الثبات على المواقف .. مقال لأصحاب القرار

الساعة 11:46 ص|30 ديسمبر 2020

فلسطين اليوم | عبد الرحمن شهاب

مركز أطلس للدراسات

سئل يومًا أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية برتراند راسل: "هل أنت مستعد لأن تموت دفاعًا عن أفكارك؟"، فقال: "لا، أنا لست شهيدًا! وأنا غير مستعد للموت في سبيل أفكاري! لأني ببساطة غير واثق من صحتها". انتهى كلامه، رغم أنه دفع ثمنًا لأفكاره، وكان عنيدًا في الدفاع عنها؛ فقد سُجِن بسبب نشاطه الداعي للسلام خلال الحرب العالمية الأولى، وخسر جرّاء ذلك منصبه كأستاذ في جامعة كامبردج. قام بحملات ضد أدولف هتلر، وانتقد الشمولية الستالينية، وهاجم تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، وأسس محكمة دولية لمحاكمة الولايات المتحدة على ذلك.

ربما لا يوجد أحد بيننا يملك وضوح الرؤيا مثلما اتضحت لدى هذا الفيلسوف، فحقيقة كان  داعية سلام، ورغم ذلك كان يشكّ في أفعاله، لقد كان صريحًا وأقر بأنه لم يكن أيًّا من هؤلاء بالمعنى العميق.  هكذا الفلاسفة، وكذلك واضعوا النظريات والقوانين الأرضية، مهما بلغوا من اليقين فهم في منطقة الشك. يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، الذي انغمس في الفلسفة وانقلب عليها "الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال". روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: "جاء ناسٌ من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فسألوه: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان". في هذا الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الإيمان.

إذًا، لا يُمكن لأحد من البشرية أن يتخلص من مراحل التردد والتساؤل، دعونا نرى أكثر من ذلك "وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي"؛ وحتى لا نخوض بعيدًا في هذه الآيات، فالتفسير هو أن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) أراد أن ينتقل من اليقين العلمي إلى اليقين العيني، من علم اليقين إلى عين اليقين، يريد أن يرتوي من اليقين. أما المصطفى (صلى الله عليه وسلم) خاتم الآنبياء وسيدهم، الذي دنا من الله "ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى"، قال له الله عز وجل " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين"، فكان جوابه حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا أشك ولا أسال".

إذًا، مَن تخالجهم الشكوك وتتلجلج في صدورهم الأفكار، وخصوصًا عندما يكونون أصحاب قرار، قادة ومؤسسون وزعماء وحكماء وكتاب ومثقفون، تدعوهم الأفكار تحت ضغط الواقع وطول الأمد تحت الفتن للتنازل عن مبادئهم، تحت مبررات تتزين لهم خلال الطريق، ربما على شكل فتاوى تعب أصحابها، وربما نتيجة تركيز البحث عن مصالح الحزب أو إيثار السلامة للمجتمع من خلال الالتقاء مع العدو في منتصف الطريق والتبرير للحاكم أو الدفاع عن مستبد؛ كل هذا يمرون بهِ يوميًا، ولكنهم نوعان: نوع ينهزم أمام ما يخالج صدره ويميل ويركن دون أن يترك منصبه كقائد، وحتى لا يتهم يعمل على جرّ المنظومة إلى ما اتكأ عليه من أفكار جديدة، فينجح وترتكس المجموعة التي هو قائدها أو تحمي نفسها فتدحره المنظومة خارج القرار، ومنهم من يمنّ الله عليه بكرمه، فيريحه من هذا الصراع، فيعجل منيته قبل أن يُفتن، وتسلم سمعته ورمزيته وتسلم المجموعة. والنوع الثاني هم الذين يقفون على أرض صلبة، لا يتكئون على أفكار دنيوية، ولا يكلهم الله إلى أنفسهم طرفة عين أو أقل من ذلك.

 

قد يقول البعض "إنها الثوابت التي تحمي الإنسان"، أقول: لا ثوابت إلا ثوابت العقيدة ومعية الله في حفظها، لا أريد أن أذكر أسماء فقط من التاريخ الفلسطيني الحديث، ممّن هم رموز، حفظهم الله من لحظات انكسار، فجعلتهم رموزًا لولا فضل الله عليهم ما سمعنا بهم، وأما الأمثلة على المنكسرين فلا تعد ولا تحصى، كل يوم اسم جديد وقلم جديد يحط على قارعة الطريق أو يقفز معتقدًا بأن السفينة لن تعوم.

لماذا لا ثوابت سوى ثوابت العقيدة؟، لأنه حتى الأنبياء مَن حفظهم هو الله، ولأن ثوابتهم ليست اجتهادًا كأفكار لحماية علم أو تراب وطن وإصلاح اجتماعي؛ وانما دين وعبادة. عندما أخرِج النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة وقف بالحزورة في سوق مكة وقال: "واللَّه إنكِ لخير أرض اللَّه، وأحبّ أرض اللَّه إلى اللَّه، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"، أشد الحزن على قلبه لأنها خير أرض الله إلى الله، المحددات لأنها احب بلاد الله إلى الله ليست اجتهادًا ولا عاطفة وحنينًا لتراب، وإن وجدت فليست هي الأساس؛ بل عقيدة نزلت من  خارج الكون، ممّن لا تغيره الحوادث؛ ولا يتبدى له جديد ممّا كان خافيًا.

أعود إلى المنظومة التي تحافظ على نفسها، هي المنظومة التي غرست ثوابتها العقائدية في قلب الوعي الجمعي لأبنائها، وتتعايش مع النقد والتقويم الذاتي والوقوف بالمرصاد لكل من يركن شيئًا قليلًا، فهي ملاذ للقائد رغم أنه ظاهريًا قد يبدو أن القائد هو الملاذ لها، لكن القائد حقيقة يحتمي بعناصره من شيطانه الوسواس، هذا هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر، الذي أقسم الله عز وجل بالعصر، إن كل الإنسان لفي خسر إلا هؤلاء.

لا أتفاجأ عندما أسمع أحزابًا تسقط وأفكارًا تنهار ورموزًا تتهاوى، لأنه لم يتحقق لديها الشرطين؛ الأول: عقيدة منزلة من خارج الكون، والثاني: وعي جمعي تم بناؤه على أساس منظومة نقد وتقويم.

ومن هنا، مَن لم تكن فلسطين سورة قرأن تتلى في صدره؛ فلا فلسطين له، وسيبيعها إن لم تدركه المنية قبل توفر المشتري، ومن لم يكن سعيه وهجرته إلى الله فسيميل إلى ثقافة عدوه المتكئ على نصوص توراتية أرسخ من هذا المتأرجح، ويومًا ما سيتحول إلى قطب مكمل للمشروع الصهيوني  ضد مشروع شعبه، حتى لو زين لنفسه صحة مواقفه وسلامتها.

اللهم احفظ علينا ديننا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أو أقل من ذلك، وإن كنا سنفتن فاقبضنا إليك غير مفتونين.