خبر الاتفاق على إدارة الخلافات أم على حلها؟ ..علي عقلة عرسان

الساعة 05:11 م|13 مارس 2009

عُقدت في الرياض يوم الأربعاء 12/3/2009 قمة سعودية مصرية سورية حضرها أمير الكويت، بدعوة من الملك عبد بن عبد العزيز، استكمالا لمبادرته الطيبة في قمة الكويت الاقتصادية. وقد أخذت هذه القمة في الإعلام عنوان "قمة المصالحة العربية"، وهي قمة غاية في الأهمية، وتأتي أهميتها من مكانة وأهمية دور كل من الأقطار العربية الثلاثة التي كانت تشكل منذ سنوات ما أسميه "مثلثاً ذهبياً" في العمل العربي المشترك. وقد اختل توازن ذلك المثلث وترنّح حتى تهاوى على إثر أحداث وقضايا وتدخلات خارجية، على رأسها تدخل إدارة السيئ الذكر جورج بوش وتكوين تحالف " معتدل" ضد محور "متطرف"، تمهيداً لإشعال نار فتنة مذهبية يطلبها الكيان الصهيوني وتؤسس لها الولايات لمتحدة الأميركية، وكانت الوزيرة رايس تضع حطباً في موقدها.. وقد أسفرت الخلافات والولاءات عن نزاعات ومواقف متباينة لكل من الأطراف المعنية بها حول تلك القضايا، ومن ثم اختل توازن العمل العربي المشترك، وسادته نزاعات وصراعات واستقطاب عربي داخلي، وانعكس سلباً على أقطار وقضايا، بدل التوجه نحو تعزيز التضامن العربي، وتوحيد الهدف، وإنضاج رؤية مشتركة تحتاج إليها الأمة في أقسى مراحل مرت بها منذ عقود. وتجلى الخلاف أكثر ما تجلى في محاولات اجتثاث المقاومة العربية للاحتلال الصهيوني والأميركي، وبالتحديد في أثناء العدوان الصهيوني على لبنان 2006 الذي انتصرت فيه المقاومة، والعدوان الصهيوني أيضاً على غزة 2009 الذي صمدت فيه غزة ولم يقض على المقاومة، وفي الموقف من قمة الدوحة 2009 التي دعي إليها لنصرة المقاومة وبذل جهد محموم لإفشالها وإلغاء نتائجها، وقد تحقق شيء من ذلك فعلاً.

من المؤكد أن القادة الذين " تصالحوا" في الرياض قد ناقشوا ما كان موضوع خلاف بينهم، ولا بد أن كلاً منهم قد دافع عن موقفه وشخصه ووجهة نظره ومصلحة نظامه وبلده، ومن ثم رفع المصلحة العربية فوق كل اعتبار، وتمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومال إلى المصالحة بعد عتاب، استجابة منه إلى موقف عربي "موحد" من التحديات الكبيرة والمستجدات الخطيرة..إلخ..؟! ولا أظن أن أحداً ذكر أو تذكر من بين الأسباب التي تدعوهم إلى هاتين المراجعة والمصالحة:

1 ـ زوال قبضة إدارة بوش المتوحشة عن المنطقة التي كانت تعمل باتجاه حرب بالوكالة بين عرب وعرب، وبين عرب ومسلمين، وضعف اليمين الأميركي المتطرف، ومجيء إدارة أوباما التي تسلك مسلكاً مغايراً لسابقتها حتى الآن.. وتنفتح على الحوار مع أطراف كانت في موقع " العدو" المشترك، وفي " محور الشر" الذي يتصدى له التحالف المعتدل.

2 ـ وصول أتباع مائير كاهانا إلى الحكم في الكيان الصهيوني في شخص ليبرمان أحد أتباعه القدامى، وإشهار سياسة التوسع في الاستيطان والترحيل "الترانسفير" ضد عرب فلسطين، والتهويد السريع للقدس، والاستيطان في لضفة الغربية.

3 ـ إفلاس المفاوضات الفلسطينية ـ الصهيونية، ووصولها إلى طريق مسدودة، وانعدام الفرص أمام تنفيذ خطة " الجنرال الأميركي دايتون" غلوب باشا فلسطين، وصمود غزة ومقاومتها، وتجدد الأمل بالمقاومة بعد تغير نسبي في قواعد المواجهة مع العدو الصهيوني.

4 ـ وارتفاعٍ وتيرة رفض الجماهير العربية لمواقف الأنظمة العربية التي خذلت المقاومة وحاصرتها، وانتشار صحوة عربية وإسلامية تدعم المقاومة وترفض التخاذل وتدينه. ووجود تحرك تحت السطح الساكن شعرت به تلك الأنظمة وأخذ يقلقها.. وتغير ملحوظ في مواقف الرأي العام العالمي من الكيان الصهيوني لمصلحة المقاومة والشعب الفلسطيني.

5 ـ وصول الوضع العربي العام، والعمل العربي المشترك، والمؤسسات العربية، إلى مستوى من الأداء السياسي المتدني إلى درجة يهدد معها الجامعة العربية ومؤسسة القمة، ويؤثر تأثيراً بالغ السوء في المكانة العربية في أمام العالم.

6 ـ توصل بعض دول الاتحاد الأوربي إلى قناعة بالحوار مع حماس، وانفتاحها على أقطار كانت محاصرة ويُراد لها أن تكون "منبوذة" وأن تقبل بمطالب صهيونية وأميركية وأوربية ترفضها.

7 ـ ظهور متغيرات هامة في موقف دول في المنطقة على الخصوص من المقاوم، والكيان الصهيوني، ومن السياسات المتبعة في ظل إدارة بوش، مثل موقف تركيا مثلاً.

كل ذلك أدى إلى وجود معطيات مؤثرة تجبر الحاكم العربي على مراجعة موقفه وموقف بلده من قضايا كثيرة ومن العمل العربي العام. ولكن ألا يجوز للشعب العربي الذي ينعكس عليه الاختلاف والاتفاق، وكان لمواقفه دور مؤثر في وضع الأنظمة العربية أمام عجزها الفاضح في أثناء العدوان على المقاومتين في لبنان وغزة، ومناداته الصريحة بتضامن عربي يؤدي إلى وضع أفضل، ألا يجوز له أن يعرف ما هو الموقف الجديد الذي أسفرت عنه المصالحة في قمة الرياض من قضايا جوهرية كانت موضوع جدل سياسي وإعلامي في اللقاءات والقمم العربية والفضائيات والصحف؟ ما هو الموقف من قضايا جوهرية: مثل مقاومة الاحتلال، وقضية فلسطين لاسيما حق العودة والقدس والتهويد والاستيطان والعدوان المستمر، ومن الارتباطات الجانبية والتأثيرات الخارجية التي فعلت فعلها أثناء العدوان لصهيوني على غزة، وفي إشعال النار في الصدور وتحت القدور العربية.. مثل الموقف من التدخل الأميركي والإيراني على سبيل المثال لا الحصر؟ وماذا عن الاتفاق "المصالحة" في العمق الفكري والنفسي سياسياً؟ هل انتزع الغل من النفوس أم أنه جمده لمرحلة تقتضيها المناورات السياسية؟ هل هو اتفاق على إدارة الخلاف حول وجهات نظر ومواقف ما زالت كما هي، أم أنه اتفاق على حل الخلافات وفق رؤية واستراتيجية عربيتين جديدتين متفق عليهما، أم ذلك كله يندرج في باب "تبويس" اللحى على عادة العرب ولا يغسل القلوب مما هو مستقر  فيها.؟

في نهاية قمة المصالحة في الرياض صدر بيان جاء فيه أن القادة يعتبرون " أن اجتماعهم يمثل بداية لمرحلة جديدة في العلاقات تسعى فيها الدول الأربع لخدمة القضايا العربية بالتعاون فيما بينها، والعمل الجدي والمتواصل لما فيه خير الدول العربية، والاتفاق على منهج موحد للسياسات العربية في مواجهة القضايا الأساسية التي تواجه الأمة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.".

إن هذا الكلام الجيد الذي لم يخل منه أي بيان عربي منذ ستين سنة ونيف لا يكاد يقدم جديداً ولا يكشف لنا أبعاد المواقف وتوجهاتها بعد قمة الرياض، ولا أبعاد الاتفاق الذي تم.. هل هو اتفاق على أدارة الخلاف فقط أم على إنهائه؟ إن الكلام عن:".. العمل الجدي والمتواصل لما فيه خير الدول العربية" كلام عام جداً جداً، سمعناه كثيراً ولم يسفر عن خير في معظم الأوقات، ويصب تفسيره وفق معطيات الفقه السياسي العربي ".. في العمل على ما فيه خير الحكام والأنظمة" التي تلخص الدولة شعباً ومصالح ومؤسسات، وتضع القطري فوق القومي وفق قاعدة " أنا أولاً.. " ومن بعدي الطوفان.

أما الكلام عن ".. الاتفاق على منهج موحد للسياسات العربية في مواجهة القضايا الأساسية التي تواجه الأمة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية." فلا يكاد يوضح شيئاً، فوحدة المنهج لا تعني بالضرورة الاتفاق على رؤية موحدة وبرنامج واحد ووسائل وآليات عمل موحدة حيال القضايا التي تواجه الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين، وكل ذلك تحتاج إليه الأمة الآن.. و"منهج موحد" للبحث أو للعمل السياسي لا يؤدي بالضرورة إلى وحدة الأهداف والمواقف، ولا يوصل بالضرورة أيضاً إلى النتائج ذاتها. وقضية فلسطين التي تأتي في البيان المشار إليه على رأس القضايا التي اتفق "على منهج موحد للسياسات العربية في مواجهتها" لم تعد موضع اتفاق عربي لا على الأصول ولا في الفروع، وذلك منذ ما قبل كامب ديفيد وصولاً إلى ما بعد خريطة الطريق واتفاق جنيف المخبأ في الأدراج.. فهناك التفاوض والتنازل والاعتراف وهناك المقاومة وحق العودة والقدس والتحرير وتقرير المصير.. فعلى أي شيء من هذا اتفق العرب في قمتهم المصغرة في الرياض.. وهل الاتفاق على المنهج يفضي بالضرورة إلى اتفاق في الأداء السياسي وفق رؤية واستراتيجية وخطط وبرامج موحدة؟ هل اتفق العرب مثلاً على استمرار المبادرة العربية التي روَّجت لها الجامعة العربية بإعلانات مدفوعة القيمة نُشرت في الصحف الإسرائيلية، ومع ذلك رفضها الكيان الصهيوني وما زال يرفضها، ويشن العدوان بعد العدوان، ويذهب إلى التطرف العنصري والتهويد واستمرار الاحتلال، ويريد منا أن نثبت له حسن "نوايانا تجاهه" بشن حرب معه، أو بالوكالة عنه، ضد المقاومة التي يسميها "إرهاباً" وضد إيران التي بدعمها للمقاومة وبسعيها لامتلاك طاقة نووية للأغراض السلمية تشكل " خطراً عليه وعلى العرب وعلى السلام والأمن العالميين"، يفوق بمراحل امتلاكه للمفاعلات والأسلحة النووية منذ عام 1956 التي يوجهها أصلاً ضد العرب؟!. والمبادرة موضوع "الاتفاق والاختلاف.. سياسياً وجماهيرياً" التي قد لا تبقى طويلاً على الطاولة، تسلب جوهر القضية الفلسطينية التي يهتمون بها ويوحدون نهجاً سياسياً حولها.. المبادرة عملياً تفضي إلى وأد المقاومة، وإلى الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتطبيع العلاقات معه، وحماية أمنه، بعد إعطائه 76% من فلسطين على الأقل.. وفق نصوصها!؟.. أليس هذا غريباً عجيباً.. ويغدو أكثر غرابة وعُجباً إذا أضيف إليه اتفاق مؤتمر "أنابوليس" الذي ركز على يهودية الدولة العبرية، والتحالف من أجل المتوسط " أي التحالف من أجل إسرائيل" قولاً وعملاً الذي جمع عرباً محتلة أراضيهم ومنتهكة حقوقهم، ومشرد جزء من شعبهم، ومنتهكة مقدساتهم ودماؤهم.. في تحالف مع الصهيوني العنصري المحتل، مصاص الدماء.؟!

إن المصالحة العربية ضرورة، والاتفاق أو التوجه نحوه حيوي وهام، ونقاء القلوب أو تنقيتها تمهيداً لتعزيز العمل العربي المشترك هو مفتاح الاتفاق والنجاح والازدهار، ومناخ الثقة أحد مداخل الأداء المسؤول.. لا أشكك في ذلك ولا أقلل من أهميته وضرورته.. لكن مجرد الكلام الطيب لا ينهي خلافات عقيمة عقيمة ولا يلغي ولاءات ضارة، ولا يصحح سياسات ضيقة النظر والمنظور تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر جوهرية على الصعيد القطري الداخلي انطلاقاً من منظور وطني ـ قومي وتاريخي أولاً وأخيراً، بهدف الخروج من القواقع الضيقة، واتخاذ موقف سياسي وقومي وأخلاقي مسؤول من قضية العرب المركزية.. قضية فلسطين والقضايا المصيرية الأخرى.. ومن ثم إعادة بناء الموقف العربي العام من تلك القضية على أسس سليمة تحقق العدالة والاستقلال وترضي الجماهير ويسجلها التاريخ في سجل الأيام المجيدة للأمة العربية، وتفضي إلى استقرار وسلام وأمن في الوطن العربي كله. ولن يتحقق ذلك مادام الوجود الصهيوني ومشروعه الاستعماري الاستيطاني يهددان وجودنا وحقوقنا في العمق.. ولا يجوز الدخول إلى الحلول وإعادة البناء من مدخل القول بأن أمراً واقعاً قد فُرض منذ عام 1979 ونما وترسخ تباعاً وولَّد واقعاً قائماً ـ يُقدم على أنه راسخ ونهائي وأبدي ـ وعلى العرب الذين لم يبتلعوه أو لم يقبلوه بعد.. أن يتجرَّعوه ويهضموه وأن يلتحقوا بركب التسوية والتصفية والتنازلات والسياسات "الواقعية" التي أقامها ذلك الواقع.. و.. إلخ!!.. فتلك مواقف وحجج تقدم "واقعية انهزامية" في جوهرها، واقعية تجرد الإنسان من الإرادة والأمل والحلم والعمل وفق منهج مغاير للمفروض عليه.. وترى العالم، في وضع ما وفترة ما، ساكناً ومستقراً.. حالة نهائية ينبغي أخذها كما هي.. كما ترى أو تريد لنا أن نرى، أن العالم " الصهيوني الأميركي ـ الغربي" ـ كما كان عليه الوضع والقول في عهد بوش مثلاً ـ هو نهاية التاريخ، وعلينا أن نقبله ونُقبل عليه ونخضع له ونسكت ونبتهج.. مع أنه لا توجد عملياً نهاية للتاريخ مادامت هناك شعوب وإرادات تتعلق بالحرية والعدالة والحق، وتكتب تاريخها بالدم والنضال وتعيد كتابته بوعي لذاتها وبذاتها كل يوم.. فالتاريخ مشروع مفتوح ما دامت هناك حياة وإرادات. 

إن العرب الذين يطلبون من عرب أن يلتحقوا بما يقررون أنه الواقع النهائي للأوضاع والمطيات والسياسات، لكي يضمهم البيت العربي، وكأنهم غادروه أصلاً!! إنما يستعصمون بموقف وفهم وتفسير للوقائع والأمور يصعب على المستهدَفين بالقول من العرب قبوله واستيعابه.. أعني أولئك الذين يبحثون عن مقومات قوة تصون الحق والبقاء وتحرر وتدافع عن الهوية والأرض والذات، ويبحثون عن تحقيق أهداف مشروعة وعادلة بوسائل مغايرة للسائد، إنهم يمضون إلى أهدافهم ولسان حالهم يردد قول أبي الطيب المتنبي:

إذا ترحَّلت عن قومٍ وقد قدروا          ألا تفارقهم فالراحلون همُ

 

دمشق في 13/3/2009

  عرسان