خبر مشكـل لا تحلـه سـوى المعجـزة ..فهمي هويدي

الساعة 06:42 م|03 مارس 2009

ـ السفير 3/3/2009

احذر من التعجل في تقييم مؤتمر الحوار الفلسطيني، الذي شهدته القاهرة في نهاية الأسبوع الماضي، ليس فقط لأن نتائجه لم تتبلور بعد، ولكن أيضاً لأن ثمة شواهد تدل على أن المعروض على الجميع هو ذات «الفيلم» القديم بإخراج مختلف.

لا أريد إطفاء أنوار الفرح، ولكن ما جرى صبيحة اليوم الذي أعلن فيه بيان اتفاق الفصائل على إطلاق الحوار (الخميس 26/2) يقوم بـ «اللازم» في هذا الصدد. ذلك أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في رام الله ألقت القبض في نفس اليوم على 15 من أعضاء حماس بالضفة، وفصلت ستة من وظائفهم، وخلال الأيام التي استمرت فيها مشاورات القاهرة. ظلت الأجهزة تستدعي كل صباح أعدادا من أعضاء حماس للتحقيق معهم، وتستبقيهم طوال اليوم، ثم تصرفهم في المساء وتطلب منهم العودة لمواصلة التحقيق في اليوم التالي.

صحيح أن السلطة في رام الله أطلقت سراح 45 حمساوياً، من بين 400 تحتجزهم في سجونها، إلا أن استمرار الاعتقال والتنكيل أثناء اجتماعات القاهرة له رسالة يتعذر تجاهلها، تقول إن الموقف الجوهري قد يهدأ، لكنه لن يتغير.

هذه الإشارة إلى ما هو جوهري في المواقف تستدعي خلفية أخرى يتعين التذكير بها قبل أي دخول في التفاصيل، حتى نكون على بينة من أصل الخلاف وجذوره، والقوى والعناصر التي تتحكم في مساره. ذلك أننا نبسط الأمر كثيراً ـ هكذا قلت أكثر من مرة ـ إذا حصرنا الخلاف بين حركتي فتح وحماس، أو اعتبرناه صراعاً حول السلطة، لأنه في حقيقته خلاف حول المنهج يتجاوز الحركتين ويطرح نفسه بقوة في الساحة السياسية العربية، من حيث إنه تجسيد للانقسام بين نهجين، أحدهما التزم بالتسوية السياسية، والثاني انحاز إلى صف المقاومة، وهو ما دعا أحد المثقفين الفلسطينيين البارزين إلى القول إن الانقسام في الصف الفلسطيني لم يبدأ بنتائج انتخابات عام 2006، ولا بعد تولي حماس للسلطة في القطاع في منتصف عام 2007، بل بدأ مع توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 (الذي كان عرابه السيد أحمد قريع رئيس وفد فتح في لقاءات القاهرة الأخيرة).. منذ ذلك الحين اعتبرت المقاومة عقبة في طريق السلطة، التي نشأت بعد أوسلو، وظل الأمر تحت السيطرة، إلى أن أفرزت انتخابات عام 2006 سلطة جديدة منحازة إلى صف المقاومة، الأمر الذي أربك العملية واعترض المسار الذي كان مرسوما. لذلك ظل إقصاء تلك السلطة وعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات مطلبا ألحت عليه وتمسكت به كل القوى المنحازة إلى التسوية السياسية، فلسطينيا وعربيا. وهذا الإقصاء هو الهدف النهائي لكل المساجلات والمصادمات والحيل، التي تتابعت على المسرح الفلسطيني منذ عام 2006 وحتى هذه اللحظة.

هذا الموقف كان واضحاً وصريحاً أكثر من اللازم في مؤتمر المصالحة، الذي تمت الدعوة إليه في القاهرة خلال شهر نوفمبر الماضي، وبسببه فشل عقد المؤتمر وقتذاك. ذلك أن الورقة التي قدمت للمؤتمر، وكان مطلوباً التوقيع عليها قبل الدخول في أي تفاصيل، تضمنت ثغرات أساسية كان متعذرا تمريرها لأسباب عدة، إذ نصت مثلاً على أن تكون المقاومة في إطار «التوافق الوطني»، بمعنى موافقة الجميع مسبقاً عليها. كما نصت على أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية (حتى تلك التي تقوم بالتنسيق الأمني مع الإسرائيليين!) وحدها المخولة بمهمة الدفاع عن الوطن والمواطنين. وهو ما كان يعني إلغاء المقاومة من الناحية العملية، والانحياز بالكامل إلى خط التسوية السياسية.

هذه المرة اختلف الأمر من أوجه عدة، فمن ناحية كانت ظلال العدوان البشع على غزة ماثلة أمام الجميع، بما استعجبته من تعزيز لموقف المقاومة، وإحراج لدعاة التسوية السياسية. ومن ناحية ثانية فإن نتائج الانتخابات الإسرائيلية جاءت دالة على أن الأغلبية في إسرائيل ليست مستعدة لإقامة السلام مع الفلسطينيين. من ناحية ثالثة فإنه على صعيد الإجراءات، فإن «السيناريو» الذي وضع لترتيب الحوار جاء مختلفا. ففي جولة نوفمبر الماضي كان مطلوبا من ممثلي الفصائل أن يوقعوا في البداية على الورقة، التي حملت عنوان «المشروع الوطني الفلسطيني». وبعد التوقيع ينفض السامر، لتتولى خمس لجان مناقشة تفاصيل ملفات القضايا العالقة الخمس: المصالحة الوطنية ـ حكومة الوحدة الوطنية ـ إعادة بناء الأجهزة الأمنية ـ الانتخابات الرئاسية والتشريعية ـ إعادة بناء منظمة التحرير.

أما كيف اختلف السيناريو هذه المرة، فقد كان ذلك واضحاً في أن الجهة المصرية الداعية للحوار (المخابرات العامة) لم تقدم ورقة بخصوص موضوعاته ومبادئه، كما حدث في السابق، ولكنها قدمت أكثر من ورقة تتعلق بإجراءات الحوار وإطار عمل اللجان الخمس. وما لا يقل أهمية عن ذلك أن الترتيب المصري تخلى عن فكرة التوقيع أولاً ثم مناقشة التفاصيل، ولجأ إلى أسلوب آخر أفضل، إذ دعي وفدان من حركتي فتح وحماس للحوار أولاً، ثم دعي 11 فصيلاً آخر إضافة إلى ممثلين للمستقلين. وفي نهاية هذه المناقشات صدر البيان الخاص بتشكيل اللجان ومهامها والتوقيت الزمني لتلك المهام (تحدد يوم العاشر من مارس لبدء أعمال تلك اللجان، على أن تنتهي من مهامها خلال عشرة أيام).

الذين تابعوا المؤتمر الصحافي الذي بثه التلفزيون عقب انتهاء اجتماعات ممثلي فتح وحماس لابد أنهم لاحظوا أن أجواء ودية خيمت عليه. وحين سألت عن تفسير لاستمرار الاستدعاءات والاعتقالات لأعضاء حماس في رام الله أثناء انعقاد المؤتمر، قيل لي إن ثمة أطرافا نافذة في محيط السلطة ما زالت على موقفها المخاصم والرافض للمصالحة. مع ذلك فقد لمست من أجواء وفدي المباحثات أن ثمة إدراكا جيدا لحقيقة أن الظروف كلها لم تعد تحتمل استمرار الشقاق الذي ضاق به الفلسطينيون والعرب أجمعون، فممثلو فتح والسلطة المؤيدون للتسوية السياسية وجدوا أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية تشكل تحديا لكل مشروعهم، الذي لم يحقق شيئا في وجود الأقل تشددا، وكان عليهم أن يتوقعوا الأسوأ في ظل الحكومة الجديدة الأكثر تشدداً. وممثلو حماس جاءوا مهجوسين بنتائج العدوان على غزة، التي خرجت منها المقاومة في وضع أفضل، في حين دمر القطاع وأصبح في وضع أسوأ. صحيح أن صمود الناس كان عظيماً ومشرفاً، لكنهم دفعوا لقاء ذلك ثمناً باهظاً كان لا بد من السعي إلى التخفيف من آثاره بكل السبل. كان ذلك واضحاً مثلاً في موقف ممثلي حماس في مسألة معتقليهم في الضفة إذ في حين أنهم تمسكوا في جولة نوفمبر الماضي بإطلاق سراح أولئك المعتقلين كشرط لتهيئة الأجواء لإجراء المصالحة، فإنهم هذه المرة قبلوا بفكرة الإفراج التدريجي عنهم. وقال لي أحدهم إن قيادة الحركة رأت في الظروف الحالية أنها يجب ألا ترهن المصالحة وتعلقها على شأن يخص أعضاءها. وحين وجدت أنها مخيرة بين وضعين، أحدهما سيئ والآخر أسوأ، فاختارت الأول وقبلت بالتمهل في تصفية ملف المعتقلين، تجنباً لانفراط المصالحة والإعمار، وهو الاحتمال الأسوأ. ومن العوامل التي أسهمت في عدم تمسكهم بشرط إطلاق سراح الجميع أن السيد أحمد قريع قال أثناء مناقشة الموضوع إن ملف المعتقلين ليس كله بيد السلطة، لأن إسرائيل طرف فيه. ذلك أن عدداً غير قليل من المعتقلين تم احتجازهم من جانب السلطة تنفيذاً لالتزامها بخريطة الطريق (2003)، التي نصت في مرحلتها الأولى على قيام الجهاز الأمني الفلسطيني بوقف «العنف والإرهاب»، و«اعتقال وتوقيف وشل حركة الأشخاص والجماعات التي تخطط لمقاومة إسرائيل في أى مكان». (بالمقابل كان على إسرائيل أن توقف الاستيطان لكنها لم تفعل).

أهم صورة فوتوغرافية للربع الأول من العام كانت لممثلي الفصائل الفلسطينية الثلاثة عشر، وقد جلسوا حول طاولة مديدة توسطت قاعة مهيبة في مبنى المخابرات العامة، في حين تصدر الاجتماع الوزير عمر سليمان رئيس الجهاز. ذلك أن الصورة التي بثت على الملأ وجهت ثلاث رسائل على الأقل: الأولى شخصية ردت له الاعتبار بعد فشل مؤتمر المصالحة الأول. والثانية: تقول للجميع إن القاهرة وحدها القادرة على ترتيب وإطلاق المصالحة الفلسطينية، وأن الذين حاولوا التحرك بعيداً عنها لم يجدوا مفراً من العودة إليها في نهاية المطاف. بالتالي فهي قادرة على القيام بما لم تستطع أن يقوم به اتفاق مكة أو صنعاء أو جهود الدوحة أو الوساطة التركية. الرسالة الثالثة وجهت إلى إسرائيل التي تراجعت عن اتفاق التهدئة لأسبابها الانتخابية، متصورة أن ذلك يوسع من خيارات الحكومة الجديدة إزاء القطاع، وهي تعلم أن التهدئة كانت مقدمة للمصالحة بتداعياتها الأخرى. وأرادت مصر بترتيب الاجتماع أن تبلغ القادة الإسرائيليين بأنها قادرة على المضي في المصالحة بدون تهدئة.

ثمة رسالة رابعة وجهها السيد عمر سليمان في كلمته أمام الفصائل، حين غمز في قناة حماس والجهاد، قائلا: إن مؤتمر المصالحة الأول لم ينعقد بسبب عدم توافر الإرادة لدى البعض، (لم يكن ذلك هو السبب الحقيقي كما ذكرنا) وحين دعا إلى اتخاذ قرار الفصائل (بشكل مستقل بعيدا عن التوازنات الإقليمية)، مشيرا بشكل ضمني إلى دور إيران في مساندة حماس. ومتغاضيا عن الجهات التي تدعم الطرف الآخر، والتدخلات الدولية المفتوحة في مختلف عناوين الملف الفلسطيني. وهي رسالة جاءت دالة على أن القاهرة ما زالت على موقفها المسجل في ورقة «برنامج العمل الوطني الفلسطيني»، التي أعدتها لمؤتمر المصالحة الأول.

الآتي المتمثل في مهام اللجان الخمس، بعضه مقدور عليه، وبعضه يتعذر إنجازه، فالمصالحة إذا تمثلت في وقف الحملات الإعلامية والإفراج عن المعتقلين بصورة تدريجية، ورفع الحظر عن الجمعيات، التي تم إغلاقها، فإن ذلك يظل في حدود الممكن. ولا أظن أنه ستكون هناك مشكلة كبيرة في الاتفاق على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في يناير عام 2010، وأشك كثيراً في أنه يمكن أن يتحقق شيء في إعادة بناء منظمة التحرير، وهي المسألة التي اتفق عليها في مؤتمر القاهرة عام 2005، ولكن السيد أبو مازن رفض أن يتخذ أي خطوة بخصوصها. وأظنه لن يغير موقفه، بعدما أصبحت مفاتيح المنظمة في يد السلطة.

أما القضية التي يمكن أن تفجر الموقف وتعيده إلى نقطة الصفر فهي مسألة حكومة الوحدة الوطنية، التي سيظل تشكيلها والاتفاق على برنامجها من المستحيلات إذا استمر الإصرار على إقصاء حماس منها، في ظل حصولها على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي. أما إذا تواجدت فيها فإن ذلك سيؤدي إلى إفساد الفيلم كله، الذي يراد به في النهاية إقصاؤها وإخراجها من المشهد السياسي. علما بأن تشكيل الحكومة ضروري للشروع في إعادة بناء الأجهزة الأمنية ولإعادة الإعمار في القطاع.

إن الخرائط الراهنة لا تسمح بحل ذلك المشكل المركب، إلا في حالة واحدة هي أن تهبط علينا معجزة من حيث لا نحتسب.