خبر حرب لا صمدنا فيها ولا تصدينا...فهمي هويدي

الساعة 08:48 م|17 مارس 2009

في حرب الأفكار نحن ما صمدنا وتصدينا، وإنما استسلمنا بسرعة غريبة، جعلت أغلب الصحف العربية تحمل إلينا كل صباح أنباء انكسارنا وهزيمتنا.

 

 (1)

 

في الرابع من شهر يناير/كانون الثاني الماضي نشرت “الاوبزرفر” البريطانية تقريراً لم ننتبه اليه في حينه، ذكر انه مع بداية الحرب على غزة بادرت الحكومة “الاسرائيلية” الى انشاء ادارة خاصة للتأثير في وسائل الاعلام المختلفة، رأسها دان جيلرمان السفير “الاسرائيلي” السابق لدى الامم المتحدة، وعاونه في مهمته ممثلون عن وزارتي الخارجية والدفاع ومكتب رئيس الوزراء اضافة الى الاجهزة الامنية التابعة للجيش والشرطة. اضافت الصحيفة انه ما إن بدأت الحرب حتى بادر فيض من الدبلوماسيين ومجموعات الضغط والمدونات الالكترونية ومختلف العناصر المؤيدة ل “اسرائيل” باغراق وسائل الاعلام المختلفة بسلسلة من “الرسائل” التي تمت بلورتها بدقة مسبقا. وكان هدف الجميع هو تبرير الموقف “الاسرائيلي” والدفاع عنه.

 

هذا الجهاز كانت مهمته الحقيقية هي الكذب والتدليس ومحاولة التستر على الوجه القبيح للحرب الاجرامية، بالادعاء تارة بأن ما اقدمت عليه “اسرائيل” كان دفاعاً عن النفس (وهو الموقف الذي انحاز اليه الكونجرس ودول الاتحاد الاوروبي) وتارة اخرى باتهام حماس بأنها التي خرقت الهدنة، وأن صواريخها هي التي تسببت في اغلاق المعابر وحرمان سكان القطاع من احتياجاتهم المعيشية. ومن اشهر الادعاءات التي روج لها الجهاز ايضاً ان “اسرائيل” لا تستهدف الفلسطينيين وإنما تريد وقف “الارهاب” الذي تمارسه حماس، وانها في الوقت ذاته تريد ضرب “النفوذ الايراني” الذي وصل الى غزة في وجودها.

 

هذه الاكاذيب استفزت اثنين من الباحثين الغربيين المحترمين، فتصديا لتفنيدها، وكشف الغش والخداع فيها. كان اولهما اليهودي الامريكي هنري سيجمان الذي نشر مقالاً تحت عنوان “الاكاذيب الاسرائيلية” في مجلة “لندن ريفيو اوف بوكس” (29-1). أما الثاني فهو الفرنسي دومينيك فيدال، الذي نشرت له مجلة “اللومند دبلوماتيك” (عدد اول فبراير) مقالاً تحت عنوان “كلما كانت الكذبة كبيرة”. موقف المقالين واضح في عنوانيهما، اما مضمونهما فقد كان كاشفاً ومفحماً، ومن ثم فاضحاً للكذب والاجرام “الاسرائيليين”.

 

(2)

 

هذه الخلفية تستدعي ملاحظتين، امر بهما بسرعة قبل أن اصل الى مقصود الكلام ومراده. الملاحظة الاولى تفاجئنا وتفجعنا في ذات الوقت. وهي ان بعض الاعلام العربي ومعه عدد من المثقفين العرب وقعوا في الفخ، وكانوا في مقدمة الذين تأثروا بحملة الجهاز الاعلامي “الاسرائيلي” بدرجة كبيرة، حتى اتمنى ان يفرغ اي باحث بعض الوقت لرصد عناوين واخبار وتعليقات الصحف الصادرة في فترة الحرب على غزة ليكتشف مدى تأثرها بتلك الحملة. وللتذكير فقط فإن اعلامنا وبعض مسؤولينا هم الذين لم يكفوا طول الوقت عن ترديد الادعاء الذي اثبت المقالان اللذان اشرت اليهما كذبه، والقاضي بأن حماس هي التي خرقت التهدئة، وهم من شدد من الحملة على حماس باكثر مما تضامنوا معها في مواجهة العدو “الاسرائيلي”. وهم من ظلوا يوحون بان حماس اداة في يد ايران وجزء من المشروع “الفارسي”.

 

الملاحظة الثانية ان ما اقدمت عليه “اسرائيل” اثناء الحرب على غزة ليس اختراعاً جديداً، ولكنه اسلوب متعارف عليه في الصراعات الدولية، التي اصبحت الحرب النفسية احدى جبهاتها الاساسية. وهو ما يوثقه باقتدار كبير كتاب “الحرب الباردة الثقافية” لمؤلفته فرانسيس ستونز سوندرس (ترجمه الى العربية طلعت الشايب)، الذي كان موضوعه الاساسي تتبع الدور الذي لعبته المخابرات المركزية الامريكية في التصدي للاتحاد السوفييتي والشيوعية، في مجالي الفنون والآداب، وكيف انها نشطت في تلك الساحة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ انشاء المخابرات  في عام 1974 كانت الصحف والكتب والاذاعات والحفلات الموسيقية والعروض الفنية المختلفة هي وسيلتها الى ذلك. ومن بين الواجهات التي اقامتها المخابرات المركزية “كونجرس الحرية الثقافية” (عام 1950) الذي تحول لاحقاً الى “الاتحاد الدولي للحرية الثقافية”، وانشأ فروعا في 35 دولة، كما اصدر اكثر من عشرين مجلة ثقافية محترمة في مختلف انحاء العالم، كانت كلها تروج للنموذج الامريكي وتنفر من الشيوعية. كما كانت المخابرات الامريكية وراء انشاء “نادي القلم الدولي” في منتصف الستينات، الذي مد أذرعه الى 55 دولة، وأسس فيها 76 فرعا، كانت كلها ذات “انشطة ثقافية” استهدفت كسب معركة واشنطن ضد موسكو.

 

(3)

 

في اول شهر فبراير/شباط الماضي نشرت صحيفة “الشروق” مقالاً للدكتور محمد السيد سليم استاذ العلوم السياسية كان عنوانه: “الحرب على غزة، أو العدوان بالمصطلحات”، عرض فيه للفكرة التي نحاول إبرازها هنا، حيث دعا الجميع الى ضرورة التدقيق في المصطلحات التي يسربها الغربيون والصهاينة الي خطابنا الاعلامي والسياسي، سواء للتغطية على الاحتلال او لاضفاء شرعية عليه.

 

وأشار في مقاله الى ان الحرب بالمصطلحات في الوطن العربي بدأت مع زيارة هنري كيسنجر للمنطقة في عام ،1973 حيث استخدم لأول مرة مصطلح “عملية السلام” في الشرق الاوسط، الذي لم يكن يعني اقامة السلام بقدر ما يعني عقد سلسلة من الاجراءات المتتالية تنتهي باقرار السلام يوماً ما. قد يجيء أو لا يجيء (بدليل انها مستمرة الى الآن ولم يتحقق من السلام شيء).

 

وكانت النتيجة ان “العملية” بمعنى المفاوضات والمشاورات والجولات الامريكية استمرت، لكن السلام لم يتحقق. قس على ذلك مصطلحات اخرى عديدة ظاهرها يوحي بشيء في حين انه يضمر شيئاً آخر. ف “اسرائيل” لا تنسحب مما تزعمه ارضاً لها في سيناء، ولكن ذلك يعتبر من جانبها مجرد “اعادة انتشار” او فض اشتباك. كما ان “المستوطنات” وصف خداع اريد به تجميل وجه المستعمرات. والتطبيع مصطلح خبيث وملتبس، لان العلاقات الطبيعية بين الدول تحتمل معنيين احدهما يقوم على التعاون السلمي والثاني قد يكون صراعيا،  لكنه في المناخ الراهن اصبح ينطبق على حالة واحدة هي التعاون السلمي، الامر الذي يعتبر المقاومة سلوكاً “غير طبيعي”... وهكذا.

 

الملاحظة المهمة التي خلص بها الدكتور سليم من استعراضه لنماذج اللعب  بالمصطلحات  في الصراع العربي - “الاسرائيلي” بوجه اخص، هي ان اللغة تستخدم كاداة للتضليل والابهام، وليس كأداة للتوصيل. بمعنى ان المصطلحات المستخدمة عادة ما تخفي في طياتها اهدافاً شريرة، في حين يبدو ظاهرها بريئاً وناعماً. وهو ما ينطبق على قائمة طويلة من المصطلحات التي اصبحت تتردد على السنة مسؤولينا وتتناقلها وسائل اعلامنا كل يوم.

 

 (4)

 

خذ مثلاً مصطلح “التهدئة” الذي اشرت اليه في مقال سابق. اذ استخدم في مطالبة المقاومة بتجميد حقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الاحتلال، ومن ثم وقف اطلاق الصواريخ ضد العدو، مقابل فك الحصار عن قطاع غزة، ولأن المصطلح لا اصل له في القانون ولا في الاعراف الدبلوماسية، فقد عملت “اسرائيل” على “تفصيله” في ضوء موازين القوة الراهنة، بحيث تصبح التهدئة واجباً يلزم المقاومة الفلسطينية وحدها، ولا يلزمها هي في شيء، باعتبارها الطرف الاقوى عسكريا. وكانت النتيجة ان صواريخ المقاومة سكتت في حين استمر الحصار وتواصلت عمليات التصفية التي قامت بها “اسرائيل” في القطاع.

 

المدهش في الأمر ان فصائل المقاومة حين قالت انها لا تقبل الالتزام بالتهدئة في ظل استمرار الحصار والعدوان، فإن بعض العواصم والابواق العربية توجهت اليها باللوم والاتهام.

 

خذ كذلك تلك الدعوة الغريبة الى الوقف الدائم لاطلاق النار، التي تبدو في ظاهرها اعلاناً عن الرغبة في احلال السلام والوئام في فلسطين، قد تلقى ترحيباً وأذناً صاغية في الاوساط الغربية، الا انها تعبر في جوهرها عن درجة عالية من الصفاقة، ذلك انها تطالب المقاومة بالقاء سلاحها، والاستقالة من دورها، و”نبذ” فكرة تحرير البلد من الاحتلال.

 

خذ ايضاً مصطلح “وقف تهريب السلاح” الى غزة، وهي الدعوة التي اطلقتها “اسرائيل” مؤخراً، وحركت لأجلها الدول الغربية التي استنفرت لهذه الغاية، وتنافست في ارسال سفنها وبوارجها لمراقبة مختلف المنافذ التي يمكن ان يصل منها السلاح الى القطاع. وهي دعوة خبيثة لا نفهم كيف مررتها العواصم العربية وسكتت عليها. ووجه الخبث فيها واضح، ذلك انها تعنى حرمان المقاومة الفلسطينية من حقها في الدفاع عن نفسها لتحرير الارض المحتلة، الذي كفلته لها كافة المواثيق والاتفاقات الدولية. ثم انها تخدع الجميع موحية لهم بان المشكلة في فلسطين هي تهريب السلاح وليس الاحتلال الذي اضطر الناس الى الحصول على السلاح بكل السبل لمقاومته.

 

خذ أيضاً مسألة “المجتمع الدولي”، الذي دعا ابو مازن الى ضرورة استجلاب موافقته على أي حكومة وطنية تتشكل في فلسطين ويلحق به مصطلح “الشرعية الدولية” وكل منهما لا يخلو من رنين جذاب، لكنه عند تفكيكه لا يعدو ان يكون ارادة امريكية تحركها المصالح والحسابات “الاسرائيلية” (للعلم فإن حق مقاومة الاحتلال بكل السبل يستند الى الشرعية الدولية وكذلك قرار محكمة العدل الدولية ببطلان اقامة الجدار والمستوطنات في الارض المحتلة، وقد اورد عدد اول فبراير من مجلة “اللومند دبلوماتيك” قائمة ب35 قراراً لمجلس الامن، والجمعية العامة انتهكتها “اسرائيل” أو رفضتها). هذان المصطلحان يفقدان حجتيهما وهيبتهما حينما نكتشف انهما يشكلان غطاء للمطالب “الاسرائيلية” في الاعتراف بها وبمنع المقاومة والاقرار بالتنازلات التي سبق تقديمها  ل “اسرائيل”. ومن حقنا في هذه الحالة ان نطالب بتنفيد كل قرارات الشرعية الدولية الاخرى، بغير انتقاء او استعباط.