خبر غـزة والإبـادة الجماعيـة ..فؤاد عبد المنعم رياض

الساعة 05:43 م|08 مارس 2009

لقد اتضح في ضوء ما توافر حتى الآن من معلومات أولية ارتكاب القوات الإسرائيلية لانتهاكات جسيمة في غزة ترقى ليس فقط إلى مرتبة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية فحسب بل لجريمة الإبادة الجماعية. وإذا كان الاهتمام قد اتجه من جانب الهيئات الدولية وكذلك الدول إلى السعي لإعادة إعمار غزة مما أصــابها من تدمير شامل، فإنه يتعين بداءة تحديد المسؤولين عن الانتهاكات التي تمت من جانب مرتكبيها وكذلك مسـؤولية دولة إسرائيل ذاتها باعتبارها المسؤولة عن أعمال قواتها المسلحة، ذلك أن إقامة سلام دائم وإعادة البناء تتطلبان إقرار العدالة كما نص مجلس الأمن صراحة عند إنشــائه أول محكمة جنائية لجرائم الحرب بمناسبة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة وذلك بنصه أن لا سلام بلا عدلNO PEACE WITHOUT JUSTICE والواقع أن أي حــلول لاقرار السلام ولإعادة البناء ستكون دائما عرضة للانهيار إذا لم يتحــقق أولاً ردع المعتدي ومنعه من مواصلة عدوانه. ويتــطلب التصدي لهذا الموضوع في تقديرنا الكشف عن الأبعاد الحقيقية لما ارتكب من انتهاكات وإعطاءه الوصف القانوني اللازم أن نضع في المقام الأول التكييف القانوني للانتهاكات التي ارتكبت، ثم تحديد المسؤولية المترتبة سواء تلك التي ارتكبها من جانب المسؤولين أو من جانب الدولة على ما تم من انتهاكات وأخيرًا تحديد الآليات المتاحة لملاحقة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.

ففي ما يتعلق بالانتهاكات التي ارتكبت فإن العمل لا يزال قائمًا كما هو معلوم لتقصي الحقائق من جانب الهيئات الدولية الرسمية منها والأهلية، فضلاً عن وسائل الإعلام المختلفة. ورغم أن عملية التقصي هذه ما زالت في بدايتها فإن كافة الشواهد تدل على أن الأسلحة الفتاكة التي تم استخدامها تحرمها المواثيق الدولية وتحتوي على مواد من شأنها القضاء على حياة الجماعة كما تؤدي إلى تخريب البيئة بشكل دائم وجعل الحياة غير ممكنة على المديين القريب والبعيد على حد سواء. وتدل الشواهد المتاحة ما يمكن أن نستخلص منه قيام القوات الإسرائيلية بارتكاب كافة فئات الانتهاكات الجسيمة المنصوص عليها في المواثيق الدولية سواء كانت من قبيل جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية بل إنها ترقى إلى ما يعرف بجريمة الجرائم وهي جريمة الإبادة الجماعية. ولا يمكن قبول الزعم ابتداء بأن ما ارتكبته القوات الإسرائيلية من انتهاكات كان من قبيل الدفاع الشرعي، ذلك أن قيام القوات الفلسطينية بتوجيه قذائف تستهدف قوات إسرائيل هو الذي يعد في واقع الأمر من قبيل الدفاع الشرعي ضد قوات الاحتلال وهو دفاع لا يدينه القانون الدولي باعتبار أن الاحتلال في ذاته وبناء المستوطنات يعدان جريمة من جرائم الحرب، ويسمحان للمعتدى عليه بالدفاع عن نفسه. هذا فضلاً أنه يتعين في جميع الحالات بما فيها الدفاع عن النفس مراعاة مبدأ التناسب proportionality بحيث لا يكون الرد على القذائف البدائية بقنابل من شأنها القضاء على سكان مدنيين والبنية التحتية واستخدام أسلحة من شأنها تلويث البيئة على نحو لا يسمح باستمرار الحياة مستقبلاً، هذا فضلاً عن الحصار الكامل الذي يمنع وصول الغذاء والدواء ووسائل الإنقاذ لسكان غزة. وإذا كان استهداف المدنيين والقتل الجماعي والعشوائي واستخدام أسلحة محرمة تشكل في حد ذاتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فإن إمعان النظر في الأبعاد الحقيقية في ما تم ارتكابه من استهداف الأطفال رغم معرفة مكان تواجدهم واستهداف الأحياء السكنية بشكل كامل بأسلحة تقضي على مظاهر الحياة تماماً وتجعل استمرار الحياة أمراً مستحيلاً يبيح وصف هذه الانتهاكات على أنها جريمة إبادة جماعية متوافرة الأركان، ذلك أن المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة إبادة الأجناس الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948 تنص على أن جريمة الإبادة الجماعية تعني أيا من الأفعال التالية المرتكبة بقـصد التدمير الكلي او الجزئي لجماعة قومية أو إثنــية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه: أـ قتل أعضاء من الجماعة، ب ـ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بـأعضاء من الجماعة، ج ـ إخضاع الجماعة عمدًا لظــروف معيشية بُراد بها التدمير المادي كليًا أو جزئيًا، د ـ فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجمــاعة. فما تم الكــشف عنه حتى الآن ما ارتكبته القوات الإسرائيلية من انتهاكات يندرج تحت كافة الفئات المشــار إليها في المواد السابقة من قتل جماعي للجماعة الفلسطــينية من سكان غزة ومن أذى جسدي وروحي خطــير لأعضــاء هذه الجماعة ومن خلق ظروف لا تسمح بحال من الأحوال باستــمرار الحـياة في هذا الإقلـيم أو في أجزاء عديــدة منه وكذلك استهداف الأطفال عنوة والمدنيين من النساء. ولا يجوز الاحتجاج بعــدم اتجاه النية صراحة إلى ارتكاب هذه الأفــعال بقصد الإبادة الجماعية إذ إن مثل هذه النية لا يتصور الكشف عنها صراحة بل لم يحدث أن اُعلن عنها في حالات سابقة من الإبادة الجماعية، بل إنها تكتشف من منهجية الممارسات المرتكبة وحتمية النتيجة التي تنجم منطقيًا عن هذه الممارسات وذلك ما حكمت به فعلاً المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة في حكمها الصادر عام 2001 بصدد الجرائم المتركبة في مدينة سربرينيتسيا بإقليم البوسنة.

وجدير بالذكر أن العديد من المؤرخين الجدد بإسرائيل لم يترددوا في تأكيد قيام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية مستندين في ذلك إلى الايديولوجية الصهيونية في ذاتها التي قامت على أساسها دولة إسرائيل، والتي أفصح عنها منذ نشأتها الرئيس بن غوريون وقت صدور قرار التقسيم الرقم 181 لسنة 1947، إذ قرر أن التطهير العرقي لإسرائيل من عرب فلسطين هو السبيل الوحيد لضمان الصفة اليهودية للدولة الناشئة.

ثانيا: تحديد المسؤولية:

أما في ما يتعلق بتحديد المسؤولية عن هذه الانتهاكات فإنها تقع من ناحية على الأطراف الذين ارتكبوا هذه الانتهاكات كما تقع على الدولة نفسها. أما في ما يتعلق بالأفراد الذين ارتكبوا هذه الانتهاكات فإن المسؤولية لا تنحصر في مرتكبي الجريمة ذاتها بل تمتد إلى القادة والرؤساء وفقاً للمبدأ المعروف بمسؤولية القادة command responsibility وعلى ذلك فإن الرئيس الأعلى الذي يملك من الناحية القانونية والفعلية السلطة القيادية الفعلية والقانونية يعد مسؤولاً عن كافة الانتهاكات التي يرتكبها كافة المرؤوسين ليس فقط إذا كانت هذه الانتهاكات قد تمت بناء على أوامره بل حتى إن تمت دون إصداره لهذه الأوامر وذلك تأسيسا على أن مركزه القيادي يعطيه السلطة في منع ارتكاب هذه الجرائم أو محاسبة من ارتكبها، إذا تمت دون علمه. وعلى ذلك فإن قيام السلطات الإسرائيلية بمحو كافة أسماء الضباط الذين شاركوا في ارتكاب تلك الانتهاكات لا يرفع المسؤولية عن القادة وكبار الرؤساء فهم معروفون. ومن ناحية أخرى فإن دولة إسرائيل نفسها تعد مسؤولة وفقًا للقانون الدولي عن كافة الانتهاكات المرتكبة من جانب أفراد قواتها المسلحة وبالتالي فهي مسؤولة عن تعويض كافة الأضرار الناجمة عن تلك الانتهاكات كما قضت بذلك محكمة العدل الدولية في العديد من أحكامها.

ثالثاً: الآليات:

أما في ما يتعلق بالآليات التي يمكن تفعيلها لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم فلعل أول ما يتبادر للذهن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة المنشأة بمقـتضي اتفاقية روما لسنة 1998، ومن المعلوم ما قام به فعلاً وزير العدل ووزير الخارجية بالسلطة الفلسطينية في الآونة الحالية ولا يخفى أن هذا السبيل تحيطه بعض العقبات التي لا يُمكن الجزم مقدمًا بإمكان تجاوزها وتتمثل في أن النظام الأساسي لهذه المحكمة يحدد اختصاصها بالجرائم التي ترتكب في إقليم دولة من الدول الأعضاء أو من افراد منتمين إلى إحدى الدول الأطراف بالاتفاقية. كذلك يجوز لمجلس الأمن إحالة النزاع على المدعي العام للمحكمة بالنسبة لأي انتهاكات يرى أنها تمس السلم والأمن الدوليين وفقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كذلك يجوز للمدعي العام من تلقاء نفسه فتح التحقيق على أساس معلومات بشأن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة. ولما كانت دولة إسرائيل وكذلك دولة فلسطين غير منضمتين لاتفاقية روما السالفة الذكر فإن الأمر ينحصر في اتجاهين ألا و هما اللجوء إلى مجلس الأمن للحصول على قرار منه بإحالة الدعوى على المدعي العام كما تم ذلك بالنسبة للجرائم المرتكبة في دارفور وهو أمر كما نعلم قد يحول دونه حق الاعتراض الذي يمارسه بعض الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن، ومن ناحية أخرى فقد يتسنى تقديم المعلومات اللازمة للمدعي العام كما فعــل ممثلو السلطة الفلسطينية على أمل قبول قيامه بالتحقيق في هذه الجرائم وهو أمر يثير تساؤلات مهمة لا تتوافر الإجابة عنها بعد. بيد أن الأمر لا يقتصر بحال من الأحوال على اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية إذ أصبح من المستقر الآن إمكان قيام محاكم أي دولة بمحاكمة مرتكبي مثل تلـك الجرائم ولو لم تكن قد ارتكبت بإقليمها ولم يتم ارتكابها أيضًا من قبل رعاياها وذلك تأسيسًا على المبدأ المعروف بالاختصاص القضــائي العالمي universal jurisidiction القائم على اعتبار هذه الجرائم جرائم دولية تمس آدمية الإنسان ومن ثم يحق لأي دولة أن تلاحق مرتكبيها.

وقد قامت العديد من الدول بإقرار هذا المبدا وتم بالفعل رفع العديد من الدعاوى حتى الآن أمامها. ولعل من الآليات التي لا يجدر بنا أن نغفلها القيام بمحاكمة شعبية شبيهة بتلك التي أقيمت بصدد جرائم الحرب المرتكبة في فيتنام ضد الرئيس الأميركي والقادة الأميركيين، ويتعين تشكيل هذه المحكمة من كبار رجال القضاء والقانون من دول محايدة وفي مكان محايد وقد ثبت أنه من شأن هذه المحاكمات تحقيق العديد من الأهداف: فرغم انها لا تؤدي إلى توقيع عقوبة جنائية على المتهمين فإنها تدينــهم أمام التــاريخ وتكشف عن بشاعة جرائمهم كما أنها تقدم ترضية معنوية هامة للضحايا الذين يشعرون بتضامن العالم معــهم ضد المعتدين، كذلك فإن تلك المحــاكمات تؤدي إلى إمكان توثيق كافة الأدلة والشــهادات التي يُخشى ضياعها بفــوات الوقت، ومثل هذا التوثيق أمر هام بالنــسبة للجرائم الدولية كما هو معلوم نظرًا لأن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. وجــدير بالذكر أن كافة أنواع الملاحقة الجنائية السابقة الذكر لا تحول دون مساءلة الدولة نفسها كذلك عن التعويض أمام القضاء الدولي عن كافة الأضرار المترتبة عن الجرائم المرتكبة من قبل قواتها المسلحة كما قضت بذلك محكمة العدل الدولية.

([) أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق، جامعة القاهرة ـ قاض بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب سابقًا

تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية