خبر د. بشير موسى نافع يكتب : الاولوية الفلسطينية: إفشال حل الدولتين

الساعة 08:11 م|19 مارس 2009

لعقود طوال وإقامة الدولة الوطنية في المركز من برنامج الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى اختصر النضال الوطني كله طوال قرن من الزمان في هدف تحقيق هذه الدولة. في المرحلة الأولى من بروز منظمة التحرير، قبل أن تصبح حركة فتح قوتها الرئيسية في 1968، وخلال السنوات الأولى من قيادة فتح للحركة الوطنية، لم يشكل هدف الدولة مشكلة ملموسة للحركة الوطنية. بإجماع الفلسطينيين، قيادات وقوى سياسية وشعباً، على هدف التحرير الكامل وإقامة الدولة على كل فلسطين، اقتصر الخلاف على التصور الاجتماعي للدولة وعلى مكان السكان اليهود في هذه الدولة. ولكن تحولاً كبيراً وقع في البرنامج السياسي للحركة الوطنية في 1974، نجمت عنه خلافات جوهرية في الجسم السياسي الفلسطيني، ودفع منظمة التحرير إلى منحدر من التنازلات، لا يبدو أن هناك نهاية له بعد.

تحت الضغط الهائل لتسارع العملية السلمية وإعلان القيادة المصرية أن حرب تشرين الأول (اكتوبر) ستكون آخر الحروب المصرية ضد الدولة العبرية، والضغوط السوفييتية لإدراج منظمة التحرير في الخارطة السياسية الإقليمية - الدولية للشرق الأوسط، تبنت المنظمة برنامج النقاط العشر، الذي دعا إلى إقامة سلطة وطنية على أي جزء يحرر من الأراضي الفلسطينية. وقد قصد بالإعلان أن يكون مبهماً لتفادي الانقسامات الداخلية؛ ولكن اتجاه الريح وتوازنات القوى السياسية كانت تشير إلى أن المقصود بأي منطقة تحرر ليس أكثر من الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا ما سيصبح أكثر وضوحاً بعد ذلك، عندما دفعت المنظمة إثر الخروج من لبنان إلى إقرار مبادرة مؤتمر فاس، ثم المضي نحو إدانة العمل المسلح، والاعتراف بالدولة العبرية، والقبول بشروط بيكر للمشاركة في مؤتمر مدريد 1991. ولأن مدريد لم يوفر مشاركة صريحة ومباشرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد عملت قيادة المنظمة في تونس على سحب البساط من تحت أقدام الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن بإطلاق عدة قنوات تفاوضية سرية مع الإسرائيليين في أوروبا. احدى هذه القنوات، قناة أوسلو، وجدت في النهاية قبولاً من قيادة الحكومة الإسرائيلية (رابين/ بيريس)، وأصبحت هي القناة التي سينتج عنها اتفاق أوسلو الشهير في 1993. ولكن أوسلو، بالرغم من حجم التنازلات الفلسطينية الهائلة التي قدمت من أجل توقيعه، أثبت في النهاية أنه اتفاق غير قابل للتطبيق كلية؛ وما كاد طرفا الاتفاق يصلان إلى نهاية الهامش الإسرائيلي المسموح به لإدارة فلسطينية ذاتية، حتى توقف عن العمل. ومنذ فشل مباحثات كامب ديفيد 2000 حول الاتفاق النهائي، بدأت القيادة الفلسطينية دورة ثالثة من التنازلات، وهدفها الأكبر لم يزل إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

أحد أهم أسباب انكسار الإجماع الفلسطيني خلال العقود الثلاثة الماضية، أن تبني برنامج النقاط العشر وبداية التراجعات السياسية، صادف بروز متغير كبير في الساحة السياسية الفلسطينية. فمنذ منتصف السبعينات، أخذت الضفة الغربية وقطاع غزة تشهدان صعوداً حثيثاً في قوة وتأثير التيار الإسلامي السياسي. يعود هذا المتغير في أحد جوانبه إلى المناخ الإسلامي المتصاعد في المنطقة العربية ككل؛ وفي جانب آخر منه إلى تراجع القوى الوطنية واليسارية الفلسطينية في الضفة والقطاع، إما بفعل الانشغال المتزايد في الساحة اللبنانية أو الضربات الموجعة التي تلقتها خلاياها على يد أجهزة الأمن الإسرائيلية. كما في حقبات تاريخية سابقة، أصبح الانتماء الإسلامي، هذه المرة في تعبيره السياسي، جدار الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية. ولأن الإسلاميين الفلسطينيين الجدد لم يكونوا في وارد المساومة على تصورهم لفلسطين ومستقبلها، فقد بدأت بوادر انشقاق سياسي عميق في الساحة الفلسطينية. طالما كانت قيادة المنظمة خارج فلسطين، وكانت المنظمة الطرف الفلسطيني الأوحد في حركة التفاوض العربية والدولية حول فلسطين، لم يكن لانهيار الإجماع الفلسطيني من وقع كبير. ولكن تأسيس سلطة الحكم الذاتي في 1994، طبقاً لاتفاقية أوسلو، وضع الفلسطينيين وجهاً لوجه أمام انهيار إجماعهم السياسي؛ وهو الأمر الذي سيتصاعد تفاقماً إلى أن يصل إلى الصدام الداخلي الدموي، وانقسام حكومة السلطة الذاتية والقطاع عن الضفة في صيف 2007.

بيد أن هدف إقامة الدولة الفلسطينية، بأي ثمن من الأثمان، لم يزل هو الإطار المرجعي للنضال الوطني. وتحت الضغوط السياسية المتعاظمة، فلسطينياً وعربياً ودولياً، حتى حركة حماس، المنافس الإسلامي الرئيسي لحركة فتح وقيادة السلطة ومنظمة التحرير، حاولت، على نحو أو آخر، أن تجد مساحة التقاء مع هدف الدولة الفلسطينية، مرة بطرح فكرة الهدنة طويلة المدى، ومرة بالمطالبة بدولة على كافة الأرض المحتلة منذ 1967، متجنبة الاعتراف بالدولة العبرية. ما يستدعي إعادة النظر في خطاب الدولة الفلسطيني، أن هذا الخطاب يصل الآن إلى حائط مسدود، وقد تراكمت الكوارث الناجمة عن سيطرته المتفردة، بحيث لم يعد من الممكن ولا من الصواب تجاهلها. عندما أعلن برنامج النقاط العشر، في صيغته الغامضة، كانت الأطراف الفلسطينية الوطنية كافة تدرك أن توازنات القوى وحسابات الواقع تشير إلى أن السلطة الوطنية المقصودة لن تكون أوسع من الضفة والقطاع. ولم يمض وقت طويل حتى اتضح أن هذا بالتحديد ما تطلبه قيادة منظمة التحرير. اليوم، والأطراف الفلسطينية المختلفة تلتف حول هدف الدولة المستقلة، وخارطة القوة والواقع الملموس أسوأ بكثير من منتصف السبعينات، يبدو هدف إقامة دولة على كل المناطق المحتلة في 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، ليس أكثر من وهم. وإن واصل الفلسطينيون الإصرار على إقامة الدولة، فسرعان ما سيكذب الواقع الكثير من الوعود التي يحملها دعاة هذا الهدف.

بفعل التواطؤ الدولي والعربي (وتواطؤ فلسطينيي التفاوض) خلال العقود القليلة الماضية، وصل حجم الاستيطان الإسرائيلي إلى مستوى لم يعد من الممكن تجاهله في التفكير حول بناء الدولة الفلسطينية. ثمة ما يزيد عن نصف مليون مستوطن يهودي يعيشون الآن في شرق القدس، ضمن بلدية القدس الموسعة وفي المستوطنات الإسرائيلية الأخرى في الضفة الغربية؛ المستوطنات التي أصبح بعضها مدناً. وقد أدى هذا التغول الاستيطاني إلى اقتطاع أراض هائلة في جوار القدس، في كافة أنحاء الضفة الغربية، ولتوفير طرق سريعة بين الكتل الاستيطانية وقلب الدولة العبرية. كما اقتطعت مساحات أخرى بفعل بناء الجدار الفاصل فوق أراضي الضفة وفي العمق من مناطق الحكم الذاتي. وبقبول المفاوض الفلسطيني مبدأ تبادل الأراضي، فإن أحداً لا يعرف على وجه اليقين ما هي مساحة الأرض المتبقية من الضفة لإقامة الدولة العتيدة، وإلى أي حد ستكون مناطق الضفة الغربية متصلة ببعضها البعض، وكيف سيتحقق اتصالها بقطاع غزة. ولكن خلف المشهد التفاوضي ما هو أسوأ. فالاسرائيليون يصرون على أن القدس الموحدة ستبقى تحت سيادتهم، وربما لن يسمح للفلسطينيين بأكثر من وجود رمزي في المدينة؛ كما يصرون على السيطرة على الحدود الفلسطينية الأردنية في منطقة الأغوار؛ على رفض عودة ملموسة للاجئين الفلسطينيين؛ وعلى سيادة فلسطينية محدودة على أراضي دولتهم؛ ويخططون لطرد أغلب فلسطينيي 1948. الدولة الفلسطينية المنشودة، باختصار، لن تكون إلا مجرد نسخة مختصرة ومشوهة من الضفة 1967، وستكون، بأرضها وسمائها وشعبها، خاضعة لهيمنة إسرائيلية سياسية واقتصادية.

على الفلسطينيين، قيادات وقوى سياسية وشعباً، أن يتوقفوا عن تجاهل الواقع وعن التمسك بأهداف وهمية. الدولة الفلسطينية، كما روجت للمرة الأولى في السبعينات، لم يعد لها أدنى وجود. وإن استمرت القيادة الفلسطينية الحالية في السعي خلف هدف إقامة الدولة، مهما كانت التكاليف، فإن الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون سيكون باهظاً. الخيار الآخر، بالطبع، هو إقامة دولة فلسطينية في الأردن، بعد أن أصبح من المستحيل إقامة دولة قابلة للحياة في الضفة الغربية. في الحالتين، ستكون العواقب باهظة. في دولة فلسطينية بائسة الحدود والسيادة، ستتحول الجيوب الفلسطينية إلى ساحات صراع سياسي حاد بين القوى الفلسطينية المختلفة، صراع تغذيه خيبة الأمل وانهيار الإجماع. وفي دولة فلسطينية مركزها الأردن، سينشب صراع أردني فلسطيني لا أول له ولا آخر، يتسع سريعاً ليطال الإقليم كله. في كلا الحالتين، سينتقل النضال الفلسطيني كلية من نضال وطني من أجل التحرر والاستقلال والحقوق التاريخية، إلى صراع أهلي من أجل السلطة والثروة والدور.

تشهد جلسات الحوار الوطني في القاهرة تدافعاً فلسطينياً حاداً، يطال عدداً كبيراً من الملفات، من حكومة الوفاق الوطني وبرنامجها، كيفية إصلاح وتفعيل وإعادة بناء منظمة التحرير، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في مناطق الحكم الذاتي. إن أحداً لا يمكنه التهوين من ضرورة إعادة اللحمة للجسم الفلسطيني السياسي؛ ولكن الأولوية الفلسطينية الحقيقية ليست في ملفات الحوار الوطني، بل في النقيض الكامل والمباشر للهدف الذي يستبطنه الحوار الوطني. الهدف الحقيقي للحوار الوطني هو توفير تفويض فلسطيني وطني للرئيس عباس وفريقه من أجل مواصلة التفاوض حول الحل النهائي؛ التفاوض الذي يدور حول الهدف إياه: إقامة الدولة فلسطينية. ولكن الأولوية الفلسطينية لابد أن تكون شيئاً مختلفاً تماماً: إفشال مفاوضات الحل النهائي والتخلص كلية من هدف إقامة الدولة والثمن الباهظ الذي يترتب على الحركة الوطنية دفعه لتحقيق هذا الحلم البائس.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث