خبر اعتقال الرئيس.. والمؤامرة على السودان ..د. ليلى بيومي

الساعة 06:57 م|06 مارس 2009

مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في حق الرئيس السوداني عمر البشير، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور، بناءً على طلب المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو، تقدم به لقضاة المحكمة في 14 يوليو الماضي، لم تكن مُفَاجِئَةً للكثيرين من السودانيين والعرب، بل ولكثيرٍ من المراقبين الغربيين أنفسهم، وهي تفتح الباب واسعًا لكثير من القضايا والالتباسات والتعقيدات، بل والأزمات.

 

وهذه هي السابقة الأولى التي تصدر مثل هذه المذكرة في حَقِّ رئيس دولةٍ منذ تأسيس المحكمة عام 2002، الأمر الذي يطرح عشرات الأسئلة عن هذا التصميم والعِنَاد الغربي لاعتقال رئيس دولة عربية، بناءً على معلومات غير مؤكدة، ومستقاةٍ من حركات تمرد وانفصالٍ يرعاها الغرب لِغَرَضٍ في نفسه، في الوقت الذي شهد العالم كُلُّه على شاشات التلفاز دقيقة بدقيقة المجازر التي ارتكبها جنود وضباط وجنرالات وقادة إسرائيل السياسيون في غزة ضد المدنيين الأبرياء، وما تَرَتَّبَ على ذلك من قتل وإعاقات، وتدمير كامل للحياة في هذه المدينة، رأى أوكامبو هذا كُلَّهُ ولم يُحَرِّكْ ساكنًا، رغم أن العالم كله شهود، والجرائم موثقة، لكن للأسف القرار الغربي السري هو: لِتَفْعَلْ إسرائيل ما تريد، فلا حساب، أما أولئك الذين يتمردون على إرادتنا ولا يدورون في فلكنا، فسوف نواجههم بمختلف الأسلحة الممكنة، وها هو سلاحُ المحكمة الجنائية نستخدمه لأول مرة.

أدلة هزيلة ونية مبيتة

 

بَنَتِ المحكمة الدولية اتهامها للرئيس السوداني لاعتقادها بتورُّطِهِ في الحرب الأهلية في دارفور، والتي أدت منذ 2003 إلى مقتل أكثر من 300 ألف قتيل، ونزوح 2,2 مليون شخص. كما يؤكد أوكامبو أنّ لديه أكثرَ من 30 شاهدًا سيدلون بشهاداتهم لإثبات أن البشير نظم حملة إبادة جماعية تهدف لمحو ثلاث قبائل إفريقية في إقليم دارفور.

 

  الرئيس السوداني، ينفي هذه الاتهامات، ويقول: إن النزاع في دارفور أدّى إلى مقتل عشرة آلاف شخص فقط، من خلال اشتباكاتٍ توَرَّط فيها متمردون انفصاليون في هذا الإقليم.

 

 ويؤمن الرئيس البشير، ومعه الملايين من العرب والمسلمين، أن مشكلة دارفور صناعةٌ غربيةٌ، تقف وراءها الدوائر الاستعمارية التي لا تريد سلامًا ولا استقرارًا في السودان، وأن كل الضغوط التي يتعَرَّضُ لها السودان جاءتْ بسبب وقوفه إلى جانب المقاومة في فلسطين ولبنان، ومحافظته على استقلال القرار السياسي السوداني، رغم الضغوط الأمريكية والأوروبية.

 

ويرى البشير أيضًا أن قرار المحكمة ضد رمزِ السيادة الوطنية السودانية، سيُؤَدِّي إلى انهيار اتفاقيات السلام، التي كان المجتمع الدولي جزءًا منها، وينبغي ألا يساعد بصمته في إفشالها، كما أنه يَعْصِفُ بالوحدة الوطنية السودانية، ويُؤَثِّرُ على الاستقرار في القارة الإفريقية.

 

تحريض ودعم غربي

 

ما أعلنه خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة المتمردة في دارفور، بعد أيامٍ من توقيعه اتفاقًا مع الخرطوم في الدوحة، من استعداد حركته سياسيًّا وعسكريًّا لمواجهة الرئيس السوداني عمر البشير، ودعوته الشعب السوداني إلى القَبْضِ على البشير وتقديمه إلى المحكمة في لاهاي، وقوله: إن النظام في الخرطوم سيَفْقِدُ شرعيته في حال رفض، وتأكيده أنّ حركته تأخذ مأخذ الجد تهديداتِ مدير عام جهاز الأمن والمخابرات السوداني، الفريق أول صلاح عبد الله، التي أطلقها منذ أيام، بأن قوات الأمن ستقطع أيادي وأوصالَ كُلِّ من يتعاون ويؤيد المحكمة الجنائية الدولية.

 

 هذا الكلام في هذا التوقيت يعكس الدور الذي يقوم به الطرف الغربي للتحريض وإشعال النيران، وكان كثير من المراقبين يتوقعون ألّا تستمر المحادثات التي تمتْ في الدوحة في التقدم والنجاح؛ لإدراكهم بالأدوار السلبية الخفية التي تمارسها الدول الغربية في الخفاء لتحريض خليل إبراهيم وغيره.

 

قرار المحكمة الجنائية الدولية صدر بناءً على المادة (58) من النظام الأساسي للمحكمة، التي تُؤَكِّدُ أن صدور أمر القبض أو الاعتقال من حق الدائرة التمهيدية بعد التحقيق، وبناءً على طلب المدعي العام، إذا اقتنعتْ بعد فَحْصِ الطَّلَبِ والأدلة أو المعلومات، بوجود أسبابٍ معقولةٍ للاعتقاد بأنّ الشخص قد ارتكب جريمةً تدخل في اختصاص المحكمة، أو أنّ القبض على الشخص يبدو ضروريًّا لضمان حضوره أمام المحكمة، أو لضمان عدم قيامه بعرقلة التحقيق، أو إجراءات المحكمة، أو تعريضهما للخطر، أو لمنع الشخص من الاستمرار في ارتكاب تلك الجريمة.

 

احتمالات دولية وبدائل سودانية

وتريد المحكمة، طبقًا لقانونها، أنْ يسلم البشير نفسَهُ تلقائيا للمحكمة، أو أن يتم تسليمه من جانب السلطات السودانية، كما أنها ستخاطب دول العالم أجمع، خاصةً الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية، لكي تعملَ على تنفيذ القرار، وتقديم البشير للمحكمة، من خلال إلقاء القبض عليه في حال تواجده على أرضها؛ حيث ستقدم المحكمة طلبًا مشفوعًا بالمواد المؤيدة للقبض على البشير إلى دول العالم.

 

وفي حال تعذّر القبض على البشير، أو رفض تسليم نفسه، أو رفض السودان تسليمه، أو رفضت دول متعاطفة مع السودان القبض على البشير وتسليمه، فإن المحكمة، طبقًا لقانونها، ستُحِيلُ القرار تلقائيًّا إلى مجلس الأمن الدولي، على الرغم من عدم تبعيتها له، للبحث في كيفية تنفيذ القرار، وإرغام السودان على التعاون مع المحكمة، بما في ذلك إصدار قرارٍ بِمُوجِبِ الفصل السابع من الميثاق، يلزم سائر الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، ومن بينها السودان، بالتعاون لتنفيذ أمر الاعتقال.

 

بعض المراقبين يتحدَّثُون أن الأمر إذا وصل إلى مجلس الأمن، فإنه من الممكن حينها أن تتم تسوية معينة بين السودان والدول الغربية، عبر تفعيل المادة ‏16‏ من ميثاق روما، والتي تعطي لمجلس الأمن الحقَّ في إيقاف تحركات المحكمة تجاه السودان لمدة عامٍ قابل للتجديد، بدون حد أقصى لمرات هذا التجديد‏.

 

 لكن هذا الرأي ينقضه رأيٌ آخر يقول: إنه تمت اتصالات على أعلى مستوى بين العديد من الدول العربية والإفريقية للوصول إلى تسوية، ولكنها لم تنجح لِتَعَنُّتِ الدول الغربية، الأمر الذي يُؤَكِّدُ أن المطلوب غربيًّا هو إجبار الحكومة السودانية على تقديم تنازلات لم تكن تقبل بها من قبل‏، تَصُبُّ في إجبارها على قَبُول تسويةٍ سياسيةٍ تجعل ولايات دارفور الثلاث إقليمًا واحدًا بحكومة إقليمية، على غرار جنوب السودان، وأن تعطي صلاحياتٍ كبيرةً لهذه الحكومة، تَغُلُّ يدَ الحكومة القومية في الخرطوم‏,‏ وتضع مقدرات الإقليم في يد العناصر التي يقوم الغرب بإعدادها حاليًا.

 

 

 

التجزئة .. هدف الغرب الرئيسي

المخطط الغربي يبتغي من كل تفاصيل الأزمة الحالية، الوصولَ إلى سيناريو التجزئة لكل السودان، بحيث ينفصل الجنوب عن الشمال، ثم  ينفصل دارفور، ثم ينفصل كردفان، وهكذا تتم تجزئة السودان إلى أربعة كيانات، بعد أن كيان أكبرَ كيان جغرافي موحد في إفريقيا، تكرارًا لسيناريو تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم ضعيفة، بعد أن كان دولةً عربيةً مركزيةً قوية.

 

السيناريو الأسوأ المترتب على قرار مجلس الأمن لتنفيذ قرار المحكمة طبقًا للفصل السابع من الميثاق معروفٌ مسبقًا، وهو ما تريده تمامًا الولايات المتحدة والدول الغربية، وهو أن تَتَّجِه السفن الحربية، وحاملات الطائرات، إلى البحر الأحمر، قبالة السواحل السودانية؛ لبدء عملية عسكرية تنتهي باحتلال السودان، وإسقاط نظامه، على غِرَارِ ما حدث في العراق، ثم القبض على الرئيس البشير.

 

هذا السيناريو مطروحٌ، ولكنه مُسْتَبْعَدٌ في الوقت الحالي على الأقل، فالولايات المتحدة لم تبرأ من آلام وتداعيات وفواتير عدوانها على العراق، وما زالت دماء جنودها تنزف في أفغانستان، وهي بذلك لن تستطيع فتحَ جبهةٍ جديدةٍ في السودان، كما أن إدارة أوباما الجديدة لا ترغب في بدء عهدها بعملية غزو واحتلال، بعدما جاءت بديلًا لإدارة بوش العدوانية سيئةِ السمعة.

 

أما السيناريو الأقرب والسيئ أيضًا، فهو تشديد مجلس الأمن للحصار على السودان، وفرض العقوبات السياسية والاقتصادية على الخرطوم، وربما يكون منها حظر تصدير البترول، وبقاء الرئيس البشير رئيسًا غيرَ قادر على مغادرة بلاده، ولن يستطيع أن يُمَثِّلَ دولته على الساحة الدولية، أو الذهاب إلى مقر منظمة الأمم المتحدة، خشيةَ إلقاء القبض عليه، وستقرر العديد من دول العالم، خاصةً الدول الغربية، أو التي تدور في فلكها، والضعيفة والمتعاونة معها، وقْفَ التعامل مع نظامه، أو استقباله في أراضيها.

 

إذا حدث الحصار الخانق على السودان، في ظل تقصيرٍ عربِيٍّ عن مساعدته، وتَرْكِهِ يواجه مصيرَهُ وحيدًا، كما هو مُتَوَقَّعٌ، وكما حدث قبل ذلك مع الحصار السابق على السودان نفسه، وعلى ليبيا، وعلى العراق، فإنه سينعكس على الأوضاع الداخلية في السودان‏,‏ فالحركات المسلحة في دارفور سوف تنشط، معتبرةً ما حدث دعمًا عالميًّا لها، وستندفع آلتها الإعلامية هجومًا على نظام البشير، وسيؤدي ذلك إلى المزيد من تَعَنُّتِهَا وإلى أن ترفع سقف مطالبها إلى أبعد الحدود، هذا الارتباك الداخلي يمكن أن يؤدي إلى وقف العمل باتفاقية نيفاشا‏,‏ ومن ثَمَّ وقف العمل بحق تقرير المصير لجنوب السودان المقرر في عام‏2011,‏ وتأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والولائية المقررة هذا العام‏.

 

إذا زاد الضغط والحصار على السودان، فلن يكون استمرار وجود بعثة الأمم المتحدة وقواتها‏ مضمونًا,‏ وربما تم استهدافها عسكريًّا.

 

ما أعلنه المستشار في وزارة الحكم الاتحادي السودانية موسى هلال من قُدْرَتِهِ على تجهيز 30 ألف مقاتل من القبائل العربية التي ينتمي إليها حماية للبشير، يشير إلى أن النظام السوداني لن يقف مكتوف اليدين، وسيحاول تعظيم قدراته الذاتية، واستثارة الدول العربية والإفريقية للاصطفاف معه، ودعمه في مواجهة هذه العاصفة العاتية، لكنْ هل ستدعمه إفريقيا كما دعمت القذافي، وأجبرت الغرب على رفع الحصار عن ليبيا؟ وهل سيدعمه العرب، أم سيُسْلِمُونه للمجهول؟