقتلوا أطفالا ونساء، لكنهم لا يمكن أن يفعلوا ما تقوله عميرة هاس.. والفعلة تتمثل بالتغوط على أثاث المنازل ووضع الغائط في ثلاجات البيوت..

 

رد البعض الممارسات التي قام بها جيش الاحتلال إلى أن "حماس تستخدم المدنيين دروعا بشرية"!، قبل أن تظهر الحقيقة القائلة بأن هؤلاء الجنود هم أنفسهم كانوا يمارسون ما اتهموا الآخرين به.. والعجيب أن المنظمات الدولية ورغم استماعها أثناء العدوان على غزة للفظائع التي مارسها هؤلاء الجنود إلا أنها بدت أكثر من عاجزة عن فعل شيء.. فقط لأن الأمر يتعلق بـ"جنود يهود" "أخلاقياتهم رفيعة" ولا يمكن أن يمارسوا ما يدعيه السكان! وما فائدة أن نستمع للوحة بكائية عن "اضطرار الجنود" للقتل بينما الصورة المعاكسة تقول بأن تلذذا مرضيا وممنهجا مارسه جنود الاحتلال.. من ينسى صور العائلات الفلسطينية التي تم حصرها في طبقة من طبقات المنازل المحتلة واستخدامه! ا كدروع بشرية؟ بل من ينسى شهادات الناس عن القتل الجماعي الذي مارسه الجنود والقناصة بحق سكان من غزة حين تم خداعهم بأن قيل لهم "اذهبوا من هنا" فبل أن يتم حصدهم بأسلحة الجنود الذين يحملون أوامر واضحة من قياداتهم العسكرية... هذه بالتأكيد "أخلاقيات" لا يمكن أن نجدها عند الكثير من الجيوش "المتحضرة"!

 

المفارقة الأخرى على "أخلاقيات " قادة دولة الاحتلال، السياسيين والعسكريين الملوثين حتى النخاع بالفساد وانعدام الأخلاق.. من رأس الدولة السابق حتى هذا المعتوه ليبرمان.. هي المفارقة التي تصر على إدعاءات "السمو الأخلاقي" في ذات الوقت الذي تلغي وبأوامر مباشرة من آفي ديختر فعاليات ثقافية في الناصرة والقدس.. هذه ممارسات أخلاقية ترى في الثقافة تهديدا مباشرا لفضح الوجه الحقيقي لقادة على شاكلة من يحرض مجتمعه على "الآخر" تحت شعارات "التعددية والديمقراطية".. فمن غير المفهوم كيف لديختر وشرطته ومحاكمهم أن ترى في فعالية ثقافية في الناصرة وترى في الثلاثي جبران "خطرا على أمن الدولة"..؟؟ سؤال يستحق فعلا بعض التأمل حول تعنيه "الديمقراطية"! و"التعددية" و"السمو الأخلاقي"..

 

لو أردنا المزيد من المفارقات التي تتناقض تماما مع اللغة الانكليزية في لوحتها البكائية والمشتكية من "الخطر العربي" يمكننا العودة إلى عكا قليلا.. فسائق عربي اعتبر في محكمة الديمقراطية "مستفزا" لأنه كان يستمع للموسيقى في سيارته بينما الجمهور اليهودي "يحتفل" بشيء آخر.. ومن تلك الحادثة يمكننا أن نفهم ما تعنيه عملية التحريض ضد العرب والعنصرية المتفشية كالنار في الهشيم في محاولات مستميتة لتنفيذ مخططات حفنة من الإرهابيين والمتطرفين من أمثال ليبرمان الذي لم يصوت له الجمهور إلا بناءا على فاشية شعاراته..

 

مرض حقيقي هذا الذي يدب في هستيريا جماعية غير مدركة لما تريده سوى الالتقاء على شعار "الإخضاع" ولو بالقوة وكل الوسائل الأخرى..

 

منظر مخزي هو المنظر الذي تجرف فيه الجرافات أحياء وبيوتا فلسطينية في القدس ويافا، بينما ترتفع وراء جدران العار والبؤس والعنصرية أفضل الخدمات والأبنية لمواطن قادم من بروكلين أو باريس..

 

نعم، من يراقب ويعيش المشهد سيكتشف سريعا بأن خللا ما، رغم نكرانه، يصيب وبشكل جماعي مجموعة بشرية تقبل دون وعي، أو بوعي، أو تفكير أن تُحرض عاطفيا وأن يُغيب عقلها استلابا لمصلحة مجموعة من الانتهازيين والفاسدين الذين يعتاشون حزبيا وسياسيا على خلق عقل مشوه لا يرى تأنيب ضمير في ممارسات قد تجلب كارثة غير متوقعة في العلاقة بين فلسطينيي الداخل وهذا النوع من السياسات الممنهجة "لأرض أكثر وعرب أقل"..

 

في أم الفحم بدا المشهد أكثر وضوحا.. فحين تكون مدينة عربية محاصرة بكل أنواع الأذرع الأمنية والجيش والآلات الثقيلة فقط لمصلحة حفنة من المتطرفين الإرهابيين..

 

وحين لا تتردد قوات الشرطة والجيش في اقتحام المدينة التي لم يفعل سكانها سوى ما يمكن لأي كائن بشري أن يفعله بوجه هؤلاء المعتوهين الآتين على خلفية إيديولوجية متمثلة في طرد وقتل العرب.. كما حدث قبل سنوات قليلة في شفاعمرو.. فإن ذلك الاقتحام واستخدام كل وسائل القمع ضد العرب وليس ضد من جاء ليقتحم المدينة على خلفية عنصرية وفاشية، فإن نوعا من "الأخلاقيات" الأخرى تبرز مع تسيد اليمين المتطرف..

 

ربما نحن أمام مفارقة أخرى مخزية، تكون فيها ممارسات الجنود في غزة مقدمة لمشهد أم الفحم والقمع الثقافي في الناصرة والقدس، وربما مقدمات تشرعن فيها كل أدوات "الأخلاق الرفيعة" التي تبجح بها من يدعوون أنهم يلعبون السياسة.. و يا لها من لعبة قذرة..

 

تلك وغيرها من التفاصيل اليومية من الإذلال والاستهتار بحياة وقيمة البشر لا تأخذ بعين الاعتبار كل الهرطقة التي يأتي عليها من يخجلون من انتماءاتهم العربية والثقافية في التمسح بالقوي أو صاحب السلطة المدجج بكل أنواع السلاح "الأخلاقي".. فتحت أقدام اليمين المتطرف وحفنة من المعتوهين المقتحمين لأم الفحم تتهاوى شعارات الانصهار وشعارات المساواة.. وهنا تماما سيكتشف البعض متأخرا حجم الكارثة التي تضع إسرائيل نفسها في عين عاصفتها.. وستكتشف متأخرة بأن كل الهرطقة عن "أخلاقيات الجنود" ما هي إلا جرائم ضد الإنسانية لا يمكن أن يفلت مرتكبوها بدون حساب.. وإلا، فنحن حقا أمام كارثة يسود فيها قانون الغاب الذي يبرر كل فعل بناءا على ما "تتمتع به ! إسرائيل من أخلاقيات أفضل من أخلاقيات كل البشر"!