خبر بانتظار ثمار الحوار ...هشام نفاع *

الساعة 08:46 م|17 مارس 2009

حين انتهى عدوان «الرصاص المصهور» على غزة، تواصلت بشاعة آثاره. بالأحرى، العدوان نفسه يتواصل بنشاط، بشكله الأساسي. في معابر التجويع والتضييق المغلقة. في سماء القطاع المحاصرة. في الشاطئ المسدود بالبوارج الحربية. وفي التهديد الذي يدقّ كقنبلة مفخخة تنذر بانفجار اجتياح جديد في كل لحظة. وها هم الجنرالات الإسرائيليون يعلنون لكل من لا يغلق أذنيه أن عدوان «الرصاص المصهور ــــ 2» جاهز وأوراقه باتت مرتّبة في الأدراج العسكرية.

أصلاً، على الرغم من أطنان الديماغوغيا الإسرائيلية التي تأتي كهوامش كاذبة واستطرادات تضليلية لشرح المصطلح المضلّل وتسويقه «فك الارتباط مع غزة»، لا يزال القطاع الفلسطيني الجنوبي تحت الاحتلال. فإعادة نشر القوات البرية الإسرائيلية خارجه، مع الإبقاء على محاصرته براً، بحراً وجواً، والسيطرة على كل داخل إليه وخارج منه، من البشر والمؤن، هي جزء من مجموعة المعطيات التي توجز معنى الاحتلال وممارسته.

من المؤسف أنه لا يزال يتوجّب تذكير كثيرين، بينهم غالبية زعامات ذوي القربى، بأن الاحتلال لم يرفع يده عن القطاع. لا أبداً. لقد طوّر أدواته بحيث صار مرئياً أقلّ لكن وطأته لم تتغيّر. لذلك، فكل من يردد أسطوانة «فك الارتباط» إنما يعزّز رواية الاحتلال نفسه. هنا مثلاً تحضر المرء مفارقة من الوزن الثقيل: فبموجب جميع الأعراف الدولية، تقع على جهاز الاحتلال المسؤولية عن حماية الخاضعين له وتأمين احتياجاتهم وخدمات عيشهم. لكن جهاز الاحتلال لم يتنصّل من مسؤوليته فقط، بل يقصف، يقتل، يجتاح، يدمّر، يخرّب ويفتك، ولا يدفع ثمن جرائمه. ومن الذي يدفع التعويضات؟ القمم العربية. ففي غياب الإرادة السياسية العربية الرسمية وتلعثمها العُضال، تنتج أمامنا الصورة التالية: إسرائيل تتنصّل وتدمّر، وأنظمة العرب تصمت ثم تدفع تكاليف التعويض.

لن تتغيّر هذه الحال ما دامت أنظمة العرب لا تتحرّك سوى بتأشيرة وتصريح أميركيين. فما دامت تسلك كمؤسسات تابعة، فستظل تخرج خاسرة مهما تفنن متحدثوها في التعبير عن اللوعة والتضامن والشجب وإلى آخره.

حالياً، هناك حكومة إسرائيلية جديدة في الطريق إلى العتمة... معظم الإشارات تدلّ على أن سياستها ستكون أسوأ بكثير من سابقتها، ويا لسوء سابقتها وبشاعتها وحقارتها، فلنتخيّل الآتي إذًا! وبالطبع لا يُقال هذا من باب الفرائص المرتعدة، فمهما بلغت درجات التوحّش الإسرائيلية الرسمية، سيظلّ الشعب الفلسطيني لا يقلّ عن شقيقه الفيتنامي! بل لأن لا شيء يتغيّر بما يكفي في سائر معطيات المنطقة.

وإضافة إلى ما قيل عن أنظمة العرب التي باتت فنانة في التبعيّة، هناك الطامة الكبرى: الحالة السياسية الفلسطينية العبثيّة. هناك من يرى أن الانقسام الفلسطيني هو تعبير عن حالة الانقسام العربي. نذكر جميعاً (المرء يأمل على الأقلّ!) عقيدة «الاعتدال والتطرّف» الأميركية (السابقة؟ لننتظر ونرَ). المشكلة في هذه العقيدة هي اعتناق النظام العربي لها والسلوك وفقاً لتعليماتها، مع أنها ليست سوى وسيلة إضافية تعيد تكريس وضع الامبريالية في المركز وإصدار الأحكام على البشرية برمتها وفقاً لقربها أو بعدها عن مصالحها الامبريالية. في هذه الحالة يمضي النظام العربي في تهميش نفسه، طوعياً وتطوعاً. وحين يقع الشعب الفلسطيني وقضيته ومؤسساته في خضمّ هذا التجاذب / التنافر، لن يزداد الانقسام الفلسطيني إلا انقساماً.

هناك درجات من العبث تستحقّ الدخول في سجل «غينيس». يبدو للمراقب أحياناً أنه لشدة تدويل تحرّكات الفصائل الفلسطينية المنفصلة والمنفصمة، يتحوّل الاحتلال إلى مجرّد مُعطى من الدرجة الثانية. فسلطة «فتح» تدير حواراً مع واشنطن، بينما «حماس» تتحرّك على المستوى الأوروبي، وهذه وتلك تتابع تدريج علاقاتها وتحديثها مع هذا القطر الشقيق أو ذاك، بينما تروح المسافة السياسية بين الضفة وغزة في الاتساع، ولا يملأ الفراغ سوى الاحتلال الذي يتفشى رمزياً، وكأن بشاعة سطوته الفعلية القاتلة لا تكفي. هذا مع أن الفصيلين يوافقان عملياً على صيغة التسوية السياسية نفسها بشأن إنهاء الاحتلال والاستقلال السيادي الفلسطيني.

حالياً هناك حوار. بالأحرى حلقة جديدة من سيرورة حوار صارت تبدو كأنها حلقات مائية تتسع في البركة التي رمى في وسطها الفصيلان الفلسطينيان الأكبر «الطفل مع الماء»! فمنذ تصعيد الاختلاف إلى خلاف، ثم إلى صدام، ثم إلى اقتتال، ثم إلى انقسام، ثم إلى التأسيس لكيانين فلسطينيين منفصلين تحت الاحتلال نفسه... منذ ذلك الحين، والحوار يتلو الحوار ولا تطحن المطحنة سوى الماء. ومع كل حوار انتهى إلى إخفاق كان يتعاظم الإحباط وترتفع درجة الارتياح في إسرائيل.

قد يكون مطمئِناً أن لهجة التراشق الداخلي الفلسطينية قد خفّت أخيراً. لعل هذا الانفراج الكلامي يحمل بشائر سياسية فعلية. ولكن مع أهمية مناقشة الملفات الخمسة قيد البحث والنقاش (الانتخابات، الأمن، منظمة التحرير، المصالحة والحكومة)، والأثر المباشر الذي سيتركه، فيما لو جرى التوصل إلى تسويات بشأنها، يجدر العودة إلى نقطة الصفر، ولو على صعيد محاولة ابتكار وسائل جديدة لمواجهة احتلال قديم. فالتفنّن في تقسيم المناصب والمصالح السلطوية سيظلّ يمثّل صورة مبتذلة ما دام الاحتلال قائماً بجميع ممارساته الكولونيالية.

هناك فلسطينيون يطالبون بتأجيل كل الطموحات الأنانية والفصائلية والايديولوجية إلى حين إقامة كيان فلسطيني سياديّ، وبعد ذلك فليبذل الطامحون والطامحات ما شاؤوا من جهود لأجل ادّخار المجد والصلاحيات. أما الآن فلا تزال الثورة الفلسطينية بحاجة إلى عنصر يكاد يكون منسياً: التواضع والإيثار، لا الانتفاخ المغرور والاستئثار.

حين يتحقق هذا المطلب، سيتحقق الفلسطينيون مما أيقنته جميع الشعوب بعد التجربة: هناك جماهير وهناك نظام، مهما تعددت أطيافه. أما الرواية الفلسطينية التي لا تزال تراوح حالياً في جانب العبث، ففيها جماهير ونظامان وهميّان ونظام حقيقي بأقسى درجات الحقيقة، اسمه نظام الاحتلال الإسرائيلي. وبعد فترة وجيزة ستتسلم مقاليده حكومة جديدة وشديدة الخطر. ألا يجدر العودة إلى الأسس الآن، لو اقتبسنا إلى سياقنا مقولة برتراند راسل؟ فوسط هذا الضباب الكثيف سيكون من المفيد العودة بالأقدام والأحلام إلى الأرض، أمّ البدايات.

 

* صحافي فلسطيني