خبر المحكمة الجنائية الدّولية: أداة لتطوير القانون الدّولي أم لهدمه؟ ..د. حسن نافعة

الساعة 08:14 م|19 مارس 2009

تختلف المجتمعات «المنظمة»، أي التي تقوم على حكم القانون، اختلافاً جذرياً عن المجتمعات «غير المنظمة»، أي التي يغيب فيها القانون ويسودها منطق القوة. فبينما يدار النوع الأول من المجتمعات استناداً إلى قواعد عامة تصدر وفق ضوابط وآليات متفق عليها وتسري على الجميع من دون تمييز، يدار النوع الثاني وفق «قانون غاب» تحكمه علاقات القوة السائدة. لذا من الطبيعي أن تعيش المجتمعات المنظمة «حالة القانون» في مقابل «حالة الطبيعة» التي تعيشها المجتمعات غير المنظمة، إذا جاز لنا استخدام المصطلح الأثير لدى الفيلسوف البريطاني هوبز! ولأن المجتمعات البشرية ليست ساكنة وإنما هي في وضع حراك دائم فبوسع المجتمعات التي تعيش «حالة الطبيعة» أن تنتقل إلى «حالة القانون» حالما توافرت لها شروط ثلاثة متكاملة: سلطة تشريعية منتخبة تتولى إصدار القوانين، وسلطة تنفيذية منتخبة أيضاً وفعالة تتولى تطبيقها وتملك ما يكفي من الوسائل لفرض احترامها على الجميع، وسلطة قضائية مستقلة تتولى تفسيرها والفصل في المنازعات التي قد تثور بين المواطنين، من ناحية، أو بينهم وبين أجهزة الدولة، من ناحية أخرى. معنى ذلك أنه لا يكفي وجود هيئات تملك سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية كي تكتمل أركان دولة القانون، وإنما يجب أن تستمد هذه الهيئات الثلاث شرعيتها من إرادة عامة تفصح عن نفسها من خلال انتخابات حرة، وأن يكون هناك فصل واضح بين سلطاتها بما يكفل للسلطة القضائية استقلالها الكامل.

 

فحين لا تكون سلطة التشريع معبّرة بصدق عن الإرادة العامة، وهو أمر يصعب التحقق منه في غياب انتخابات نزيهة، يسهل التشكيك في مصداقية ما تصدره من قوانين ويسهل اتهامها في هذه الحالة بالانحياز لمصالح قوى وفئات اجتماعية مهيمنة في الداخل، أو بالخضوع لضغوط قوى دولية خارجية مهيمنة، وعدم مراعاتها بالقدر الكافي للمصلحة الوطنية العامة ومصالح غالبية المواطنين، وهو ما ينبغي للتشريعات الوطنية أن تسعى لتحقيقه.

 

وحين لا تكون السلطة التنفيذية المسؤولة عن تنفيذ القوانين معبرة عن غالبية سياسية غير قابلة للتشكيك في شرعيتها، أو وصلت إلى موقعها بعمل انقلابي وليس من خلال صناديق الانتخاب، تصبح أكثر ميلاً للانتقائية عند تطبيقها للقوانين، إما مراعاة لنفوذ أو حرصاً على توازنات معينة، مما يخل بأحد أهم أركان القاعدة القانونية، وهي عموميتها وقابليتها للتطبيق على الجميع من دون تمييز.

 

وحين لا تكون السلطة القضائية المنوط بها تفسير القوانين والفصل في المنازعات مستقلة استقلالاً تاماً يصبح من الصعب عليها في هذه الحالة توفير ضمانات المهنية والحياد المطلوبين لتمكين الأجهزة القضائية من القيام بواجبها على النحو الأكمل وتوفير المستوى المرضي من العدالة الناجزة.

 

ولأن شروطاً كهذه لا تتوافر إلا في النظم السياسية الديمقراطية، فبوسعنا أن نقرر هنا أن المجتمعات التي تدار بوسائل ديمقراطية هي وحدها التي استطاعت تجاوز «حالة الطبيعة» إلى «حالة القانون». أما المجتمعات التي لا تدار وفق الآليات الديمقراطية المتعارف عليها، أي تلك التي لا توجد فيها سلطات تشريعية وتنفيذية منتخبة انتخاباً حرّاً نزيهاً وسلطة قضائية مستقلة استقلالاً كاملاً، فما تزال تعيش «حالة الطبيعة» ولم تصل بعد إلى «حالة القانون»، وهو ما يصدق على كل المجتمعات أو النظم البشرية سواء كانت محلية أو دولية.

 

وحتى وقت قريب كان فقهاء القانون الدولي يروّجون لفكرة مفادها أن النظام الدولي، والذي ظل لقرون طويلة يعيش «حالة الطبيعة» نظراً لارتكازه الراسخ على مبدأي السيادة وتوازن القوة، بدأ يشهد منذ الحرب العالمية الثانية انطلاقة سريعة للانتقال إلى «حالة القانون»، بدليل:

 

1- إقرار أعداد متزايدة من الدول بخطورة الاعتماد على القوة وحدها في تسيير الشؤون الدولية والاتجاه المطرد نحو تحريم استخدامها وسيلة لحل المنازعات الدولية.

 

2- تشابك وتداخل المصالح الدولية تحت ضغط التطور العلمي والتكنولوجي، وما استتبعه ذلك من قبول متزايد بتضييق نطاق السيادة وإخضاع المفهوم لمتطلبات المصلحة المشتركة في السلم والأمن الدوليين.

 

3- اقتناع متزايد بأهمية الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية في إدارة العلاقات الدولية والتوسع التدريجي في إنشائها وتزويدها بالسلطات والصلاحيات اللازمة لتمكينها من القيام بوظائفها المتنامية.

 

وكان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن يشكل قيام «عصبة الأمم» في مرحلة ما بين الحربين العالميتين ثم «الأمم المتحدة» بعد الحرب العالمية الثانية، تطوراً لافتاً للنظر في هذا الإطار. فقد اعتبر كثيرون أن يصبح «مجلس الأمن»، والذي خوّله ميثاق الأمم المتحدة صلاحيات وسلطات واسعة، نواة لحكومة عالمية في المستقبل، وأن تصبح «محكمة العدل الدولية»، نواة لسلطة قضائية عالمية، بل ولم يستبعد البعض احتمال تطور الجمعية العامة للأمم المتحدة لتصبح نواة لبرلمان دولي يتمتع بسلطات تشريعية حقيقية ويمارس دوراً رقابياً على أداء مجلس الأمن. وهكذا بدا النظام الدولي في مرحلة ما قابلاً للتطور، بل ويتطور فعلاً في اتجاه التحول إلى نظام ديمقراطي مكتمل المعالم ويحتوي على سلطات ثلاث يجري العمل على الفصل وتحقيق التوازن والرقابة المتبادلة بينها!.

 

غير أن اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، عقب فترة وجيزة من قيام الأمم المتحدة، وضع حدّاً سريعاً لهذه التوقعات المتفائلة. فقد أدّى الإسراف في استخدام حق الفيتو، خصوصاً من جانب الاتحاد السوفيتي، إلى شلل مجلس الأمن مما انعكس بدوره على محكمة العدل الدولية التي بدأ دورها في الانحسار والضمور. واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن بدأت الحياة تدب من جديد في شرايين المؤسسات الدولية حين انتهت الحرب الباردة فجأة بسقوط المعسكر الاشتراكي. فقد راح مجلس الأمن ينشط بصورة لم يعهدها النظام الدولي من قبل، وبدأ العالم يتطلع لمولود جديد كان قد طال انتظاره كثيراً، وهو المحكمة الجنائية الدولية. وكان من الطبيعي أن يؤدي النجاح في تأسيس هذه المحكمة إلى إحياء الآمال من جديد في قيام نظام دولي ديمقراطي مكتمل المعالم، غير أن طموحات الهيمنة الأميركية سرعان ما وأدت هذه الآمال في المهد، وبدلاً من أن تصبح المحكمة الجنائية الدولية خطوة مهمة على طريق تطوير القانون الدولي، تحولت إلى أداة لهدم وتحطيم ما تبقى منه.

 

حقاً، كان يمكن لهذه المحكمة أن تشكل خطوة هائلة على طريق تطوير القانون الدولي إذا توافرت لها شروط ثلاثة، الأول: تصديق جميع الدول الرئيسية في النظام الدولي على نظامها الأساسي. الثاني: إعادة تشكيل مجلس الأمن وإصلاح آليات صنع القرار لضمان عدم استخدام المحكمة وسيلة للابتزاز أو للتمييز بين الدول. الثالث: تعديل صلاحيات محكمة العدل الدولية بما يكفل لها ولاية إلزامية للفصل في كل المنازعات الدولية ذات الصبغة القانونية، لأنه ليس من المعقول وجود محكمة جنائية دولية في نظام دولي يخلو من آليات تُلزم الدول بالتقاضي أمام محاكم مدنية.

 

غير أن أيّاً من هذه الشروط لم يتحقق. فدول عدة من بين الأكثر استخداماً للقوة في العلاقات الدولية، كالولايات المتحدة و"إسرائيل"، لم تصدق على النظام الأساسي للمحكمة، ومجلس الأمن ما زال بتكوينه القديم نفسه، كونه يتشكل من مجموعة دول متحالفة ومنتصرة في الحرب العالمية الثانية وليس كونه تعبيراً عن موازين القوى القائمة حاليّاً في النظام الدولي، وتتمتع فيه بصلاحيات وامتيازات لم يعد لها ما يبررها. والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية لم يطرأ عليه أي تغيير.

 

وقد ترتبت على وجود محكمة جنائية دولية تعمل في ظل آليات النظام الدولي القديم جملة من الحقائق البالغة الغرابة يمكن إجمال أهمها على النحو التالي:

 

1- نظرياً، تستطيع جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة النأي بنفسها بعيداً عن طائلة المحكمة الجنائية الدولية، بالامتناع عن الانضمام إلى نظامها الأساسي.

 

2- عمليّاً، يملك مجلس الأمن صلاحية أن يحيل إلى المحكمة جرائم وقعت أو ارتكبها مسؤولون في أي دولة، حتى ولو لم تكن قد وقعت على النظام الأساسي للمحكمة. وليس لذلك سوى معنى واحد وهو أنه ليس باستطاعة كل الدول أن تنأى بنفسها بعيداً عن طائلة المحكمة!.

 

3- الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن هي التي تملك وحدها صلاحية استخدام الفيتو لعرقلة صدور قرار بالإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية، وبالتالي تملك القدرة على حماية نفسها وحماية حلفائها من الوقوع تحت طائلة المحكمة.

 

معنى ذلك أن الدول غير الأعضاء في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أصبحت في ظل هذا النظام تنقسم إلى نوعين، الأول: دول يمكنها ارتكاب جرائم حرب أو إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية ومع ذلك يتعذر تقديمها أمام محكمة الجنايات الدولية إما لأنها عضو دائم بمجلس الأمن أو لأن بإمكانها الاعتماد على حليف من الأعضاء الدائمين في المجلس، والثاني: دول معرضة للابتزاز والتهديد بتقديمها للمحاكمة إذا لم تستجب لمطالب معينة.

 

وحتى لا نبقى في إطار الطروحات النظرية، فإذا قامت "إسرائيل"، على سبيل المثال، بترحيل أعداد كبيرة أو بارتكاب مجازر جماعية ضد فلسطينيي 1948 الذين تعتبرهم خطراً على أمنها الوطني، وهو أمر ليس مستبعداً في ظل حكومة نتانياهو، يصعب تصور إمكانية قيام المحكمة الجنائية الدولية بمباشرة التحقيق في تلك الجرائم لأن الفيتو الأميركي أو البريطاني أو الفرنسي سيكون جاهزاً للحيلولة دون قيام مجلس الأمن بإحالة القضية إلى محكمة الجنايات. أما بالنسبة إلى السودان، والذي ربما تكون حكومته قد ارتكبت جرائم في حق مواطنيها، ولكن في سياق سعيها لقمع محاولة عصيان مدني تهدد بتفتيت الدولة برمتها، فقد ثبت أن باستطاعة المحكمة أن تذهب بعيداً إلى حد إصدار حكم بالقبض على رئيس الدولة وإجباره على المثول أمامها. ويبدو أنها مصممة على الاستمرار في التصعيد في سياق كهذا تبدو محكمة الجنايات الدولية أقرب ما تكون إلى أداة ابتزاز في يد الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن منها إلى أداة لتحقيق العدالة الدولية. وتلك، في تقديري، أقصر الطرق لتخريب القانون الدولي وضربه في مقتل بدلاً من تنقيته وتطويره ليصبح خطوة على طريق الانتقال بالنظام الدولي من «حالة الطبيعة» التي يعيشها إلى «حالة القانون» التي نحلم بها.

 

انتقال النظام الدولي إلى «حالة القانون» يتطلب إعادة هيكلية كاملة لمجمل مؤسسات النظام الدولي في اتجاه:

 

1- إعادة النظر في صلاحيات الجمعية العامة لتصبح هيئة تشريع دولي تملك صلاحية الرقابة السياسية على أداء مجلس الأمن.

 

2- إعادة تشكيل مجلس الأمن وتعديل آليات اتخاذ القرار فيه على أسس أكثر ديمقراطية.

 

3- توسيع صلاحيات محكمة العدل الدولية لتصبح لها ولاية إلزامية للفصل في المنازعات ذات الصبغة القانونية، والنظر في دستورية القرارات الصادرة عن مجلس الأمن.

 

4- منح محكمة الجنايات الدولية ولاية إلزامية للتحقيق في كل الجرائم الدولية التي تدخل في اختصاصها.

 

حقاً ما زال أمام النظام الدولي شوط بعيد يتعين قطعه قبل أن ينتقل من حالة الطبيعة إلى حالة القانون!