خبر عبد الله الشاعر يكتب: « كلهم إلى زوال »

الساعة 02:58 م|20 مارس 2009

على شرفة منزلهم الطاعن في السن والموغل في القدم، جلس أبو ثابت وأبناؤه الصغار في جو عائلي مشحون بالعاطفة والمرح.. كان صغيرهم في عمر التهجي وجلّ اهتمامه دمية يلهو بها... وكان ثابت قد داهمته الهموم ولما يبلغ سن الرشد بعد، لكن ضغط الحياة في أزقة القدس يترك آثاره على وجوه الناس... فتوهمك ملامحهم بأعمار أكبر من الحقيقة... وبينما كانت أم ثابت مشغولة بإعداد وجبة العشاء، كان أبو ثابت يحدّث أبناءه عن أجدادهم الذين أصبحوا في ذمة الله منذ قرون... وقد ورثوا أبناءهم وأحفادهم عشقا لهذه الأرض والتصاقا بترابها...

 

وفي خضمّ هذا الحديث المجبول بالتاريخ والجغرافيا ووصايا الأجداد والمعجون بنبرة يتقاسمها الفخر تارة ولا تخلو من الحزن تارة أخرى، قفزت إلى فم ثابت أسئلة لم يطق حبسها في داخله...

 

ثابت: ولكن يا أبت إن أجدادنا لم يورثونا سوى هذه الأزقة الضيقة والمنازل الآيلة للسقوط.

 

أبو ثابت: لكن ألا ترى يا بني أن هذه المنازل القديمة قد تحملت من عوامل السياسة، ورياحها العاتية، وزلازلها المدمرة، ولم تسقط بعد.

ضحك ثابت حتى علا صوته... وتساءلت سنّه التي لم تبرح طفولتها بعد.

وهل للسياسة رياح وزلازل وبراكين؟

 

أبو ثابت: حتى تكبر يا بني ستتسع مداركك ويكبر عقلك، ويتعمق تفكيرك، وتعي جيدا ما أقول.

ثابت: لكنك يا أبت طالما قلت لي أن لا أكون في الصف كالأطرش في الزفة، بل عليّ أن أصغي للمعلم في كل ما يشرح وأن لا أسكت عن شيء غامض لم أفهمه... وها أنا ذا لا أفهم الآن ما تقول يا أبي.

أبو ثابت: دعنا نرى ما أعدته أمك لنا طعاما للعشاء فأنا جائع ومتعب يا ولدي.

ثابت: وأنا جائع مثلك يا أبي، لكن جوعي لمعرفة الحقيقة أكبر...

 

تنهد أبو ثابت تنهيدة تشي بحزن يوغل في كل خلاياه، ويكاد قلبه يتفطّر من الهم، لكنه يلوذ بصمت يكاد ينهي دفء الجلسة.

وهنا يحاول ثابت تغيير مسار الحديث باقتراح يقدمه بين يدي أبيه على شاكلة سؤال طفولي.

ثابت: ما رأيك يا أبي أن نترك هذه الحارة وأن نفتّش عن سكن جديد أكثر جمالا واتساعاً؟

 

أبو ثابت: وأين نذهب يا بني؟

 

ثابت: إلى بيت لا تزوره الشمس خلسة، ولا تفوح من جدرانه رائحة الرطوبة.

 

أبو ثابت: ولكنه منزل أجدادك.

 

ثابت: وما قيمة المنزل إذا وفّر لنا الإرث ولم يوفّر لنا الراحة.

 

أحس أبو ثابت أن ولده لا بد له من الانغماس في الهم مبكرا، وأن يعي أبعاد ما يقول، وخطورة ما ينادي به.

بدا أبو ثابت وكأن بركانا يثور في أعماقه.. نظراته توحي بأنه يحلّق بأبعد ما تراه العين.. وفي كلتا عينيه دموع يحبسها مخافة أن يراها أطفاله الصغار.

تسمّرت عينا ثابت في محيّا أبيه ثم سارع بالقول: هل أغضبتك يا أبي؟

اكتفى أبو ثابت بالصمت، لكن ملامحه توحي بأشياء كثيرة تعتمل الساعة في ذهنه.

تنهد أبو ثابت تنهيدة عميقة أتبعها بنفخة لم ير ثابت أطول منها ولا أعمق.

 

ثابت: لقد سمعت يا أبي أن اليهود يعرضون على أهل هذا الحي شراءه بملايين الدولارات، فلماذا لا نبيع بيتنا ونشتري شقة أجمل في مكان أوسع وأرحب؟

 

أبو ثابت: ماذا تقول؟ (رددها بصوت عال وغاضب) ثم ما لبث أن تمالك نفسه باحثا عن جواب بمقدور ولده الصغير تفهمه.

 

ومن أين لنا بقبة الصخرة التي تكتحل بها عيوننا كل صباح..؟ من أين لنا بمسجد فيه آثار خطى الأنبياء وسلّم العبور إلى السماء..؟

 

نحن هنا نتمسك بالتراب حتى لا تسرقه العصابات ونتمسك بالجغرافيا حتى لا تشوّهها خرائط الأمر الواقع... نتمسك بالتاريخ حتى لا تزوّره الأساطير والخرافات والنبوءات الكاذبة.

ثابت: ولكننا يا أبي بالكاد نستنشق هواءً نقيّا ونشرب ماء غير آسن.

أبو ثابت: ولكن أيهما أكثر سوءاً يا ولدي، أن نملأ الرئتين بهواء غير كامل النقاء أم نملأهما بهواء الذل والمهانة؟. أنت ما زلت صغيرا ولم تجرّب بعد أزمة الضمير يا ثابت... لم تجرّب ذل التشريد ومهانة اللجوء.

ثابت: أوتظن يا أبي أن تلك العمارات الشاهقة وأصحابها إلى زوال... ألا ترى كيف تناطح السحاب فأين لك بحتمية زوالها... بصراحة إنني أشعر أن بيوتنا القديمة آيلة للسقوط وهي التي في طريقها إلى زوال!!

أبو ثابت: لا يا بنيّ، وأريدك أن تعرف أن هذه العمارات قد بنيت على سطح الأرض أما بيوتنا العتيقة فهي موغلة في باطن الأرض وفي باطن التاريخ ولن تزول.

ثابت: لم أفهم قصدك (موغلة في باطن التاريخ).

أبو ثابت: اعلم يا ولدي أن القدس مدينة قد تعاقبت عليها حملات وغزوات منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، فهل تبقّى من هذه الحملات شيء.

ثابت: وأي حملات تعرضت لها القدس يا أبي؟

أبو ثابت: القدس يا ولدي قلب الدنيا ونبض الحياة... القدس يا ثابت المدينة المشتهاة والعروس التي حاول اغتصابها الكثير ولم تفقد طهارتها... القدس يا ولدي صانعة الأحداث، فهل سمعت بحرب لم تكن القدس وقودها؟!

 

فقبل الميلاد احتل الاخمينيون فلسطين، وكذلك فعل الرومان، وسنة 70م حاصرها طيطوس الروماني وأحدث في المدينة النهب والحرق والقتل.. كما تعرضت للاحتلال البيزنطي بعدما غرقت عقودا في ظلمات الاحتلال الفارسي.. وقد لحق القدس أذى كبيرا من الحملات الصليبية حتى تحررت على يد صلاح الدين الأيوبي، ثم ما لبث أن وقعت فلسطين وقدسها ضحيّة الأطماع الاستعمارية لتسقط تحت الاحتلال البريطاني قبل أن يسلمها الغزاة البريطانيون لليهود القادمين من شتات الأرض.

 

ثابت: وأين ذهب كل هؤلاء الغزاة يا أبت؟

أبو ثابت: (بلغة الواثق والمؤمن بحتمية النصر) إلى زوال يا بني فهذه الأرض لا يعمّر فيها ظالم.

ثابت: ولكن اليهود يملأون الأرض ظلما فلماذا لا يرحلون؟

أبو ثابت: إن سنة الحياة لا تحابي أحدا يا بني، وهذا ما يجعلني على ثقة برحيلهم.

بعد هذا الحوار شرد كل من أبي ثابت وولده في خيالاتهما وساد صمت استمر بضع دقائق قطعه صوت أم ثابت وقد قدمت ومعها ما أعدّت من طعام العشاء.

تحلّق أفراد الأسرة حول مائدتهم المتواضعة، فأكلوا منها وحمدوا الله جميعا، لكن أبا ثابت أكثر من الحمد والشكر فقد ملأ قلب ولده بقناعة البقاء على هذه الأرض وزوال المحتلين قبل أن يملأ معدته بالطعام